الدستور الجديد وحدود المقاربة القانونجية
|بقلم: حمزة عمر
نستعدّ في نهاية هذا الشهر للتصويت على دستور جديد للبلاد. تحلّ هذه الوثيقة محلّ دستور فتيّ لم يتجاوز عمره ثماني سنوات لكن قال لنا أولو الأمر الجدد أنّه سبب كلّ المصائب والبلايا، وأنّ معوّضه سيكون فتحا جديدا لم يسبق له مثيل، وسيحلّ كلّ مشاكل البلاد. ألم نسمع السيّد العميد الصادق بلعيد يصرّح للإعلام أنّ مشروع الدستور- ولأوّل مرّة في تاريخ الدساتير- سيخصّص بابه الأوّل للرؤية الاقتصادية والاجتماعية؟ وكأنّ مشاكل البلاد على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي ستحلّ بمجرّد دسترتها!
رغم محاولات الإيهام بالتجديد، ليست هذه الرؤية في الحقيقة إلّا مواصلة للتمشّي الّذي سرنا عليه منذ العام الأوّل للثورة. في فيفري 2013، نظّمت جمعية تونس الفتاة لقاء بعنوان “هل سرق رجال القانون الثورة؟” نوقشت خلاله فكرة مفادها أنّ التركيز الشديد آنذاك على عمل المجلس الوطني التأسيسي لوضع دستور للبلاد يسحب البساط من زوايا نظر أخرى شديدة الأهمّية لتغيير وضع البلاد، ويختصر النقاش في مسائل قانونية تقنية تُقدّم للنقاش العام وكأنّها مصيريّة وحاسمة.
هل أنّ تغيير المنظومة القانونية مهمّ لتغيير وضع البلاد؟ نعم، لا شكّ في ذلك، لكنّه لا يكفي بمفرده، لا سيّما إذا لم يبن على قراءة عميقة للمجتمع تستشرف ما سيحدث أثناء الممارسة، وهذا ما نقع فيه دائما. من دون فهم دقيق للجوانب الاجتماعية والنفسية الّتي تحرّك أفراد المجتمع التونسي، ومن دون فهم للاتّجاهات السياسية والفلسفية والدينية الّتي تؤثّر فيه، ومن دون فهم للعوامل الاقتصادية والطبقية المساهمة في تحديد واقعه، من دون ذلك كلّه نحن نكتفي بإسقاط رؤى جاهزة ومقولبة عليه، والمثير للسخرية أنّنا ندهش بعد ذلك حين يفشل.
لنأخذ مثلا دستور 2014 الّذي ننوي إعدامه الآن. إن قرئ كوثيقة بمعزل عن واقعه، لا أظنّ أنّه كان بهذه الدرجة من السوء. وإن لم نذهب إلى قول البعض أنّه “أحسن دستور في العالم”، فإنّه يضمن عددا كبيرا من الحقوق والحريات ويقيم ضوابط صارمة للحدّ منها ويكرّس توازنا بين السلطتين التشريعية والتنفيذية (وحتّى إن كان التوازن مختلا بعض الشيء كان بالإمكان تعديله ببساطة دون التضحية بكامل النص) ويضع هيئات مستقلّة من المفروض نظريا أنّها تمارس عملها دون إمكان للتدخّل فيه، كما يمنح استقلالية وظيفية للسلطة القضائية ولا يعتبرها مجرّد وظيفة. كلّ ذلك جيّد، أين كان الخلل يكمن إذن؟ هو قطعا في أنّ النصّ لم يقرأ حساب الممارسة السياسية في التحايل عليه. في أوّل انتخابات تشريعية إثر المصادقة على الدستور، تشكّلت أغلبية برلمانية من أحزاب من المفروض أنّها متناقضة إيديولوجيا توافقت، ضمنيّا على الأقلّ، على عدم تفعيل جزء من الدستور وعلى الخصوص عدم تنصيب المحكمة الدستورية. أمّا إثر انتخابات 2019، فقد بلغ تعقيد التركيبة السياسية للبرلمان وأثره على تشكيل الحكومة حدّا أجزم أنّه لم يخطر قطّ بخلد الآباء المؤسسين، أضف إلى ذلك ممارسات تكاد تكون سريالية كرفض رئيس الجمهورية أداء الوزراء الجدد اليمين أمامه، وهي حالة فريدة من نوعها ولا حلّ لها في غياب محكمة دستورية.
هناك أمثلة شهيرة في تواريخ الأمم تسلّط الضوء على العلاقة الجدلية بين القانون وممارسته. عندما وصل النازيون إلى الحكم في ألمانيا، لم يقع إلغاء العمل بدستور فايمار لسنة 1919 ذي الطابع التحرّري وظلّ، على الورق، نافذا إلى حدود 1945 رغم أنّه كان يُخرق في كلّ يوم ألف مرّة. في المقابل، ليس لبريطانيا دستور مكتوب، ومع ذلك، حدّدت الممارسة على مدى أكثر من قرنين بشكل دقيق مختلف أوجه العلاقة بين السلط على نحو يجعل من المستحيل على أيّ قوّة سياسية في البلاد أن تفكّر في مخالفته.
تتعدّد الأمثلة على وضعيّات تتحدّى فيها الممارسة النصوص القانونية. ينطبق ذلك حتّى على ما نعتبره نجاحات تشريعية باهرة، وأبرزها مجلّة الأحوال الشخصية. لا شكّ أنّ إلغاء تعدّد الزوجات في 1956 كان قرارا ثوريا، لكن هل منع استمرار التعدّد بأشكال أخرى؟ يُثبت لنا المسلسل الرمضاني “براءة” أنّ تواطؤ الزوجة الأولى يكفي لجعل التعدّد أمرا واقعا، وحتّى تبعاته، في شأن ميراث الأبناء مثلا، يمكن التحايل عليها بالوصية وغيرها. ذلك أنّه ما دام جزء كبير من المجتمع غير مقتنع بالقانون الوضعي، ومؤمنا بأولوية الشرع عليه، فسيمكن له ابتكار ما شاء من الحلول لينفّذ ما يراه منسجما مع قناعاته.
حتّى الأمور الّتي تعتبر السلطة إقرارها انفتاحا لا مثيل له ودفعا لقاطرة التنمية تضحي فاقدة للمعنى إذا لم تصحبها ممارسة في نفس الاتّجاه. ينطبق ذلك مثلا على الإجراءات المتعلّقة بإلغاء التراخيص وتعويضها بكرّاسات شروط. إذا كانت لأعوان المراقبة سلطة كبيرة لكي يتعلّلوا بأيّ شيء يعتبرونه مخالفة لكرّاسات الشروط لفرض هيمنتهم (كإدارة وكذلك كأفراد متنفذين) على أصحاب المشاريع، يضحي وجود الإجراء كعدمه. ينطبق نفس الأمر كذلك على إحداث الجمعيات. من المفروض أنّ المرسوم 88 لسنة 2011 جعل منه خاضعا لنظام الإعلام لا الترخيص. لكن إذا كانت الإدارة تتعلّل بعدم موافقتها على أحد أهداف الجمعية أو حتى على تسميتها لرفض نشر إعلان تأسيسها بالرائد الرسمي، فأيّ فرق بين النظامين؟
في كتابه “يوميات نائب في الأرياف”، يسخر توفيق الحكيم من تلك النظرة الّتي تريد أن تطبّق قانون نابوليون على أرياف مصر الغارقة في البؤس والأميّة في ثلاثينات القرن الماضي. لا يبعد ذلك كثيرا عن نظرة دولة لها نصوص شديدة التقدّم فيما يخصّ الإدارة الرقمية، في حين أنّ لها موظّفين لا يجيدون استخدام الحاسوب وفي حين أنّه لا يكاد مواطن يقصد أيّ إدارة في خدمة ما لا “يفاجأ” أنّ “الريزو طايح”.
إنّ وضع النصوص القانونية بشكل معزول عن واقعها وعن الطرق الّتي ستقع بها الممارسة ليس أكثر من بناء قصور في الهواء. لا شكّ أنّ ذلك ينطبق كذلك على مشروع الدستور الجديد (بغضّ النظر عن محتواه) الّذي قد لا يُكتب له عمر أطول من سابقه بما أنّه كان نابعا عن رؤية أحادية جامدة لم يقع نقاشها إلّا بطريقة شكلية ومبتورة للغاية، ولعلّنا سنعود بعد مدّة قصيرة لنناقش مشروع دستور جديد. هذا النمط من الإسهال الدستوري والتشريعي لن يؤدّي إلّا لمزيد إثقال المنظومة القانونية دون نتائج تذكر. لا جدوى من تغيير منظومة قانونية إذا كان المعنيون بتطبيقها (وهم هنا عموم المواطنين) غير مقتنعين بها. أمّا عن تغيير الممارسة، فسبيله في غير النصوص.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 17، جويلية 2022، ص. ص. 4-5.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf17.tounesaf.org