لماذا فشلت انتفاضة علي بن غذاهم؟

المصدر: realites.com.tn

 

بقلم: فهمي رمضاني

لم يكُن القرن التاسع عشر “قرن توالي الأهوال فقط على إيالة ضعيفة حسّا ومعنى” مثلما ذكر ابن أبي الضياف في إتحافه بل كان أيضا فترة حُبلى بالتطوّرات والتحولات والانتفاضات والتحركات التي قادتها طبقات شعبية مُهمّشة رأت أن الدولة قد أصبحت فوق المجتمع.

 ولئن ازدادت التحديّات الخارجية المُرتبطة بالتدخّل الأجنبي والتوسّع الاستعماري مُهددّة بذلك الشؤون السياسية والاقتصادية للإيالة، فإنّ احتداد التناقضات بين السلطة والمجتمع وتأزّم الأوضاع الاقتصادية والمالية أدى إلى تفجّر انتفاضة 1864 التي قادها “رجل من عرش ماجر قال لقومه لا خلاص لكم من ثقل هذا الحمل إلا إذا جمع الله كلمتكم على الامتناع 1“.

 في هذا السياق، تُمثّل انتفاضة علي بن غذاهم أهمّ أزمة خلخلت أركان الدّولة الحُسينية خلال القرن التاسع عشر، إذ كادت أن تُقوّض النظام السياسي بالبلاد وتعصف بمُلك محمد الصادق باي. وقد انطلقت في البداية كتحرّك قبائلي رافض لمضاعفة ضريبة “المجبى” لتصبح فيما بعد انتفاضة عارمة شملت مختلف أنحاء البلاد باستثناء الحاضرة تونس.

وعلى الرغم من أهمية هذه الانتفاضة التي كادت أن تكون مدخلا لعصر جديد، إلا أنّها فشلت في النهاية شأنها شان عديد الانتفاضات التي عرفتها البلاد في العصر الحديث حيث اقتيد “باي الشعب” في النهاية مغلولا في السلاسل لينتهي به الأمر في غياهب سجون باردو بعد عمليات تعذيب قاسية.

لقد قاد هذا التحرك فاعلون اجتماعيون صامتون هبّوا من كل أنحاء الإيالة لمقارعة السلطة غالبا ما تذكرهم كتب التاريخ بنعوت تحقيرية لذلك سنحاول في هذا المقال إعادة كتابة التاريخ من أسفل واستجلاء أهم الأسباب التي أدّت الى انتكاس انتفاضة 1864 وتعطّل إرهاصات بناء مجتمع جديد.

السياق التاريخي

لا يُمكننا أن نفهم الأحداث الكُبرى في التاريخ بدون العودة إلى السياقات التاريخية “فليس المُهم الحدث بل ما وراء الحدث” لذلك لا بدّ من العودة إلى أهم المُستجدات الخارجية التي كان لها تأثير كبير على العالم الإسلامي عامة والبلاد التونسية خاصّة دون أن ننسى خصائص الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي ميّزت الإيالة التونسية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر: فعلى المستوى الخارجي، ازداد التدخّل الاستعماري في الشؤون الاقتصادية التُونسية، فبعد احتلالها للجزائر سنة 1830، فرضت فرنسا على تونس مُعاهدة تجارية أجبرتها على إلغاء احتكارها للتصدير والسماح للتجار الأجانب بالتوريد والتصدير بمعاليم جمركية محدودة جدا، الأمر الذي أدّى إلى توسّع النُفود الرأسمالي الأوروبي في البلاد التونسية وإغراق السوق المحلية بالبضائع الأوربية وتعمّق التبادل غير المتكافئ في ظّل وجود نظم إنتاج متخلّفة ما قبل رأسمالية.

أمّا على المستوى الداخلي، فقد تميّزت سياسة البايات بإطلاقية الحكم والفساد المالي، فقد بلغت ثروة محمد الصادق باي الذي حكم بين 1859 و1882 حوالي 20 مليون ريال أي أكثر من ميزانية البلاد التي كانت لا تتجاوز 15 مليون ريال. هذا بالإضافة إلى كثرة عمليات اختلاس الأموال التي قام بها مُوظفّون بالدّولة: فقد غادر محمود بن عياد في 1852 إلى فرنسا حاملا معه 80 مليون ريال وفي 1864 فرّ القائد نسيم شمامة مصطحبا معه 20 مليون ريال، دون أن ننسى القُروض التي تمّ نهبها من قبل الوزير الأكبر مصطفى خزندار أو العائلة الحاكمة.

وقد أدّى هذا كلّه إلى احتداد التناقض بين المجتمع والسلطة واتساع الهُوّة بينهما خاصّة وأنّ أوضاع الطبقات الشعبية قد ساءت كثيرا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد أُفلس الحرفيّون والفلاّحون وانتشرت البطالة وعمّ الفقر جميع مُدن الإيالة. بيد أن الأمر الذي عمّق مأساة الطبقات الشعبية، يتمثل في النظام الجبائي الثقيل والمُجحف الذي ترى فيه السلطة “خضدا لشوكة العُربان وكبحهم عن العصيان2“. لذلك تعددّت الجبايات والضرائب والمُكوس التي تمّ فرضها في كل المجالات، فمنذ 1840 أقرّ أحمد باي ضريبة “القانون” وهو أداء على الزياتين يُؤديّه الفلاحون بالساحل. أما في 1850 فقد ارتفعت ضريبة العُشر المُوظّفة على الحبوب، في حين فرض الباي في جويلية 1856 ضريبة جديدة تتمثّل في ضريبة “المجبى” وهي ضريبة شخصية تبلغ 36 ريال وتشمل كل الراشدين باستثناء سكان تونس والقيروان وسوسة والمنستير وصفاقس. وكان القيّاد لا يأخذون هذه الضريبة من الراشدين فقط بل أيضا على الأطفال وحتّى على الأموات في الكثير من الأحيان، بيد أن مضاعفة هذه الضريبة من قبل محمد الصادق باي الذي قال عنه ابن أبي الضياف أنه يظنّ أنّه ” ينظر بنور الله فما يظهر له هو السداد والصلاح3” لتصبح 72 ريالا سيكون إيذانا باندلاع غضب عارم شمل معظم أنحاء الإيالة سرعان ما تحوّل الى انتفاضة.

أهم أسباب فشل انتفاضة علي بن غذاهم

انطلقت شرارة الانتفاضة في أول مارس 1864 عندما بادرت قبيلة بني زيد في عمالة الأعراض (قابس) برفض أداء المجبى التي تمت مضاعفتها إلى 72 ريالا. وقد عمل علي بن غذاهم وهو فلاح من ماجر على توحيد كلمة قبيلتي ماجر والفراشيش، كما دعا إلى وحدة القبائل ورفض المجبى، لذلك رفعت القبائل المنتفضة شعار ” لا للمجبى بعد اليوم” و”يسقط الباي”. وقد انتشرت الانتفاضة في كامل البلاد باستثناء الحاضرة تونس مُهدّدة بذلك السلطة القائمة خاصة إثر توحّد أغلب القبائل واتفاقها على رفض المجبى. بيد أنه وعلى الرغم من أهمية انتفاضة علي بن غذاهم فإنها فشلت في النهاية في تغيير الأوضاع وإمكانية بناء أفق جديد للإيالة التونسية. فماهي أهمّ الأسباب التي أدت إلى فشل هذا التمرّد؟

تتميّز الإيالة التونسية في القرن التاسع عشر بغلبة الرابطة القبلية والعصبية على الانتماء الوطني الذي كان هلاميا أو هو بصدد التشكّل، هذا بالإضافة إلى وجود أنمطة إنتاج عتيقة ما قبل رأسمالية مثل نمط إنتاج المخامسي ونمط الإنتاج الإتاوي أسهمت في تخلّف الاقتصاد وركود علاقات الإنتاج دون أن ننسى الضعف الديمغرافي الرهيب الناتج عن الأوبئة الدوريّة. لذلك فإن فشل انتفاضة 1864 يعود في جانب أوّل إلى هذا التكوين التاريخي والسوسيولوجي الذي يميز العلاقات بين الأفراد فوجود الخلافات القبلية مثل الخلاف الباشي الحسيني الذي قسّم البلاد خلال الحرب الأهلية في منتصف القرن الثامن عشر هذا بالإضافة إلى انتشار العصبية القبلية وعلاقات الولاء القائمة على التضامن العضوي أدّى بسرعة إلى تقسيم الصفوف وانفراط الوحدة. لذلك عمل الباي على إحياء الصراعات القبلية والخلافات التاريخية وبمجرد نجاحه انخرم التضامن وعادت القبائل إلى ولائها العصبي.

ومن المُؤكّد أن ضُعف الوعي الوطني وتغلغل الرّوح القبلية يحيلنا إلى أزمة أخرى متعلقة أساسًا بضعف الصلة بين المدينة والبوادي، فقد كانت هناك شبه قطيعة بين ما يجري في الأرياف وما يجري في المدن نتيجة انعدام الروابط التي تكفل الاندماج والتكامل بين عالم الحضر وعالم “العربان” مثلما تذكر بعض المصادر التاريخية. فابن أبي الضياف مثلا يحتقر “العربان” اللذين اعتبرهم مجموعة من “الرعاع” و”السفهاء”. وقد ترسّخت هذه القطيعة منذ الهجرة الهلالية التي عمّقت الشرخ بين المدن والأرياف ثم خلال العهد الحفصي حيث أصبح التطوّر الاجتماعي الثقافي منحصرا فقط داخل المدن.

من جهة أخرى، فمن الأهميّة بمكان عند دراسة الانتفاضات والثورات الانتباه للقوى المُحرّكة وخاصة الطبقة التي قادت التحرّك: ففي انتفاضة 1864 نجد أن أهمّ طبقة محرّكة للأحداث كانت طبقة الفلاحين والعمال والخمّاسة وهي فئة لديها وعي عتيق ما قبل رأسمالي وضعيفة من الناحية العددية. لذلك كانت هذه الطبقة غير قادرة على بناء أفق جديد أو افتكاك السلطة وتغيير الأوضاع إذ تمثل هدفها في الاقتصار على التخلي على ضريبة المجبى وإبطال العمل بالدستور. ألم تطالب الجماهير بالعودة إلى الشريعة والتخلي عن الدستور والتنظيمات؟ ألا يعكس ذلك تمسّك المجتمعات التقليدية بالقوالب القديمة؟

 فضلا عن ذلك، فقد كانت هذه الطبقة خاضعة لعلاقات الانتاج الاقطاعية أو المخامسية الأمر الذي يُؤكّد افتقارهم لبرنامج ثوري واضح وأهداف محدّدة بدقة وتكتيك يعمل على تجنيد الجماهير وتعبئتها للانتقال لبلوغ الأهداف. لذلك سيطر طابع العفوية وضعف التنظيم، فقد كانت الحركة مُشتّتة ومُجزأة وغير قادرة على بناء تحالف قوي ومتماسك. في هذا الإطار يعتبر الهادي التيمومي أن فشل انتفاضة علي بن غذاهم هو انتصار لشخصية التاجر البحّار الصانع الرئيسي لتاريخ البلاد والمُحرّك لدينامية التطوّر بفضل نشاطه التجاري على الفلاّح الثائر الذي يبادر دائما بالانتفاضة والثورة ولكن يفشل في النهاية لأنّه تعوزه الخبرة والتكتيك على الرغم من أنه شجاع ومقدام.

أما على المستوى الخارجي، فقد أدّى دعم الدول الاستعمارية الأوربية والإمبراطورية العثمانية لنظام الباي إلى قمع الانتفاضة وفشلها، فقد تحرّكت الدول الأوروبية وقرّرت توجيه قطع من أساطيلها إلى تونس بدعوى حماية رعاياها ومصالحها حيث وصلت في 21 أفريل 1864 إلى المياه التونسية بارجة بريطانية لحقتها سفن حربية فرنسية حلت بحلق الوادي. وهكذا وجد الباي نفسه محاطا بدعم أوروبي وعثماني في نفس الوقت.

حينما انتهت انتفاضة علي بن غذاهم في جويلية 1864 سلّطت حكومة الباي على الثوار وعلى السكان كابوسا من الزجر بلغ درجة من الفظاعة جعل قناصل الدول الأوروبية يقدمون استنكاراتهم المتتالية. فقد نكّلت محلة الجنرال رستم بالشمال الغربي حيث تمّ فرض المغارم ومصادرة الأملاك وإرسال الأسرى إلى العاصمة مُكبّلين بالأغلال ليموتوا موتا بطيئا تحت سياط الجلادين. أما في الساحل فقد نشر الجنرال زروق موجة من الرعب والفزع في النفوس بقيت خالدة في المخيال الجمعي، فقد كان يأمر بشنق الثوّار وسلب الأموال وقتل النساء والأطفال وقد تمكّن من جمع 25 مليون ريال من سوسة والمنستير والمهدية فقط. ومكافأة لزروق على أعماله الشنيعة، عيّنه الباي في فيفري 1865 عاملا على سوسة والمنستير ليخيّم على الساحل كابوس من الرعب والفزع. وبحلول سنة 1867 -السنة الشهباء- ستتأزم الأوضاع أكثر لتبلغ درجة غير متوقعة من السوء فقد استفحلت الأوبئة وانتشرت ظاهرة أكل لحوم البشر وعمّ الفقر والجوع جُلّ الأنحاء إلى أن تنفرج الأوضاع نسبيا مع تولّي خير الدين للوزارة الكبرى بين 1873 و1877.

 

الهوامش

1و2و3: ابن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، الجزء الخامس، وزارة الثقافة، تونس، 1996.

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد السابع، سبتمبر 2021، ص. ص. 6-8

للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf7

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights