هل نعبد إلها أصمّ ؟
|أتذكر ذلك الشاب… سأحدثكم عنه. الشاب ينصت والشيخ المتكاثر في أيامنا ويتكاثر في خبز يومنا وفي أوقات متعتنا وفي فسحات عربدتنا وخشوعنا وسكرنا وصحونا يبث في نفسه روح الحماسة. يزلزل المكان بصوت من الغضب والعدل وزجر الظلم. الشاب يخفق قلبه. يريد أن يكون بطلاً. يحلم بالحورية. يريد أن يشعر بأن حياته لها قيمة بعد أن زهد فيها وطنه…ومجتمعه. هو لم يكمل الدراسة. ليس من عائلة غنية. لا يملك أي واسطة ليجد عملا. أصابه “القرف” من حاله وصار مشغولاً بالسياسة ويخطر على قلبه الجهاد…. لا يفكر بحياته الرخيصة… يريد أن يحقق العدل… يريد أن يشعر بأنه رجل في زمن تغيرت فيه مقومات الرجولة… يشاهد صور اغتصاب النساء في البلد القريب منه…صور قتل الأطفال…صور الجثث المتراصة بجانب بعضها وكأنها أكياس أرز للفقراء… يصرخ: أين السلاح ؟ أريد سلاحا ! من سيذهب معي ؟ من أين سأذهب ؟ لماذا لا يوجد قائد يخبرني بخطة ما ؟ أريد مالا لأشتري عتاد المعركة. يا الله ماذا أفعل ؟؟ ويكتفي بالدعاء وينام ويأتي في أحلامه رجل يقول له : ماذا بذلتم أنتم ليستجيب الله لكم ؟
ماذا بذلنا نحن ليستجيب الله لنا ؟؟ نحن تجاهلنا بأننا ضباع أُمّة محافظة. دون شك هي محافظة. تحافظ على الصلح الدائم مع الهوان، تحافظ على رائحة الموت في ابتساماتنا، في وشوشات حكايانا، في قصص حبنا وجينات أسرارنا…نحن جراء أُمّة تحافظ على عجزها الذي لم تنجح سوى في التعبير عنه، وفي البكاء المتواصل عنه، تحافظ على النحيب على أطلالها المتبعثرة تحت أقدام الأمم، وعلى هجاء شحوبها أمام هيجان الأمم. نحن أًمّة عطشى، لذلك نكتب كثيرا عن المطر، غازلناه نثرا وشعرا وغناءً ورثاءً وبكاءً، نناجيه وندعو بأوقاته لتتحقّق الأماني التي لم نسع لها قيد أنملة. منذ أن ضاعت منا القدس ونحن نمارس الدعاء…منذ أن سقطت العراق ونحن نمارس الدعاء…منذ أن تطايرت أشلاؤنا وتكدست جثثنا وٱغتصبت حواسنا وسملت أعيننا ونحن نرتكب جريمة الدعاء! وكم خذلنا دعاءنا وكم خذلنا أنفسنا يوم آمنا بقدرته العجيبة على أن يقفز بنا من عمق المستنقعات وقاعها إلى قمم الإبهار والانتصار… فلسطين لم تحرر إلى يوم الناس هذا، والكيان الصهيوني يتمدد في جسد هذا الوطن العربي كالسرطان سريع الانتشار… لا ولا العراق نجا من حمامات الدماء. صار محضنة عاهرة للطائفية، للقتل باسم الله ولوجه الله ..السودان وسورية وتونس ولبنان ومصر .. والكثير من البلدان التي تمارس الدعاء آناء الليل وأطراف النهار، وتتساءل أحيانا، سرا وجهرا : أين أنت يا رب ؟! ألم تقل أٌدعوني أستجب لكم ؟ زرعنا العالم بدعائنا وما استجبت يوما، وحاشى أن تتراجع في وعدك يوما. أيكون الإله أصم ؟!
نحن أمّة ندبها نزار قباني منذ أكثر من خمسين عاما، ولم نتغير… ماضينا يمضي ولا نمضي…نحن أمة لا يرحم فيها الجار جاره، ولا يحترم حق الجوار ولكنه يدعو الله أن يدمر أعداء الأمة وينصر المسلمين الذين لا إسلام فيهم… نحن أمة يحتقر فيها الطالب البورجوازي زميله الذي تحاملت عليه كل مظاهر الحياة، ولكنه يدعو الله أن يدمر أعداء الأمة وينصر المسلمين الذين لا إسلام فيهم… نحن أمة تتنفس محسوبية، وتقضي معاملاتها بالرشوة والارتشاء ولكنها تدعو الله أن يدمّر أعداء الأمة وينصر المسلمين الذين لا إسلام فيهم… نحن أمة ترمي الفضلات في الشوارع وأمام بيوت بعضنا ولكننا ندعو الله أن يدمر أعداء الأمة وينصر المسلمين الذين لا إنسان فيهم… نحن أمة يمارس فيها الأطباء والمحامون وأصحاب المهن “النبيلة” أشد مظاهر اللا إنسانية ولكنهم يدعون الله أن يدمر أعداء الأمة وينصر المسلمين الذين لا إنسان ولا إسلام فيهم… نحن أمة نصنف بعضنا حسب اللباس وحسب المذهب وحسب الدين وحسب اللهجة، ونعلن حروبنا على هذه الأسس البدائية المتخلفة، وندعو الله أن يدمر أعداء الأمة وينصر المسلمين الذين لا إسلام فيهم… أعداء الأمة الذين رأينا السماء بأعينهم ، وغصنا أعماق المحيطات بأعينهم، وشفينا بأدويتهم، ونتنقل باختراعاتهم…ولذلك سنبقى تحت أقدامهم، ليس لأنهم استعماريون وأعداء لأمتنا وحاقدون على أمجادنا الضائعة وسط الخيانات… وإنما لأنهم أمم كفرت بالدعاء. وآمنت بأن الإله سيكون حتما أصم إن رآنا نهادن الجوع والظلم والفقر والحاجة، وننصرف إلى الاعتكاف والدعاء والكلام عن الحساب والعقاب والموت قبل أن نفهم الحياة حتى… نحن أمة يراها الله جيدا ويمنحها ما تستحق… أسلافنا علمونا أن ندعو على أعداء الأمة بقطع النسل ودمار الشمل…فعلنا، فتشتتنا وقطعت رقابنا في ساحات الحروب .. ما علموا بأنهم وإيانا أعداء لأمة تكاد تتقيؤنا ! نحن نعبد إلها عادلا ، مستجيبا… دعوناه فإستجاب لنا. نحن من قال فيهم نزار قباني : “إنهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب ويريدون أن يخوضوا البحر وهم يتزحلقون بقطرة ماء ويبشرون بثورة ثقافية تحرق الأخضر واليابس ، وثقافتهم لاتتجاوز باب المقهى الذي يجلسون فيه ، وعناوين الكتب المترجمة التي سمعوا عنها “
صدق نزار ولتسقط الأمة إن لم تعش باستحقاق.