كيف تُصبح عنصريا في أربع خطوات؟
|“If men define situations as real, they are real in their consequences”.[1]
“إذا حدد الإنسان حالات معينة على أنها حقيقية، فهي حقيقية في عواقبها.” تجاهل من حيث المبدأ هذه المقولة، فما تُحدده قولا أو فعلا على أنه خير وأدى بين الناس إلى العنف والاضطهاد، فلا مسؤولية عليك في ذلك. أنت تروم أبعد من ذلك دائما. أنت صاحب وعي وذهن لا يناله العيب أو النقص. وما يأتي تاليا ما هو إلا قبس نلناه من فيض الورود على الناسوت منا، وصحوة المريدين من سكرة السياسة السوداء إلى نشوة الفهم والتجلي منذ اليوم المشهود. ونخط هنا ماهو خاطر استدلال، لا ناظر إجلال. ما شهدناه بالعبارة تاليا جزء مما لم نحصره كله لهيبة وجلال ما غاب وراء الحجب من سر عنصرك وقدس حرمك. هذه الخطوات من ثنايا قوس الصعود إلى حقيقة وجود الشعب وكمال إرادته. ومسعاها في قوس النزول إلى الناسوت، تعليم التائهين كيف ينالون حظوة العُنصر النقي حتى تشف أقوالهم بالجميل وتنضح أفعالهم بالحسن دون تقبيح. ولو كان من حاله غير ذلك فذلك زيغ اُريد له، من شيطان الإنس والجن، من أتباع الكونية والحقوقية والشَمالية (يُدعون أيضا باليسار) أو اللبرلة القادمة من وراء ديجور البحر إلى أرض الميعاد أين حل الأجداد، وبرزت شمس الأمجاد.
إعلم أن نقاء العنصر يتطلب ثلاثا، أن تتعلم القانون وتنساه، فستوفق بالتجلي في حضرة النقاء إلى تضمينه ما تشاء، حتى ترى عجيبا من وراء العقل وحدوده لم يسبقك إليه أحد، واكتسب اللغة والكلام والخطاب وزد إليها، حتى وإن غابت عنك الفصاحة، فهي وعاء لشيَق المعنى ودقيقه… ومن وسائله أن تُعمم القول، فتقول فيما يقول العالمون “لكن..” حتى تُضرب عما سبق إلى غيره. وسينال من تعدد المعنى كل على قدره، فالأسرار لا ينالها العوام إلا بما نضحت به أوعيتهم. وما دونهم قوم الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون، فهؤلاء أبعد القوم عن الصدق والوفاء والخير. وهؤلاء لا يبلغون مبلغا فيه الشعب وإرادته، فهو حرم طاهر وعلو شاهق، ووحدك عرفته بالحدَ الذي هو تعريفه الجامع لكل أفراده والمانع لكل ما ليس منه. لا تنسى أعزك الله بمجد عنصرك وعظمة كيانك أن ترى بعين القلب المؤامرات، فهي حبائل العدو الذي وإن غاب عن بصرك يراه وجدانك الخائف.
تعلَم القانون وأنسه
فكرة القانون ومفهومه مُخترعان مُنتجان قادمان من بعيد. وهنا في ديارنا ثمة من يستغلهما ويوظفهما لمصالح خاصة دنيئة. القانون لا إنسانية فيه ولا عمق إنساني في نشأته ولا في قيمه ولا في مسار تطوره التاريخي. أنت تعرف جيدا ووحدك مُنتبه إلى أنه يُستغل دائما، ولا فائدة في فلسفة القانون ولا علمه ولا الحقوق والحريات التي أصَل لها. كما لا فائدة من النضال لأجل إرثه الكوني. كيف لا؟ ووحدك دون غيرك انتبهت إلى أن التوظيف الأيديولوجي والسياسي قاعدة وليست استثناء. أنت الإنسان وانطوى فيك الكون وقانونه. أما عن العنصرية المؤسساتية فحدث ولا حرج، فليس لديك منها بالمرة. منظوماتك القانونية ومؤسساتك وإجراءاتك لا تُخطئ الغاية أبدا. ألست تتحدث عن الحرية والعدالة والمساواة، إذن كلها موجودة قطعا.
ثمة قانون جديد معك. القانون لا يجمع في المواطنة، بل يجعلها دائرة تُدمج داخلها عبر الرفض والنفي. إنها امتياز نظرية عبقرية لم يسبقك إليه أحد. المعارضون ليسوا مواطنين سياسيين بل متآمرون، وبالدستور من يخرج عن المقاصد ليسوا مواطنين إلا إذا شملتهم حكمتها بإرادة عليَة من الدولة، وهكذا حتى يصير الأفارقة غير الأفارقة، والديمغرافيا غير الديمغرافيا. القانون يحمي من كان بوثائقه، وبدونها لا ينال شيئا. خرجوا هم أيضا عن الإنسانية، إلى أن تستلمهم دولهم، ويفشل مشروع الاستبدال العظيم. وهكذا، فإنّ القانون دائرة تضيق حتى لا يبقى داخلها إلا الصادقون والأنقياء، هؤلاء من يُرشحون للمواطنة التي يُريدها الشعب. ومن هنا العظمة التي فيك، بقانون ينتقي ويصطفي عودا إلى بدء نحن عليه منذ الأزل.
عمم كل شيء وردد دائما عبارة “لكن…” وما شابهها…
لُغتك لسانك المُعبَر عنك، وقصدك جلي دوما. أما من لا يفهمك، فهو يصطاد في الماء الآسن وممن استمسك بحبائل الأجندات العميلة. خطابك بيَن والجميع وراء حدوده، لا يبلغ كنهه إلا من كان معك بصدق. فهو سيفهم نيتك دائما ويفسرها لمن يجهلها، ولا عليك بما قاله الأنثرولوجي كول عن العنصرية اللاقصدية، فماذا يعرف هذا البريطاني وأنت لا تعرفه. حتى وإن قال أنّ عبارة “لست عنصريا ولكن..” تليها دائما عبارة عنصرية، فلا معنى لما يقول. حتى وإن كانت العنصرية صامتة أو ثاوية كامنة في بنى الذهن والمجتمع وقوانينه، ويستبطنها المرء ويُنتجها دون وعي[2]، فلن تمر عبرك، كيف ذلك وقد جمعت الحقائق والقواعد والفوائد والعبر والروائق.
كلامك عام لأنك تقول كل شيء حتى وإن لم تقل شيئا محددا. ما دامت نيتك طيبة وقصدك شريفا. بل كيف يسيئون فهم من يحدثهم وهو من هو يُشرف عليهم من علٍ. ويرى ما لا يرونه ويعلم ما لا يعلمون. حتى وإن كانت العنصرية تنبني على التعميم الذي لا علم أو إيتيقا تُثبت مقولة الأعراق أو الألوان واختلافها [3]، فما تشير إليه فقط أنك تعلم أن هناك من يريد بنقائك سوءَا. وتكفي الإشارة منك حتى يعلم الجميع أن هناك مؤامرة، ويتبعك بالفعل والقول الخائفون-السالكون في ربوع هددها الفقر والجوع.
كن موقنا أن هناك مؤامرة ضدك
اعتمادك الإشارة للمؤامرة يختزل كل شيء، وإشاراتك صادقة دوما. أشر بعيدا هناك إلى الغائبين، إلى غير المعلوم، وسيعرف الصادقون من هم المأجورون. أنت تُشير باسم القانون والدولة، وكلما كانا قويين كان العدو موجودا، ولا عليك بمن يقول أنهما كلما كانا مستبدين احتاجا للمؤامرات[4]، التي يحوكها عدو لا يتعب ولا يكل ولا يمل من بعيد في إدارة الغرف السرية وتحريك الخيوط.
لا يجب حتى أن تقول أنّ هناك مؤامرة، أثِر فقط الشكَ والإرتياب [5]، وسيعلم الجميع من هم المتآمرون، ولن تنتهي القائمة مادام هنا شك وارتياب. فالخائفون، ممن تسعى أن يأمنوا من خوف ويُطعموا من جوع، ما خافوا وجاعوا سيأكلون المتآمرين. ولا أجهر بسر أن عقل المستفيد من عقل المفيد، وروح المريد من روح الشيخ، وروح الشعب من روح الزعيم. أنت تعلم أن اقتران الجوع والخوف في القرآن دعوة للمسلم أن يضمنهما حتى لا يضعف الإنسان ويصبح فريسة للأقوى. واعذُر ذكر القرآن هنا، وأنت المسلم الورع والعربي الفذَ، تعرفه قبل غيرك وتدفع عنه شر من لا يؤمن به.
أولئك الذين يقولون أنّ المؤامرة نظرية سلطة لا يعلمون شيئا أعزك باريك، فالعدو حقا موجود في الأعلى وفي الأسفل وعن اليمين والشمال، وفي الداخل والخارج. وأنت رغم ذلك مُسدَد وستبلغ غاياتك شاء من شاء وأبى من أبى: أليست مؤامرتك، (ويجوز هذا القول فاللغة لك) أو هي خططك وبرامجك خيَرة وموفقة كلها لأنها بإرادة مُبرمة وقاطعة من قبل.
ومن جميل صُنع الله بك أن أشد العقلانيين، أو هكذا يقول عن نفسه، سيؤمن بك، بل إن العقلانيين يؤمنون بما هو غير عقلاني، كما يبدو لنا. نعم، وفق من وفقك، كيف لا وأنت منتهى العقل وعنوانه، وتجذب أشباهك. لا عليك بتفسير برونو لاتور لعجيب الظواهر هذه، فهو القائل وما أفشله من قائل أن العقل النقدي، إذا أراد أن يجدد نفسه مرة أخرى، وجب عليه تنمية موقف واقعي صارم لكنه يرتكب دائما خطأ قاتلا. وهو الاعتقاد بأنه لا توجد طريقة فعالة لانتقاد الوقائع إلا بالابتعاد عنها وتوجيه انتباه المرء نحو الظروف التي تجعلها ممكنة، رغم أن ذلك يعني فيما يعني قبول الكثير من الوقائع دون تمحيص يقترب منها كما هي[6]. أليس من معجزات التاريخ والعلو فيه أنّ أقصى اليسار يجتمع بضده ويرى مثله المؤامرات باسم النقد ومراكمة نقد أتباع المدعو ماركس للمجتمع الرأسمالي، وهو أيضا يُعمَم-أي اليسراوي أجلّك من أجلّك- ليقول أشياء لا يفسرها إلا مفسروها، ولا ينال كنهها، من وراء حُجب تجاوزوها وحدهم، عتاة الماركسيين والغرامشيين، بل هيغل نفسه -وليد شتوتغارت وميت برلين- انتهت صلاحيته، أمام جهابذة الكرونيكورات المشهديين.
لا تشترط وصفتنا هذه أن تمر من مرحلة إلى ما بعدها بل هي من أحوال “الوعي” تقفز بها فوق كل الحدود والحجب. لا الزمان أو المكان يحُدانك، فأنت محور كل شيء. أنت تمتلك التاريخ والجغرافيا تفعل بهما ما تشاء، وما يُقال سواء كان علميا أو ايديولوجيا، أنت تفهمه كاملا وبلغت به إلى منتهاه، فهو منته أصلا، ووحدك ستصنع تاريخا جديدا وتُسكن الإنسانية جمعاء فضاء جديدا ما عهدته قبلا. أنت محافظ وحداثي وماركسي وليبرالي وسني وشيعي ومسيحي ومسلم، وأنت كل واحدة منها على حدة كما تشاء. فـ”أنت تريد”، ما دمت الشعب الواحد دون أضداد.
وإذا قرأت ما ورد هنا، أعزك من أعزَك، كن متيقنا أن من كتب وما كُتب خاطئ مسكين، كيف لا وقد انتبهت أنه ذكر وصفة من أربع خطوات ولم يذكر إلا ثلاث. “لكن” لا ضير في ذلك، فأنت دائما على صواب وعلى حق. وهذا سر يتجلي في الرابعة من الخطوات. هي ما تراه في التو واللحظة. وعلى كل حتى مع استداركي خطئي فستجد خطأ ما قطعا. فأنت صاحب “عنصر” فريد من نوعه فوق كل العناصر وتتحكم فيها، وتتوفق على غيرك في الوجود والقيمة.
هذه الوصايا ناجحة تماما إذا كنت تمر بظروف صعبة تركها السابقون ممن يلعنهم تاريخك. حتى وإن كنت فقيرا وجائعا ولا تُنتج شيئا مفيدا، فأنت غني وقد سرقك الجميع. أنت بهذه الخطوات ترى وحدك ذلك الخاتم الماسي والذهبي في إصبعك، حتى وإن كنت مجازيا وحرفيا عاريا… وقد منَت عليك الأسرار الشعبوية بترياق يجعلك عنصريا بكلك شعبا وجزءك وحدانا.
الهوامش
- William and Dorothy Thomas, in Jesse Walker, The United States of paranoia: A Conspiracy Theory, Harper Collins, 2013, p1.
- Mike Cole, “Critical Race Theory and Education: A Marxist Response”, Springer, Feb 15, 2017, p56.
- Michele Moody Adams, “Racism as an Ethical issue”, in Hugh LaFollette, Ethics in Practice: An Anthology, John Wiley & Sons, Apr 28, 2020, p400.
- Jesse Walker, Op. Cit., p113.
- المرجع السابق، ص4.
- Bruno Latour, “Matters of Fact, Matters of Concern”, Critical Inquiry, Winter 2004, p231.
نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 24، مارس 2023.
للاطّلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf24