إذا انتحر عبدٌ فلن يقع عتاب على سيّده: قراءة في معاني الانتحار
|بقلم: سها غابري
إن المتتبع لنسق التاريخ ليرى مُفارقة واضحة، تكمن في أنّ الانتحار أحد أكثر الأفعال المشتركِ في نبذها أغلب الديّانات والثقافات. وبالّرغم من ذلك لكل مجتمع القدرة على خلق ضحاياه فتوجد باستمرار العوامل الدائمة لإفراز المُنتحرين ونبذ فشلة المُحاولين. وكأن التاريخ يكتفي بتمرير المبدأ الذي أقرّه مجلس آرل منذ 452 قبل الميلاد الذي ينصّ على أن “العبد إذا انتحر فلن يقع عتاب على سيّده”. ولكن لم قد يقبل عبدٌ/شخصٌ/مواطنٌ/إنسانٌ على الانتحار أساسا؟
تتأتّى الحاجة إلى إعادة التفكير في دواعي الانتحار ومضامينه، مع تزايد عدد المنتحرين في العالم إذ صرّحت منظّمة الصحة العالمية أنه في كل عام يضع ما يناهز 800000 شخص نهاية لحياته، علما أن أرقام حالات محاولات الانتحار أكبر من ذلك بكثير وتختلف من مجتمع لآخر بل وحتى من منطقة لأخرى، فبنية المجتمع هي التي تحدد القسط العددي لما يسميهم إيميل دوركهايم “الموتى الإراديين”.
من الضروري التأكيد على أن الإحصائيات حول الانتحار نسبيّة لأنها تشمل فقط الحالات المُصرّح بها. ذلك أنّ هذه الظاهرة تندرج ضمن “التابوهات” بل حتى أنّ العديد من الحالات يتم مواراتها -اختيارا أو اضطرارا- خاصة إذا كان جنس المنتحر أنثى. وذلك يعود لعدّة أسباب ثقافية واجتماعية وربما دينية ترسّخت في الذهن الجمعي لتؤكّد على نبذ الانتحار الّذي يُفسّره دوركهايم على أنه فعل مرتبط عضويا بمسألة الانسجام الاجتماعي للأفراد، وهو من جهة أخرى مؤشّر من خلاله يمكن فهم طبيعة المجتمعات وجذورها التاريخية.
في كتاب “الانتحار” الصادر عام 1897، خصّ دوركهايم هذه الظاهرة بالدّراسة والتقصّي، وهو عالم اجتماع ينتمي إلى المدرسة الوظيفيّة. وخلُص إلى أنّ الانتحار تتسبّب فيه قوة متجاوزة لقدرة الفرد. أي أنّ الانتحار في صيغته المجردة هو إعلان موقف يتخذه الفرد ضد وضع اجتماعي بعينه. كما يُفسّره على أنه ترجمة لضعف التنظيم الفردي والجمعي، أي أن المجتمع فقد القدرة على حفظ أفراده وتنظيم شؤونهم بشكل يجعلهم يواصلون الحياة.
دوافع الانتحار تتفرع إذن لما هو داخلي خاص بالفرد، وما هو خارجي أي يتعلّق بصلة الفرد بالمجتمع، وفي الحالتين هو إنذار للمجتمع ليتفطّن لوجود خطأ ما في النظام الاجتماعي. وهو نفس ما أكّد عليه عادل لطيفي بقوله أنّ الانتحار حالة من القطيعة الراديكالية بين الفرد والمجموعة، مما يضع مختلف الأطر الاجتماعية والسياسية موضع شك. إذ هو نفي أو تحييد مؤقت، للعائلة وللدين وللدولة وللقانون.
ميّز دوركهايم بين أربعة أصناف للانتحار: الأناني من أجل الفرد، والانتحار الإيثاري من أجل المجموعة، والانتحار القدري ويتجلى في المجتمعات القمعية، والانتحار اللامعياري عند اضطراب ضوابط المجتمع ويرتفع في فترات الكساد الاقتصادي. يُعدّ الانتحار اللامعياري الأكثر شيوعا في وقتنا الحالي وفقاً لما يؤكّده تقرير المنظمة العالميّة للصحة. تستأثر البلدان ذات الدخل المنخفض أو المتوسّط بنحو 79% من حالات الانتحار في العالم. ويعتبر ابتلاع المبيدات، والشنق والأسلحة النارية من بين الأساليب الأكثر شيوعا للانتحار على مستوى العالم.
حسب المنظمة العالميّة للصحة، عادة ما تكون ظاهرة الانتحار مرتبطة بالأشخاص الذين يفقدون القدرة على مواجهة ضغوط الحياة، والمشاكل الأسرية، والعاطفية، والمالية، وبالذين يعانون من اضطرابات نفسية، أو أمراض مزمنة، أو حالات إدمان، وأيضا بالأقليات المضطهدة.
أواخر 2010، من نار الانتحار انبثقت الثورة التونسية، التي أوقدها البوعزيزي مُعبّرا عن جوعه وعن رفضه للقمع والتهميش والحقرة وللتأكيد على فشل المنظومة في تحقيق التنمية. فتتالت بعد ذلك صيحات الاحتجاج للمناداة بالشغل والحريّة والكرامة الوطنيّة بالتوازي مع تتالي حالات “الانتحار الاحتجاجي” لاسيّما مع تردي الوضعيّة الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسية والصحيّة.
إنّ الانتحار مرتبط أساسا بالجسد كفاعل انفعالي رافضا للواقع، ويتّخذ هذا الجسد البعد الثوري عبر التعبير على الاحتجاج بالصراخ، الكلام، إضرابات جوع لتتطوّر وتصبح محاولات انتحار. فالانتحار حرقا يجسّد صورة الجسد المنفعل الغاضب بفضاءات مختلفة.
ووفقا للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الجسد هو المكوّن الأساسي للفعل الانتحاري، وهو الرأسمال الرئيسي للتعبير على الرفض والغضب. من أسبابه أنّ هناك بيئة وأرضيّة هيّأت ووفّرت ظروف الانتحار لكلّ الفئات العمريّة، إذ اختلفت الفضاءات والوسائل ولكن الفعل واحد.
بعد الثورة في تونس لم يعد الانتحار قرارا فرديا، بل تجاوزه إلى مفهوم الجماعة، حيث أكّد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة على أن أكثر من نصف حالات الانتحار أو محاولات الانتحار التي تم رصدها منذ بداية 2018، والتي بلغ عددها 72 حالة، “هي تهديد بانتحار جماعي أو محاولات انتحار جماعية”.
الانتحار فعل تتقاطع عنده المُتضادات، فهو يعكس تمرّد الفرد على المجتمع ويؤّكد في نفس الوقت مدى تأثير وسلطة المجتمع على الفرد. وهو ترجمان لخوف الأفراد من الأنظمة القمعية التي اعتادت تسيير امورها بالتسلّط والترهيب، وهو في ذات الوقت تحد للخوف من خلال تحدي العقوبات القصوى التي يمكن أن تسلطها هذه السُلط مثل التعذيب والإعدام والقتل… وهو على العموم تأكيد للعبودية وصكّ حرية: تأكيد لكون الفرد خاضعا لقيود المجتمع الذي يُسيّر حياته، ولكن هذا الفرد قادر بدوره على التحرر باستقدام الموت.
أكّدت دراسة السلوك الانتحاري أنه قابل لحمل معان متجددة حسب المجتمعات والأزمنة، إذ يتراوح الانتحار ما بين مجرد فعل فرداني يجسّده الفرد الذي يشعر بأنه عالة على محيطه، حسب الفهم السيكولوجي، إلى فعل جماعي اجتماعي يتنزل في سياق المجتمع ويرتبط به. ولعلّ لانتحار الأفراد كذلك الفضل في ضمان حسن استمرارية الجماعة.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثامن، أكتوبر 2021، ص ص. 10-11
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf8