اختلاق فكرة التساوي في الميراث ترف لا يرتقي إلى مشكلات تونس الحارقة اليوم
|بقلم: د- عادل بن خليفة بِالْكَحلة
تداعى بعض «النخبة» التونسية والسلطة إلى قبول ضغوط الاتحاد الأوروبي من أجل تقنين «المساواة» بين الجنسيْن في الميراث. والداعي كان يفتقر إلى الكثير من التروي قبل القيام به.
فنحن أمام أوْلويّات حارقة، ولسنا في رخاء اقتصادي أو ترف فكري حتى نتظاهر من أجل «كل» شيء، أو لِكلّ ما يَعِنّ لنا. فمشكلاتنا أصبحت خطيرة جدًّا (اقتصادًا وثقافةً، وتعليمًا، وصحةً، وبيئةً، وسياسةً…). فما قيمة الميراث، حتى في الاقتصاد الكمّيّ من مُجْمِل الحركة الاقتصادية الوطنية؟! وإذا كان علينا أن نتظاهر من أجل الميراث، كان يجب أن نتظاهر مِن أجل أن الكثير من الميراث الترابي أصبح أرضًا مَواتًا، لا زراعة فيها، ممَّا يقلص أكثر فأكثر أمننا الغذائي، فيجب إمَّا أن نُحْيِيهَا أو نستصدر قانونا يسمح للدولة بأن تنتزعه وتسلمه إلى الفلاحين الذين من مشاكلهم: الزحف العمراني الفظيع وارتفاع كلفة كراء الأراضي وشرائها.
وإذا كان علينا أن نتظاهر من أجل الميراث، كان يجب أن نتظاهر من أجل حرمان الكثير من الإناث منه، بطريقة أو بأخرى، أو التقليص من حظهن منه أوّلاً.
ولكنْ الأوْلى، إذا كنّا صادقين في دفاعنا عن حقوق الإنسان ولسنا «منافقين»، أن نتظاهر مِن أجل المساواة بين الجنسيْن في الأجور، مرَّةً في الشهر، وإن لزم أكثر. فمنذ عقود كثيرة، أصبح تقليدًا أن تُستَغل المرأة في العمل الفلاحي، فيكون أجرها دون الأجر الأدنى الفلاحي بكثير، وتكون ظروف شغلها دون ظروف حيوانات زريبة الإقطاعِيّ في كثير من الأحيان، ولا تَدَخُّلَ مِنْ رئيس جمهورية « الثورة»، ولا رئيس حكومة «الثورة»، ولا برلمان «الثورة»، ولا «يسار» الثورة ولا «يمينها»، ولا «شيخا» الثورة وشيوخها وشيخاتها.
ومنذ عقود كثيرة، أصبح تقليدًا أن يكون أجر المرأة الصناعي، دون أجر الرجل الصناعي، ودون الأجر الأدنى الصناعي بكثير. ومازال مُشغِّلُوها على رؤوس القائمات في الانتخابات التشريعية والبلدية على اليمين وعلى اليسار، وعلى رؤوس جمعيات «الرياضة» الرجالية والنسائية، وما زالت مكانتهم الاجتماعية والسياسية والتلفزيونية أرقى من مكانة أي مثقف وأي مفكر وأي شهيد في تونس.
أمَّا قضية هذه «النخبة» وهذه السلطة مع النص الديني الإسلامي، فهي عجيبة. والأعجب أن ماكس فيبر وجاك بيرك ورِنِيه غينون و روجه غارودي وموريس بوكاي ومكسيم رودنسون يعرفون نصّنا الديني أكثر من هؤلاء. وذلك إمَّا لأن بعضهم يجهل اللغة العربية أصلا، غارقًا في لغة مَكْرُون الذي استقبله بعض هؤلاء المتظاهرين بعشق بالغ؛ أو لأنَّ بعضهم لا يقرأ، وتلك معضلة ما بَعْدها معضلة؛ أو لأن بعضهم يعيش رُهابًا من الألوهية، يجعله لا يستطيع أن يَفتح النّص الديني، وذلك مَرَض نفسي خطير يحتاج فرانتز فانون أو سْليّم عَمَّار، وربما يونغ أو فرويد أو مالك بَدْرِي. وحتى أنَّ المتديّنين الذين تَحْقِد عليهم تلك «النخبة»، هم أيضا لا يتعاملون مع النّصّ الديني، إذْ أن ما ينتظرونه مِنْه لخدمة مَصَالحهم الشخصية والطبقية والحزبية هو الذي «يَرَوْنَ» به النص فلا يروْنه، وإنما يروْنَ نصًّا آخر صَنعه مِخيال الهيمنة السّياسية والاقتصادية والجنسية منذ قرون.
علينا أنْ نقرأة كل سورة باعتبارها بِنْيةً، لا باعتبارها أجزاءًا «مجنونة» متبعثرة. وآيات الميراث من سورة النساء التي موضوعها العام الدفاع عن ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ (سورة النساء، الآية75).
جاءت الآية الوحيدة التي تحدت عن «تعدد الزوجات» (الآية 3 من سورة النساء) بعد الآية (2) التي عَرَضَتْ لضريبة مقاومة العدوان والحصار العربي- اليهودي على دولة المدينة، وهي ضريبة تقديم «شهداء». وتلك الضريبة تؤدي إلى ضريبة أثقل وهي انتشار الترمّل والتيتم، والتيتم دون شك هو أثقل تلك الضرائب جميعا، خاصة أن ثمن الاستقلال والحريّة باهظ جدًّا، على عكس الكثير من التونسيين الذين يريدونه «هْنانِي بْنَاني».
جاء في الآية الثانية من سورة النساء: ﴿ وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴾. بناءًا عليه، تقول سورة النساء، لا بدَّ من «العدْل» الاقتصادي مع «اليتامى» حتى لا تتسبب المقاومة المشروعة في مأساة ضياعهم، فيكون استبدال ﴿ الخبيب بالطيب﴾، وذلك عن طريق «إتيانهم أموالهم» أي حقوقهم الاقتصادية الكاملة كأي طفل في المجتمع المعاصر لهم.
ولكن «العَدْل» الاقتصادي دون «القسط» الشامل، وهو العدل النفسي والتربوي، فطفل بأب حي ليس مثل طفلٍ بأب ميت. فالقسط حسب سورة النساء- أن نغوّض له أباه الشهيد بأبٍ حي. وباعتبار أن كارثة معركة أحُد وكارثة الغَدْر في بئر مَعُونة كانتا كارثتين ديمغرافيتيْن خطيرتَيْن جدًّا في دولة صغيرة وليدة (دولة المدينة القائمة على دستور «الصحيفة») غير مستعدة في التفريط في سيادتها، كان من الضروري أن تفرِض تعدد زوجاتٍ سَمّته السورة ﴿ ما طاب﴾، أي طيّبًا، لا يستبدل ﴿ الخبيث بالطيب﴾، ولا يكون الطَّيّب إلا العقلاني : ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ (سورة النساء، الآية3)، حسب الظرف الديمغرافي وحسب الدخل القومي والقدرة الصحية والاقتصادية وغير ذلك من المعايير. ففجأة أصبحت إناث المدينة يمثلن ثلثي لسكان البالغين (راجع ابن هشام والطبري).
وهُنا تنبه السورة أن الرجل في هذه الدولة الصغيرة، المهددة، ينبغي أن لا يكون أنانيّا، وأن المرأة فيها ينبغي أن لا تكون أنانية، فلا يفكّران في ابن الشهيد وأرملة الشهيد.
والإضافة الإيثارية، ينبغي أن تخضع لميزان القدرة على «الإعالة»، وإلاَّ فالإضافة الإيثارية ينبغي أن تكون واحدة: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ (سورة البقرة، الآية2). ويمكن أن تكون هذه الإضافة الإيثارية الواحدة مؤقّتة: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ذلِكَ أدْنَى ألاَّ تَعُولُوا﴾ (الأية2).
وحتى في الميراث، ينبغي محاباة اليتامى الذين تضخم عددهم بهذه الكارثة الديمغرافية، علاوة على محاباة «المساكين» مِن أجل ضرب التفاوت الاقتصادي، وهذا ما ينساه (أو يتناساه) فقهاؤنا: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾ (سورة النساء، الآية8). وهكذا نطبق من القرآن ما يَحْلو لنا، وليس ما «يَطيبُ» عقْلاً للنّصّ. أما نصيب الإناث فهو يختلف باختلاف وضعهن: ﴿وإن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ (سورة البقرة، الآية 11).
فإذا كان صاحب الآية ينص على أنه ﴿عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (الآية 11)، فينبغي أن نتفهم النصّ بعِلْم وحِكمة، لا أنْ نطمِسَه (وهنا يشترِك العلمانيون والمتدينون في عملية الطمس). فينبغي أن ننظر في الاقتصاد الجنسي القرآني نظره كُلّية، لا أن نجزئ النّص القرآني، تمامًا كما يفعل المتدين والعلماني. فإذا كانت المرأة، ليست مجبرة على الإنفاق العائلي، ولا تدخل في الدّيّة، ولا تخَسر سنوات عمل بسبب الانخراط في الجندية الإجْبَاريَّة، فستكون القدرة على المراكمة لديها أكبر من المراكمة لدى الرجل. وإذا كانت أمّ الموروث متفوِّقة في ما ترثه على غيرها، فهو مبرّر بمعايير أخلاقية ايضا. وفي كل الحالات، لا يمكن أن نتهم القرآن «العليم الحكيم» بتفويق مراكمة الأنثى، لأن ذلك جَبْرًا لتهديد النساء باستشهاد رجالهن (أزواج، ىباء، إخوة..)، ومِنْ ناحية أخرى لجعل النساء المَخزن الاقتصادي الثابت، الذي يمكن للدولة السّيادية المهدَّدة أن تعود إليه دائما. وهو ما يمكن تسميتهُ بـ«الخَدْج» الدائم، و«الخَدْج» هو الولادة قبل أوانها، وهو من ضرورات الاقتصاد السيادي المهدّد. وفي كل الحالات لابد مِن التدقيق الكلّيّ في النص، ومن التدقيق في واقع الاقتصاد الجنسي ﴿وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (سورة البقرة، الآية 176)، من حيث توزيع الأدوار الإفرادية ومن حيث وظيفة الدولة ونوعها، فنحن نمرّ منذ قرون بوضعية تشوّش لا تجعلنا نحسن العلم بكل شيء في النصّ القرآني ولا بكل شيء في واقعنا التبعيّ. ولكن في كل الحالات، لابدّ أن نسعى جاهدين للفهم، وأن نخرج من واقع الوثوقية والتشنج في التعامل مع كل شيء. فمشكلنا الأساسي هو تمحور كل واحد منا حول ذاته كالطفل في حالته الأنوية، ومشكلنا الأعوص هو تفريطنا في السيادية وتفكيرنا في الحلول المرتجلة غير القائمة على ﴿كل شيء﴾ والعلم والحكمة.
*-*-*
سورة النساء تعالج مشكلات دولة سيادية-عدالية، مهدَّدة، ديمغرافيًّا وعسكريا واستراتيجيًّا، بصفة يوميّة. ومعالـَجاتها تخضع لهذه الإكراهات. أما أنتم، فتعيشون في «اللوكس» وتفكرّون في «اللوكس»، ودولتكم دولة «رخاء ورفاه».