مسلمون ونصف… من البحث عن الذات إلى التطرّف العنيف
|
آرون دريفر أو “هارون عبد الرحمن” كمّا كنّى نفسه، مراهق كندي عاش طفولة صعبة، توفيّت والدته وهو لم يتجاوز السبع سنوات مصابة بداء السرطان. منذ تلك الفاجعة، تنامى داخله الشعور بالوحدة والرغبة في الانتقام من العالم كلّه. غادر مقاعد الدراسة مبكّرا وسلك طريق الإدمان على المخدرّات قبل أن يبحث عن قيمة وجودية (إثر وفاة رضيع أنجبه من صديقته). بحث في شبكة الإنترنت عن الأديان ووجد في الإسلام سبيله المنشود.
ربّما أخطر ما قاله هذا الشاب الكندي الذي لم ينشأ في بيئة اسلاميّة هو التالي:
” وفاة ابني بعد لحظات من ولادته ذكّرني بأنّ الحياة مهما طالت هي مؤقتة وأن الموت يمكن أن يحدث في كلّ حين، قبل اعتناق الإسلام كنت أشعر بالوحدة وبصدد البحث عن جماعة أنتمي إليها، لم أجد نفسي في الدروس والمواعظ التي يقدّمها أئمة مساجد بكندا، بحثت أكثر ووجدت الجماعة التي معها أشعر بالانتماء الحقيقي. “
تكرّرت عبارة ” أبحث عن جماعة أشعر معها بالانتماء” كثيرا عند متطرّفين من المتحوّلين حديثا إلى الإسلام في صيغته الجهادية خاصة في فترة الصعود القويّ لتنظيم الدولة الإسلامية وانتعاش رحلات “الهجر “، رحلات دون رجعة إلى دولة الحلم… بعد أشهر يشعر أغلب هؤلاء من “الثوريين الرومانسيين” أنّ الدولة الإسلامية المثالية التي تحقق العدل والأمن والرفاهية هي مجرّد يوتوبيا. فمنذ إعلان الخلافة من منابر المسجد الكبير بالموصل العراقية تحوّل التنظيم الجهادي الأكثر دموية إلى ما هو أشبه بكيان بيروقراطي عسكري، لا يتردد في تصفية عناصره ولا في التضحية بالآلاف كما حدث في كوباني السورية الكردية. كانت الدسائس تحاك بشكل شبه يومي وكانت الصراعات تتعاظم داخل التنظيم – الدولة، ووجد هؤلاء الناشئون في بيئة غربية وبالكاد يجيدون بعض الكلمات باللغة العربية أنفسهم تائهين حائرين.. هل خُدعوا؟ هل تمّ استغلالهم وتوظيفهم في أتون حرب تتشابك فيها المصالح؟
دريفر الذي تمكّنت عناصر الحرس الملكي الكندي من القضاء عليه منذ أكثر من سنتين قبل أنّ ينفّذ هجوما مسلّحا عبر حزام ناسف تقليدي الصنع رغم أنّه كان تحت المراقبة، في حادث شبيه بالعملية الإرهابية التي نفذّها البريطاني عصمان خان منذ سنتين رغم مراقبته عبر السوار الإلكتروني. لم يكن هو الكندي الوحيد الذي سلك هذا الطريق.
جون وايغار، أندريه بولان وآخرون ظهروا في الأشرطة الدعائية لتنظيم الدولة الإسلامية متوعّدين كندا بمزيد من الهجمات وداعين مسلمي كندا إلى الالتحاق بهم، فالتنظيم يولي أهمية كبرى لهؤلاء المنحدرين من أصول غير مسلمة ويحتفي بهم بطريقة خاصة، من خلال هؤلاء يوجّه رسالة إلى الدول الغربية بأنّ شبابكم الذين تربّوا في بيئتكم ودرسوا في مدراسكم قطعوا مع كلّ هذا وأعادوا هيكلة ذواتهم في بيئة أخرى معادية للتعاليم الغربية..
بعيدا عن كندا، تتصدّر فرنسا ترتيب الدول الغربية التي “صدّرت” جهاديين إلى مختلف بؤر القتال خاصة على مستوى المحور السوري العراقي. المثير أكثر هو عدد المتحولين حديثا إلى الإسلام، ففي إحصائية رسمية يمثل هؤلاء قرابة الربع من جملة المهاجرين هذا طبعا دون احتساب الذين رغبوا في الذهاب ولم يفلحوا في ذلك..
تروي السيدة فيرونيك روي شهادتها حول هذا الموضوع. ابنها كوينتان الذي عاش في ظروف جيّدة بإحدى الضواحي الباريسية الراقية ونال شهادة البكالوريا بتفوّق، اختار الذهاب في مسار مختلف تماما عن المتوقّع له. اعتنق الإسلام سنة 2012 وغادر نحو سوريا بعد سنتين من ذلك..
” لا حدود هنا، شباب من كلّ البلدان، كلّنا مسلمون، كلّنا إخوة..”. هذا من بين ما جاء في أحد المحادثات القليلة مع أفراد عائلته قبل أن يلقى حتفه سنة2016 .
رغم اختلاف بروفايلات الجهاديين من حيث أصولهم وظروف معيشتهم وطبيعة الأحداث التي عاشوها والخيبات التي تعرّضوا لها، فإن هناك نقطة التقاء بينهم. من خلال شهاداتهم وحواراتهم، من الواضح وجود أزمة هويّة أو أزمة انتماء حادّة. يحدث هذا في مجتمعات ماديّة استهلاكيّة تبرز فيها الفردانية المعاصرة كقيمة رئيسية.
عند الاستماع إلى شاب فرنسي يدعى “نيكولا” يقطن بإحدى الضواحي الباريسية المهمّشة ويشعر كثيرا بالاقصاء، نجد أنّه يقول أنّ شباب هذه الأحياء (أحزمة العنف المحيطة بالدول الكبرى) موصومون بنعوت سيئة ولا يجدون الاهتمام الحقيقي من الدولة، بحيث يفتقدون لهذا الانتماء شيئا فشيئا حتّى يجدوا أنفسهم في مواطنة بديلة بروابط روحيّة قويّة ممثلّة بالإسلام. ولكن لماذا الإسلام؟ فالذي يبحث عن مساحة من الطمأنينة يمكن أن يجدها في أديان وتعاليم جنوب شرق آسيا، يمكن أن يجدها حتّى في رياضة عقلية مثل اليوغا.
لكنّ الإسلام وخاصّة في صيغته الجهادية المعاصرة (الشبابية) وحتّى في صيغته السياسية الإخوانية هو دين جماعة. هناك حديث منسوب إلى النبي محمد: “لا يحل دم امرئ مسلم لا يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، الا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة“. بقطع النظر عن صحّة الحديث من عدمه، كانت فكرة خروج شخص عن الإسلام في بداية تشكّل الدولة – الجماعة فكرة تؤرق أوائل المسلمين باعتبارها تهدّد استمرارية المشروع وربّما تقتله في المهد، التنظيمات الإسلامية المعاصرة بصيغتها الجهادية أو غيرها تحرص كثيرا على تماسك الجماعة وتتعامل بشكل عنيف مع كلّ محاولة للانشقاق تصل إلى التصفية الجسدية.
ولكن لماذا نجد عددا هامّا من المتحوّلين حديثا إلى الإسلام من جملة الجهاديين؟
يمكن القول أنّ هؤلاء يشعرون بافتقاد كبير للإسلام كأنّهم يريدون تعويض ما فاتهم إذ أنّهم عاشوا سنوات طويلة بعيدا عن تعاليم وقيم الإسلام. هم يريدون أن يكونوا أكثر اسلاما من المسلمين بالفطرة، ممّا يجعل نسبة هامّة يعتنقون إسلاما أرثوذكسيا (عنيفا أو لا، ذلك يعود إلى الظروف وايديولوجية الجماعة المحيطة بهم)، يقطعون من خلاله مع حياتهم السابقة.
لا يستسيغ هؤلاء “الإسلام المعتدل” الذي يسوّقه بعض أئمة المساجد والمشرفين على الهياكل الممثلة للمسلمين في فرنسا وغيرها من البلدان الغربية ويجدونه غير معبّر عن هواجسهم، هم لا يبحثون عن إسلام متأورب يحترم قيم الجمهورية ويعزز قيمة المواطنة الفاعلة.
مثلما مرّت أوروبا بموجات عنف سياسي يساري أو يميني، يقدّم الإسلام الجهادي اليوم نفسه كالمجال الثوري الأكثر فعالية، من خلاله يرنو هؤلاء إلى إضفاء قيمة على ذواتهم.. هناك من يريد إثبات فحولته عبر استعراض صوره في ساحات الحرب وحتّى “إغراء” المراهقات والشابات للالتحاق به وهو موضوع يعتبر في سياق المحرّمات داخل التنظيم..
باختصار، نجح هؤلاء في خلق صيغ جديدة من أشكال المواطنة الأكثر تماسكا، منها الرقميّة ومنها الواقعيّة، مواطنة “الأخ” الذي تجاوزت الحدود الجغرافية والروابط الدموية والعرقية والوطنية..
في مجال آخر يبدو بعيدا عن هذا ولكنّه مماثل في جوهره، وهو عالم الألعاب الإلكترونية عبر شبكة الإنترنت، مجموعات من كلّ أنحاء العالم تقاتل إلكترونيا مجموعات أخرى وتتواصل فيما بينها بالرسائل.. تفطّن تنظيم الدولة الإسلامية إلى أهميّة هذا المجال الخصب وولجه اصطيادا لشباب يبحث عن ذاته في ظلّ أزمة انتماء متفاقمة وتدهور الأوضاع الاقتصادي.
يقول المفكّر الفرنسي جيل ليبوفتكسي صاحب كتاب “عصر الفراغ : الفردانية وتحولات مع بعد الحداثة” أنّه من المهمّ إحداث تغييرات على المناهج التعليمية فتقديم دروس عن السلوك المواطني وقيم الجمهورية والحريّات أمر جيّد ولكنّه غير كافٍ، إذ من الأهم إيجاد صيغ لربح ثقة فئات تعيش تفككا أسريا وشعورا بالإقصاء، وذلك مثلا عبر المرور من أسلوب التلقّي إلى أسلوب الخلق والابتكار، بذلك يمكن تنمية تقدير الذات والشعور بالفخر بما يقومون به…
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد التاسع، نوفمبر 2021، ص. ص.4-5.
للاطلاع على كامل العدد: https://tiny.cc/hourouf9