المواطنة والحريات الفردية في تونس بعد 14 جانفي 2011: أيّ قراءة للموجود وما المنشود؟
|بقلم: كوثر الردّادي
تعدّ “الذاتية الحرّة” إحدى أهم سمات وملامح المجتمعات الحديثة المنبثقة عن الفردانية والحريّة التي نادت بها فلسفة الأنوار؛ إذ لم يعد باستطاعة أحد أن يرغم الآخر على عدم التغير أو التطوّر والشك والثورة على الثوابت والتساؤل عن ماهية كل معطى قائم في المعاش المشترك للـ”نحن” أو المجتمع الشامل الذي ينتمي له الفرد أو “الأنا”، فكل منّا تحدّوه رغبة دائمة في إنتاج عوالم جديدة-مغايرة.
ليس من الغريب إذا أن تعرف المجتمعات التي شهدت تحولات سياسية وثورات -على مرّ التاريخ- تنوعا هائلا في المسارات الإيديولوجية وبروز جيل جديد مختلف عمّا سبقه من أجيال قد تعتبره خارجا أو متمردا عن المدونة القومية والإيتيقا الجمعية، ومردُّ ذلك الوصم المبطن بالرفض قد يكون باسم القيم أو الحنين إلى الماضي.
ضمن هذا السياق يمكن اعتبار مثال الحالة التونسية عشر سنوات بعد 14 جانفي 2011، فترة كفيلة بالدراسة وتسمح بالتساؤل حول ضمانات حق الاختلاف وواقع الحريات الفردية والأقليات، ودرجة التمثيلية الدستورية والحقوقية لمختلف الفئات والأطياف السياسية والدينية والعرقية.
كيف نفكر اليوم في هذه المسارات للحياة الخاصة والسياسية والدينية التي تزدادً تنوعا وتبدلاً؟
بم نفسِّر علاقة التغيّرات الاجتماعية والسياسية بتطوّر الذاتيات وبالتالي تطوّر الهويّة الشخصية؟
هل يمكن وصف العلاقة الهوويّة “للأنا” الفرديّة والـ”نحن” المجتمعيّة بالمتصادمة ومحاولة السيطرة؟
من الضروري بدءًا تحديد الجهاز المفاهيمي للمحاور الكبرى:
* الهويّة (بتعدُّدِيتها)
يحيلنا سؤال ” ما الهويّة؟ ” إلى أبعاد ودلالات سياقيّة شتّى قد تتقاطع مع مصطلحات أخرى كالقوميّة / الضمير الجمعي / الأمّة / الحضارة… إذ لا يمكن اختزالها في البعد الأنثروبولوجي ونعني بذلك على وجه الخصوص اللغة والدين؛ فمفهوم الهويّة أشمل من أن يُختصر في بعده الرمزي كالقناعات الدينية والميولات السياسية باعتبار أنّ الهوية تنضح من المسامات النفسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة كاللغة والدين والمذاهب الفكريَّة والإيديولوجيّات وصُروح الذاكرة الجماعية والنصوص التشريعيّة والسلوكيات والقيم ونتاج الفكر والفنّ والعلم والأدب والتقاليد والفولكلور والأمثال وغيرها1.
من منظور سوسيولوجي تعرّفُ الهويّة كرابط جماعي يمنح الجماعة إحساس “بالأصل المشترك” على حد تعبير فيبر، وهي المقاربة نفسها التي اعتمدها الباحث المغربي محمد الغيلاني، كمنطلق نظريّ في مقاله “الهويّة والاختلاف في قضايا الدين والمجتمع: الهوية هي الاختلاف” معتبرا أنّ الهويّة هي مجموع العوامل التي تمنح الإنسان، بصفته الفردية، والمجتمع بصفته مجموعة روابط تشمل الشعور بالوجود والانتماء والمصير المشترك. هذا الشعور يضمن استمرارية الجماعة، ويحمي كيانها2 .
* المواطنة :
حسب المقاربة القانونية والسياسية تعني مجموع الحقوق والواجبات التي تميّز الفرد-المواطن في الدولة المدنيّة.
من وجهة نظرٍ سوسيولوجية، تعدُّ كتابات مارشال من أهم النظريات المؤسِسَة لمفهوم المواطنة والتي كانت منطلقا للمداخل والنظريات المعاصرة، على تباينها، لفهم الإطار العام والخاص لتصورات المواطنة؛ نذكر مثلا تصوّر تالكوت بارسنز الذي اعتبر أنّ تطور المواطنة برهانا على حداثة المجتمع. لعلّ أبرز تعريفًا للمواطنة هو ما قدّمه مارشال حيث قرنها بالعنصر المدني كأحد أهم جوانبها إذ تعدّ “الحقوق المدنية من ضرورات الحريات الفردية ويتم صياغة تلك الحقوق والنصّ عليها في مواد القانون الرسمي”3.
فبالنظر للمواطنة كإحدى ترجمات “الدولة الحديثة”، حيث يتجاوز الأفراد تقديمهم كرعايا بل يضحون كمواطنين كاملي الحقوق، يصبح من الضروري ربطها بالحرية وهي من أوّل الحقوق التي نصّت عليها النصوص الدوليّة وأشهرها على الإطلاق “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” (10 ديسمبر 1948). كما أنها من الشعارات والعناوين الكبرى التي رُفِعت أثناء الثورات والانتفاضات الشعبية سواء ضمن حركات التحرّر الوطني ضد الاستعمار والإمبريالية أو إسقاط الأنظمة الكليانية ودرء الاستبداد ونذكر في ذلك مثال أحداث 14 جانفي 2011 بتونس.
واقع “التعدّدية” بتونس بعد 14 جانفي 2011
مثّلت تجربة ما عرف بـ “الانتقال الديمقراطي” بتونس مجالا لممارسة التعدديّة الإيديولوجية والحزبية وبالتالي السياسية وحتى المجتمعية ممثلة في المجتمع المدني بمختلف مكوناته. هذا التنوع أثرى المشهد العام ويمكن اعتباره من النقاط الموجبة لتلك التجربة، لكن السؤال أو الإشكال يكمن حول كيفية إدارة وحوكمة تلك التعدديّة المتمايزة والمختلفة، قانونيا واجتماعيا.
باعتبار أنّ الدولة ليست فقط جهازا سياسيا بل وحقوقيا أيضا فهي تنظّم العلاقات بين الأفراد عن طريق القانون لضمان حقوقهم، فالمواطنة الحقّة لا تنجح إلّا بحصول كل أفراد المجتمع على ضرورات المواطنة من حقوق وحريّات قد لا تجد حضورها في ظل نظام جمهوري مؤسس على الإرادة الجماعية التي تستثني أو لا تعير اهتمامًا لرأي الأقلية. يتمظهر ذلك في منظومة التشريعات، وأهمُها الدستور، التي لا يمكن التعامل معها كنصوص نهائية أو قوالب جاهزة دون إخضاعها للنقاش والنقد خصوصا في حال اكتست جانبا من الضبابية وعدم الوضوح وتعدد احتمالات تأويلها، ولنا في ذلك مثال الفصول 1و2و6 من الدستور.
تعبّر صياغة الفصل الأول عن إقصاء ضمني للأقليات الدينية والعرقية والهوويّة (الأمازيغ مثالا) بالنظر لعبارة “الإسلام دينها والعربية لغتها “وعادة ما يلخّص هذا الفصل في بعده الرمزي للهويّة (اللغة والدين)، باعتبار أنّهما من دعائم الهويّة في المخيال الجمعي. يقول جعيط في مقدمة كتابه “ أزمة الثقافة الإسلاميّة”: إنّ ظاهرة اللجوء إلى الدين كمعقل الهويّة الصلب… يعني إنّا دُحرنا إلى الأسس حيث غاب كل شيء سوى عناصر الثقافة الأنثروبولوجية” 4. كما أنّنا لم نشاهد حضور أو تشريك القيادات الدينية للأقلّيات أو ممثلي بقيّة الأديان من غير “الدين الرسمي” للدولة في الاحتفالات والتظاهرات الرسميّة كعيد الجمهوريّة مثلا أو عيد الاستقلال. كما أنّه لا يحق للمنتمين لتلك الأقليات الدينيّة أن يمارسوا حقّهم في الترشّح للرئاسيّة حسب ما جاء في الفصل 75 من الدستور ” الترشّح لمنصب رئيس الجمهوريّة حق لكل ناخبة أو ناخب تونسي الجنسيّة منذ الولادة، دينه الإسلام “.
أمّا الفصل الثاني الذي أقرّ بمدنية الدولة وقيامها على المواطنة وعلويّة القانون، فهو يدفع للتساؤل عن مدى احترام هذا الفصل بالتناظر مع الفصل السادس “الدولة كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية..” والمندرجة ضمن الحريات الفرديّة التي دافعت عنها عدة منظمات وجمعيات على غرار الجمعية التونسيّة للدفاع عن الحقوق الفرديّة ومرصد الدفاع عن الحق في الاختلاف في تونس؛ وهو عبارة عن توليفة أو ائتلاف مدني مكوّن من حوالي 70 جمعية ومنظمة من تونس بعث في 22 جوان 2018. يهتم برصد وضعية الأقليّات والفئات المعرّضة للتمييز.
صرّح المرصد بصدور أحكام على أساس التمييز ضد أصحابها وفيها انتهاك لحقوق الإنسان وتعدٍّ على كرامته (الفحص الشرجي مثالا)، تمّ اعتماد الجانب الديني أو الشرعي أثناء تلك المحاكمات أي أنّ الحكم الصادر استند إلى مرجعيّة دينية وربما مجتمعيّة /عرفيّة أيضا في ظل غياب نص قانوني/جنائي يجرّم الفعل الصادر بشأن صاحبه حكم قضائي، نخص بالذكر في هذا الصدد محاكمة أفراد يحملون توجه جنساني مثلي خاصة من الذكور. يحيلنا ذلك بالضرورة إلى تجريم مجتمعي للمثليّة الجنسيّة كحريّة فرديّة تدْخُل في دائرة الحياة الخاصة للأفراد ووصْمِها اجتماعيا. فقد ورد في التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة أنّ ” انتهاكات حقوق الإنسان لها هدف وحيد وهو ليس تجريد الضحية من كل حقوقه فحسب بل تحطيم كل الروابط المكوّنة لهويّته كفرد كالرابطة الزوجيّة أو الرابطة مع الأبناء، وبقيّة أفراد العائلة والأبوين، بل يتعدّى ذلك ليشمل المحيط الاجتماعي والمهني والآخرين بصفة عامة وهذا يعني في النهاية تهميشا يحطّم الفرد في هويّته كمواطن بل ككائن بشري”5.
في نفس إطار الحريات ومجال الحياة الخاصة للأفراد، وجد عدد من المواطنين صعوبة في مجال الحالة المدنية إذ منعوا من تسجيل أبنائهم بأسماء من اختيارهم الحرّ عملا بالمنشور عدد 85 لسنة 1965 الذي ينص على منع تسمية الأطفال بأسماء من خارج الثقافة السائدة أي غير العربية ورفض أسماء أمازيغيّة أو أجنبيّة “مستهجنة” على حد تعبير المشرّع، تواصل العمل بهذا القانون إلى حدود 15 جويلية 2020.
على مستوى الحياة السياسية والتعدديّة الحزبيّة التي ميّزت فترة ما بعد 14جانفي2011 تصاعدت وتيرة العنف والتشنج، وكان المجلس النيابي أحد فضاءاته أو مسارحه؛ حيث تلقّى عدد من أعضائه تهديدات بالقتل زيادة عن العنف المعنوي من تلاسن ومشادات كلامية وصلت حد التشكيك في وطنيّة البعض، وتراشق بتهم الفساد الإداري والمالي. كما سُجلّت حالات للعنف المادي الذي رافق جلسات المجلس، خاصة في الفترة الأخيرة التي سبقت تجميد أعماله، وقد ندّدت بذلك العديد من المنظّمات على غرار “منظمة بوصلة” معتبرة أنّ ما يشهده مجلس نواب الشعب أدى إلى تراجع نجاعة العمل البرلماني على الرغم من صعوبة المرحلة وضرورة التقدم في إصدار القوانين والمصادقة عليها بما يخدم المسار الديمقراطي ويدفع إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحقوقيّة6 .
يعود ذلك لغياب مقومات الحوار والتعصب للرأي الواحد وعدم احترام حريّة الآخر في التعبير والقبول برأيه أو موقفه وإنْ كان مخالفا. مهّد مناخ التنازُع ذاك إلى التحريض على التصفيّة الجسديّة لينتهي بنا الأمر في فيفري 2013 إلى فاجعة اغتيال سياسي لم يقع الاعتبار من أسبابها وتفاديها لتكون قاطرة لعملية أخرى بعد أشهر فقط (جويلية 2013) .
تأثث ذلك المشهد (السياسي) برغبة جماهيرية فوّضت مسؤولياتها إلى من ينوبها عن طريق الانتخاب، وغالبا يتم الاعتماد على جوانب وجدانية-عاطفية في اختيار الشخصيات السياسية، وتزكيتها لا على أساس البرامج والأفكار التي تطرحها اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا بل لما يحمله المرشح من قناعات أو انتماءات دينية/عرقية وجنسانية؛ ويعدّ ذلك ضرب من التمييز والإقصاء على أساس الحريّات الفرديّة التي تمثل هويّات ذاتية ما تنفكّ تتطور باستمرار وتزداد تنوعا وتبدلا تماشيا مع مقتضيات الصيرورة الاجتماعيّة.
الهويّات الذاتيّة في ظلّ التغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة
الفرد أو الفاعل الاجتماعي لا يعيش بمعزل عن التغيّر المجتمعي بالتالي لا يمكن تدجين هويّته الشخصيّة أو تجميدها ومنعها من التطور والتفرّد والاختلاف في ظل نظام عالمي قائم على سرعة جنونية لرصد الخبر وتبادل المعلومات بأنواعها؛ فهو يحاول باستمرار فكّ رموز كل ما هو معطى ومثمّن ثقافيا واجتماعيا عن طريق التساؤل والشكّ كما لا يتوانى لحظة على أن يُشْهِرَ تَمايُزَه الثقافي في وجه الجماعة.
يقول في ذلك راينر فونك بأنّ هناك خاصية طباعية للأنا الموجه ما بعد حداثي ويتمثل في “رغبته لإنتاج أناه ذاتيا… يمكن القول بأن المابعد حداثي النشيط يسعى بشغف بناء أناه باستقلال عن اللوازم والضغط والقيود”7 .
فيما يخصّ درجة الوعي الشبابي (خاصة بالنسبة للفئة الأولى منه) بالحريات الفرديّة بعد 14 جانفي 2011، نرى أنّ الشباب الصاعد اليوم وجد أرضيّة نسبيا مهيئة لمناخ الحريّة بفضل نضالات كل من سبقهم والأسبق منهم، فتشكل لديه وعي بحريّة التعبير، والتظاهر، وممارسة هواياته إضافة لحريّة التنظّم والانتماء لجمعيات رياضية أو غيرها مع إعلان الولاء لها دون خوفٍ وإن كانت تلك المجموعات في صراع ومواجهة دائمة مع أجهزة الدولة الأمنيّة، التي مازالت تمارس سلطويتها وتبثُّ الخوف حتى بعد 2011.
يقول آلان توران : ” إنّنا نعيش في مجتمعات تشكّ في ذاتها لأنّها في تحوّل، والمسالك الاجتماعيّة فيها ضعيفة القدرة على المأسسة وضعيفة الرقابة، والفردانيّة مهيمنة”8 .
المقصود بالمسالك الاجتماعية والمأسسة هنا هي مؤسسات التنشئة الاجتماعية وأهمّها الأسرة والمدرسة، ومن ارتدادات تراجُع دور تلك “الحاضنة الاجتماعية” وتَقلُّص حضورها في حياة بعض الأفراد ضُعف أواصر “التضامن الآلي”، حسب تعبير دوركايم، الذي ينشأ نتيجة للعواطف ونجده في المجتمعات التقليدية، ليصبح ” تضامنا عضويا” يقوم على تقسيم الوظائف وهو من سمات المجتمعات الصناعية/الحديثة التي تطغى عليها الفردانيّة في مفهومها الشمولي أي بما تعنيه من حريّات وتفرد في الذاتيات.
خصّص إدغار موران في كتابه ” دروس قرن من الحياة ” الصادر مؤخرا (جوان 2021) الفصل الأوّل للحديث عن الجانب التعدّدي للهويّة وقد جاء تحت عنوان “الهويّة واحدة ومتعدّدة” معتبرا أنّ “رفض هوية أحادية أو اختزالية، والوعي بالوحدة/التعدديّة للهوية هما من ضرورات الصحة العقليّة لتحسين الروابط الإنسانيّة”9.
في المجتمعات القديمة كان الفرد يُعَرَّف ويُعْرَف من خلال انتسابه للمجموعة أو”الكل”(النسب/القبيلة/العشيرة..) فالهويّات الفرديّة أو الذاتيّة منصهرة كليّا في الهويّة الجماعيّة بذلك لا يحق لأي فردٍ التصرّف أو اتخاذ قرار بشكل فردي/ أحادي، كالزواج مثلا، دون الرجوع للوحدة القبليّة أو العشائريّة الكبرى التي ينحدر منها. لذلك تعدّ “الفردانيّة” والحريّة الذاتيّة من سمات المجتمعات الحديثة التي عرفت بدورها أشكالا أخرى في محاولة لإحكام لجام الحريّات وعلى ضوءها الهويّات الذاتيّة.
الهويّة الجماعيّة والهويّات الفرديّة: تصادم أم تكامل؟
الشّعار الذي نادت به الثورة “شغل، حريّة، كرامة وطنيّة” كان يحمل إلى جانب المطالب الاجتماعيّة والاقتصادية آمال وانتظارات شريحة هامة من المجتمع تطمح للتنفس في مناخ ديمقراطي يكفل حق الاختلاف ويدافع عن الحريات الفردية.
فقياسا على أن الدولة بمدنيتها تكفل لمواطنيها حرية المعتقد، حسب نص القانون، فبم نفسّر ما لحق ببعض المواطنين أو ربما أغلبهم من “غير الصائمين” في شهر رمضان (من المسلمين وغير المسلمين) من ملاحقات ومسّ من كرامتهم وصل حد التكفير وتهديد حرمتهم الجسدية إمّا من قبل مواطنين آخرين يتقاسمون معهم نفس الوطن أو من بعض أجهزة الدولة الأمنية التي اعتمدت القوّة أحيانا لمنع عمل المقاهي والمطاعم طيلة شهر الصيام؟
بناءً على ذلك يبدو الصراع، إن صحّ التعبير، جليّا بين الهوية الجماعية (الأغلبية) وبين الهويّات الفرديّة أو الذاتية (الأقليات الدينية والعرقيّة مثلا) نتبيّن من ذلك جدليّة المجتمع والقانون؛ بمعنى أنّ القانون لا يمثّل مختلف الأفراد أو المواطنين بتعدُّديتهم؛ فكثيرا ما يكون الجانب التشريعي مجرد ادعاءً خطابيًا لتلميع صورة النظام أمام الرأي العام الدولي بشكل تفقد فيه عدّة أسس جوهرها مثل مفهوم المواطنة؛ التي كما يصفها المسكيني “لا تزال في ثقافتنا فكرة هلاميّة فارغة من أي محتوى حقيقي، لا وجود لدينا لأي مواطن نشط… المواطن الذي يشارك في صنع الحالة القانونيّة كجزء جوهري من حقه في الحريّة الموجبة”10 .
نحن إزاء توجّهين : توجّه أولئك الذين يفكرون نظامًا (système) في ضوء المبدأ المركزي للسلوك، في مقابل توجُّه الحريّة ويمثّله أولئك الذين يفكرون فاعلاً (acteur) ضمن مسألة العلاقات الاجتماعيّة وتعدد الصراعات بين الفاعلين-الأفراد من ناحية، وبينهم وبين النظام من ناحية أخرى. إذ يقع ربط الحريّات في المخيال العام بالفوضى والانفلات من القانون والمؤسسات، كما لو أنّها حالة الطبيعة السابقة للدولة لذلك لابدّ من سلطة ردعيّة لإحكام النظام والمحافظة على حالة اللافوضى، في حين أنّها حريّات مدنيّة تضمنها نصوص تشريعيّة دوليّة ووطنيّة في إطار الحقوق الأشمل وهي حقوق الإنسان.
فالدولة /الأمّة لا ترى على إقليمها غير كائنات “هوويّة” بلا أيّ مخزون فردي أو خاص. إنّ شعارها الرسمي هو: الهويّة قبل الذات ولذلك فهذه الكائنات الهوويّة لا يحقّ لها أن تمرّ من “الساكن” إلى “المواطن” إلاّ من خلال تذكرة هوويّة رسميّة 11 .
ما المنشود؟
إنّ حدود الحريّات الفرديّة لا يمكن أن ترسُمها التقاليد أو رجل الدين أو السياسة أو الأمن أو المجتمع بشموليته بل حريّة الآخرين؛ أي ألاّ تشكل تلك الحريّات خطرًا أو تعدٍّ عل بقيّة الحريّات في المجتمع.
لذلك كان حريًّا بالطرح القانوني في تونس أن يخرج من دائرته الضيقة في ظلّ سياق عالميّ انفتحت فيه العلوم السياسية والقانونية على علوم أخرى ومقاربات جديدة (أنثربولوجيا القانون، علم الاجتماع السياسي، الأنثربولوجيا السياسية، وعلم النفس السياسي والمقاربة الثقافية للقانون، …) أثبتت مدى أهميّة توسيع دائرة النظر والتفاعل بين مختلف المقاربات بما يخدم جميع المواطنين دون استثناءات مراعاةً لمختلف التباينات، وقد يساعد ذلك على حسم الجدل القائم بين المجتمع (أفرادا وجماعات) والقانون الذي قد يقابل بالرفض أحيانا (قانون 52 المتعلّق بقضايا الاستهلاك للمواد المخدّرة مثالا) .
فالاختلاف يفضح هشاشة المنظومة القانونيّة المحليّة وحتى -الثقافيّة- الهوويّة القائمة، ممّا يدعو ضرورةً إلى مراجعة بعض مقوماتها. في السياق ذاته أوصت هيئة الحقيقة والكرامة في تقريرها الختامي بضرورة تنقيح القانون الجزائي بطريقة تفضي لملائمته مع مقتضيات الدستور التونسي والمعاهدات الدولية وذلك بتحديد الاستثناءات بطريقة لا تدع مجالا للتأويل الواسع عند مرجع النظر. كما دعت لإلغاء جميع الأحكام التشريعيّة أو الترتيبيّة التي تمسّ من الحريّات الفرديّة وتطال مجالات الحياة الخاصة للمواطن12 .
ختاما، نخلص للقول بأنّ الواقع الذي تفرِزُهُ الاستراتجيات الهويّاتيّة الثقافية والتعايش المجتمعي ضمنها؛ يمثل الوجه الآخر لسياسة الدولة ويعكس حقيقةً طبيعة النظام داخلها، لذلك لابدّ من إيجاد استراتجيات بديلة وتطوير آليات التعاطي مع الاختلاف وحوكمة التعدديّة الثقافية/الهوويّة بشكل يجعل التنوّع يفضي إلى الوحدة لا للصراع والتفرقة.
الهوامش
- ابي عاد(رندى)،”حصون وشرفات: استراتجيات الهويّات الثقافية ومسألة الغيريّة“، موقع مؤمنون بلا حدود، 4 ماي 2021
- الغيلاني (محمد) ،”الهويّة والاختلاف في قضايا الدين والمجتمع: الهوية هي الاختلاف”، موقع مؤمنون بلا حدود، 23 سبتمبر 2020.
- جوردن(مارشال)، موسوعة علم الاجتماع، المجلد الأول، ترجمة محمد الجوهري وآخرون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2000، ص230.
- جعيط (هشام)، أزمة الثقافة الإسلامية، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2000، ص11.
- هيئة الحقيقة والكرامة، التقرير الختامي الشامل، 2020 ، ص .299.
- منظّمة البوصلة، “مجلس نوّاب الشعب: وضع يزداد تعفّنا في سياق مليء بالرّهانات”، 19/3/2021، منشور على موقع المنظّمة: www.albawsala.com
- فونك (راينر)، الأنا والنحن: التحليل النفسي لإنسان ما بعد الحداثة، دار جداول للنشر، بيروت، 2016، ص.ص.114-115.
- ورد في: بن جنات (زهير)، التنمية المحليّة والتغير الاجتماعي-مسارات نشأة فاعل جديد بريف صفاقس، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس،2006-2007.
- ادغار موران، “الهويّة واحدة ومتعدّدة”، تقديم وترجمة خديجة زتيلي، متوفّر على موقع “كوّة”: couaa.com
- المسكيني (فتحي)، الهويّة والحرية:نحو أنوار جديدة، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى،2011، ص.242.
- المسكيني (فتحي)، المصدر السابق، ص.240.
- الفرشيشي (وحيد)، “الحريّات الفردية ضمان اللا رجوع” ضمن: هيئة الحقيقة والكرامة، التقرير الختامي الشامل، 2020، ص13.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 11، جانفي 2022، ص. ص. 10-13.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf11.tounesaf.org