في الفتنة والقابلية لها

قراءة في كتاب الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر

المصدر: alkirtas.com

بقلم: عماد قيدة

ظهر كتاب الفتنة للمؤرخ والمفكر التونسي الراحل هشام جعيّط باللغة الفرنسية سنة 1989 وترجم إلى العربية سنة 1991 عن دار الطليعة البيروتية.

وقد حظي منذ ذلك الوقت بطبعات عديدة وانتشار محترم بين الأوساط الأكاديمية والقراء غير المختصين على حد سواء، أكثر من أي كتاب آخر له، وذلك لثراء محتواه وللأسلوب المحكم الذي تمتاز به أغلب مؤلفاته، فضلا عما اعتبره جانب من القراء جرأة فكرية في تناول أحداث وشخصيات إسلامية، وعلى رأسهم الصحابة، أحاط بها التراث الفقهي وكتّاب السيرة هالة من القداسة والعاطفة المفرطة التي أغشت عيون المسلمين لقرون عن رؤية تاريخية موضوعية لما كان حدث بالفعل.

تأتي أهمية كتاب الفتنة من خلال التشديد على الجدلية التي يجعل منها جعيّط عنوانا فرعيا لكتابه: الدين والسياسة وتداخلهما منذ نشأة الإسلام، التجاذبات بينهما منذ لحظة النبوة، مرورا بفتح مكة، وانتصاب نواة الإمبراطورية واصطفاف العرب، حضرا وقبائل، وراء مشروع الأمة الموحدة، وصولا إلى حقبة التفكك والانفلات والهدم الذاتي التي يتناولها الكتاب بالسرد والتحليل: الفتنة.

 بذور الفتنة

من بين جميع كتبي، يظلّ الفتنة الأكثر مقروئية، ربما لأن المسلمين يحسون أنهم في حالة فتنة دائمة” *

إن هذه الجملة التي أدلى بها المؤلف في أحد اللقاءات تقول الكثير عما يمكن اعتباره سيكولوجيا جمعية تأثرت بحدث الحرب الأهلية في دار الإسلام، والمسماة بالفتنة الكبرى، فضلا عن بذورها التي كانت منثورة منذ البداية في تراب الإمبراطورية الناشئة وقتذاك.

تتصدر قضية تداخل المسألة الدينية والقيادة السياسية تلك الأسباب التي جعلت من التقاتل والانقلابات المتتالية عنوانا لحقبة صدر الإسلام، وفي كتاب جعيط، بإمكان القارئ أن يلمس العمل الشاق الذي قام به المؤلف ساعيا إلى الإلمام بتفاصيل تاريخية ضيقة اعتبرها بمثابة منعرجات حاسمة كانت الغلبة فيها للجانب الديني تارة، وللجانب السياسي تارة أخرى. من تلك الأحداث، ولعله أهمها، حادثة اغتيال الخليفة عثمان بن عفان، والإرهاصات التي سبقتها، ما بين شق من المسلمين يتمسك بالبيعة والطاعة السياسية لخليفة منتخب (من قبل بقية الصحابة) حتى وإن لمس اعوجاجا في سلوكه تجاه أموال الأمة وسياسته التي عُرفت بالمحاباة العائلية، وبين شق كان قد اكتشف للتو القدرة الكلية للقرآن من حيث كونه السلطة العليا التي لا سلطة لبشر عليها، والتي ينبغي أن ينطلق أي إصلاح أو تقويم لاعوجاج وظلم ومحسوبية من بين سطوره. هذا الشق كان يمثله ما سمّي “القرّاء”، وهم جماعة مقاتلة أخذت على عاتقها في الكوفة همّ حفظ النص المنزّل وتحفيظه والسهر المتشدد على تطبيق تعاليمه:

ما ينبغي التوقف عنده هو هذا الاستناد إلى القرآن في رؤية الحياة والسياسة، من جانب أقلية فاعلة. إنه دخول كثيف للقرآن في التاريخ الآخذ في التكوّن. لكن المفارقة هي أن القرآن إذ بقي صامتا حول المسار الدقيق لحكم الناس، لا يمكنه أن يؤسس ثقافة سياسية ولا حتى نقدا للسلطة.” (ص. 122)

ولئن كانت هذه الجدلية الدينية/السياسية هي التي لعبت الدور الأكبر في الفتنة وما تبعها من انقسامات وظهور لأحزاب كالعثمانية والشيعة والخوارج، وبعضها لا يزال قائما إلى اليوم، فإن تلك الهشاشة التي شهدتها المؤسسات السياسية للإمبراطورية الإسلامية، والمتمثلة أساسا فيما أسمته الباحثة التونسية حياة عمامو “هاجس الشرعية في صدر الإسلام”، فإن أمورا أخرى لعبت دورا مهما في بروز الانقسامات والعدد الهائل من الفاعلين في مظاهر العصيان والثورة والاغتيال والثأر، والفتنة عموما.

يرفض الباحث الأردني د.هشام غصيب مصطلح “الفتنة” معتبرا إياه لفظا غير علمي:”ما حصل هو عبارة عن صراع اجتماعي طبيعي”  يمثل طرفاه الرئيسيان عثمان سليل الأمويين، الذي ضاعف من نفوذهم وترفهم بعد تنصيبه خليفة، والطرف الثاني هو علي بن أبي طالب، مرشح الفقراء والساخطين على فساد الأرستقراطية الأموية.

لكن جعيط، وإن كان لا ينكر حتمية الصراع الاجتماعي على النفوذ و”الفائض”، إلا أنه يسلك نهجا آخر في تفسير حقيقة ما حدث، وتشخيص اللحظة الفارقة التي جعلت كل القروح تظهر من جديد وبقوة في جسد الشعب العربي مسفرة عن انقسام وتحارب أشد عنفا من عنف الجاهلية ربما:

إن هذا النبي وهذين الشيخين (أبو بكر وعمر)، كانوا مترابطين ببعضهم برباط الصحبة المحض بقدر ما كانوا مترابطين بتوكيد فضل شخصي. فالنبي، الذي كان بعيدا أن يكون رجل مدينته القوي، اصطفاه الله لكي ينقل رسالته. وكان أبو بكر ينتمي الى عشيرة صغيرة من قريش وكذلك عمر: من دون شرف اجتماعي حقيقي، وفقا للأعراف القديمة. لكن الثلاثة كلهم كانوا قد أسسوا التاريخية الجديدة وبالتالي كانوا يرتفعون فوق الحالة البشرية العادية. مع عثمان ـ وبينما كان كل شيء قد شيّد ـ دخل الإنساني العادي في اللعبة. إنها نهاية الحالة الاستثنائية المتعالية فوق القيم العادية لقرابة، للمصالح، لرغبة السلطة” (ص131)

تصطبغ الصراعات الاجتماعية والطبقية إذن عند جعيط بطابع لاهوتي أو عقائدي ما ينفك يدور حول فلك هاجس الشرعية المفقودة، والتي بلغت ذروتها في حرب الكل ضد الكل: معاوية ومعه أهل الشام، علي وأهل المدينة والكوفة، عائشة وطلحة والزبير بعد تجييشهم للمكيين ثم استيلائهم على البصرة … فبذور الفتنة التي ظنّ النبي والخليفتان الأولان أنهما قد قضيا عليها، من خلال توحيد العرب وإرساء إمبراطورية قوية ذات نظام ضريبي معقد ومحكم، ووضعوها على سكة التوسع من خلال فتوحات تضع نصب عينها، فضلا عن الغنائم والثروات الموعودة، نشر كلمة الله وحكم شريعته للعالم بأسره. هذه البذور عادت لتظهر مع أول غيابٍ للكليّ المقدس واللابشري، حين تدَخّل الإنساني (الممثل في تصرفات عثمان) الذي ثار عليه قرّاء الكوفة.

ويبقى السؤال مطروحا حول ما إذا كانت الحرب الأهلية المسماة بالفتنة لتكون، بالطريقة الوحشية التي يخبرنا بها جعيط على الأقل، لو أن النص المؤسس للإسلام، وسنّة النبي في مرحلة ثانية، كانا قد تركا للمسلمين آلية “ديمقراطية” بالمصطلحات الحديثة، كان من شأنها أن تمنع ذلك الصراع الدموي الذي امتد إلى اليوم.

وبصرف النظر عن آلية الشورى (بين الصحابة) التي وضعها عمر قبل اغتياله، هل كان هو وسلفه أبو بكر، والنبي من قبلهما، على وعي بهشاشة الرابط الإيماني الذي توحّد تحته العرب، بعد قرون من جاهلية لا يحكمها سوى التقاتل والغارات والثأر والإبادة الجماعية لأبسط الأسباب؟

المسألة الإيديولوجية في كتاب الفتنة

لعل “الفتنة” إلى جانب ثلاثية جعيط في السيرة النبوية، و”أوروبا والاسلام”، هو من أكثر كتبه إثارة للجدل عامة، واستثارة لردود أفعل متباينة بشكل صارخ، حول الإيدبولوجيا التي يتبناها الكاتب في حكمه على الوقائع والشخصيات التاريخية، وهو ما جعل منه مفكرا عصيّا بحق عن التصنيف.

يرى تلاميذ جعيط والكثير من قرائه أن الراحل كان لا يخضع لأي تصنيف إيديولوجي ضيق، ذلك أنه قد دخل مجال التأريخ والتفلسف وقد تحرر إلى أبعد الحدود من الاستقطاب الثنائي الذي لوّث الفكر والثقافة العربيين ولا يزال، بين الموروث والتحديث، العلمنة والأسلمة، الفلسفة المادية وروحانية الإسلام والأديان عموما. استطاع جعيط بالتالي أن يجترح لنفسه منهجا شاملا وموسوعيا، متشبعا بالمصادر الكبرى والفرعية للمدونين التاريخيين العرب،من أمثال الطبري والبلاذري، كما انكبّ على دراسات المستشرقين للإسلام وعمل على انتقاء الجيد وما يمكن الاعتماد عليه من روايات المستشرقين عن تاريخ الإسلام المبكر.

أما بخصوص المنتقدين لمنهج جعيط في تدوين التاريخ، والذي يسميه هو “منهجا علميا دون التخلي عن حدس المؤرخ وعن انتمائه إلى هذه الحضارة” ، فقد اخترنا في هذا المقال أن نتناول ما ورد في نصّين نالا نصيبا من الشهرة، بالرغم من كونهما متناقضين حدّ التنافر فيما بينهما. الأول هو كتاب بعنوان “الاستشراق والمستشرقون في فكر هشام جعيط” (منشورات الجمل، بيروت، 2016) لأستاذ الفلسفة التونسي محمد المزوغي والثاني هو مقال لأستاذ علم الاجتماع المصري أحمد إبراهيم خضر بعنوان “تجديد الإسلام في غابة فرنسية” (موقع الألوكة 2010)

يذهب المزوغي في كتابه إلى حد نزع أي صفة علمية جدية عن مشروع جعيط، ومن ضمنه كتاب الفتنة، متهما إياه بالتزوير الشامل للتاريخ والعداء للعقلانية والتحامل على المستشرقين، الذين لم يتمكنوا من إنتاج كمّ هائل من الدراسات النوعية عن الإسلام والشرق عامة إلا حين أزاحوا الحكم العاطفي والانتماء العقائدي جانبا واكتفوا بتكريس أدوات الفيلولوجيا وعلم التاريخ الحديث، ويخصص المزوغي العشرين صفحة الأولى ليبيّن للمؤرخ الفرنسي مكسيم رودنسون أن رأيه في جعيط “كمؤرخ موهوب ومفكر لامع وذكي”* إنما يأتي عن جهل بمجمل أعماله التي يرى ـ أي المزوغي ـ أنها تحتفي بالرجعية والتعصب الديني ونبذ أهل الديانات الأخرى.

أما عن الدكتور أحمد ابراهيم خضر، فيرى على النقيض تماما، أن صاحب كتاب الفتنة “علماني مقنع” يعاني كغيره من دعاة العلمانية بأنواعها من التبعية لنطاقات المعرفة الغربية حيث يقول:

هذا هو ما حدث (لمفكرنا التونسي): تـــورط مع (فرويد) في (وهم الدين) وتورط مع (إميل دوركايم) في (نزع الدين من الأخلاق)، وتورط مع (مارلو بونتى) (بوجود إلهين): أحدهما داخلي والآخر خارجي، وتورط مع (هيجل) عندما حلل الإسـلام في ضوء كتابه (روح المسيحية ومصيرها) فاعتبر أن الله ليـس بحقـيـقـــة، وأن الـرســـول-صلى الله عليه وسلم- كان يشعر بالنقص أمام التكبر اليهودي، وأن اكتساحه لهم في المدينة نتج عن حقد شخصي عليهم، وتورط مع (هاردر) في مقولته: (إن الدين روح لبشرية ما زالت في الطفولة، وأن على العقل أن يـتـحـــرر من الدين بدخول العصر الحديث.

في النهاية يبقى كتاب الفتنة وثيقة هامة بالرغم من الانتقادات والاستقطاب الثنائي (التي تضاعف بعد رحيل جعيط) لأسباب تتعلق بكل سطر في هذا الكتاب المرجعي والذي يحتاج بالفعل إلى كتب أخرى تدرسه بتمعن بريء من الأدلجة، التي ارتكز مشروع جعيط بالأساس على محاولة تفاديها.

نشر هذا المقال ضمن مجلة حروف حرّة، العدد الخامس، جويلية 2021، ص. ص. 9-11.

كامل العدد متوفّر على الرابط التالي:

https://tiny.cc/hourouf5

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights