في المسرح الرحباني: “ميس الريم”…الكوميديا الحائرة
|بقلم: حمزة عمر
لعلّ مسرحيّة “ميس الريم”، التي عُرضت للمرّة الأولى بمسرح البيكاديلي ببيروت سنة 1975، هي الأشهر بين مسرحيات الرحابنة. قد يعود ذلك إلى رنين اسمها الموسيقي، أو إلى سعة انتشار الأغاني التي أديت فيها (“سألتك حبيبي”، “آخر أيّام الصيفية”، “حبّوا بعضن” “كنّا نتلاقى”، “يا مختار المخاتير”…) أو تميّز مقدّمتها الموسيقيّة الأولى. وقد يرجع ذلك إلى طرافة أحداثها، أو إلى جودة الحوارات الغنائية فيها، أو إلى ذيوع تسجيلها التلفزي، أو إلى كلّ ذلك…
في طريقها لحضور عرس ابنة خالها بـ”كحلون”، تتعطّل سيّارة زيّون (فيروز) بقرية ميس الريم. ويتّضح أنّ إصلاحها ليس بالأمر الهيّن، فنعمان (ايلي شويري)، الميكانيكي الوحيد يالقرية، حزين ويرفض العمل بسبب خلافه مع خطيبته شهيدة (هدى حدّاد). وقد أجّج هذا الخلاف عداوة متأصّلة بين عائلة والديهما راجي (نصري شمس الدين) وحاتم (جوزيف ناصيف) منذ عشرين عاما ممّا صعّب من إمكانية الوصول إلى صلح. تحاول زيّون، المستعجلة للحاق بالعرس، التدخّل لتقريب وجهات النظر، لكنّها تجد نفسها متّهمة بإثارة الخلاف، ويزداد الأمر تعقيدا لمّا يتدخّل مخاتير القرى، وعلى رأسهم مختار المخاتير (ايلي صنيفر)، لفضّ النزاع.
العلاقة بين نعمان وشهيدة لا تخلو من التعقيد. هما متحابان، وعندما تمّت خطبتهما، تهيّأ للجميع أنّ الأحقاد القديمة، التي يُجهل مصدرها، ستُدفن. لكن تحت الرماد ظلّت جمرة الخلاف متّقدة. وبسبب شجار بسيط بين الخطيبين، تعود الأمور في القرية إلى نقطة الصفر، أو حتّى قبلها. تحوّل خلاف العاشقين إلى مسألة شرف وكرامة لا يمكن التهاون بشأنها. هما يكتشفان بسرعة، نسبيّا، بساطة الذي وقع ويحاولان تداركه. يهمّ نعمان بالاستجابة لاقتراح مختار المخاتير في أن يطلب السماح من خطيبته، لكنّ عمّته تتدخّل وتمنعه في حزم من ذلك. يُدرك الخطيبان أنّ الزمام أفلت من أيديهما، وأنّ قضيّتهما “دوّلت”.
يتطوّر موقف زيّون من هذه القضيّة. في البداية، لم تكن سوى عابرة سبيل ألقتها المقادير في هذه القرية، وكانت نظرتها إلى الأمور نفعيّة تماما: لا بدّ أن يتجاوز نعمان ما به ليصلح سيّارتها وتكمل سيرها، يل أنّها تتعهّد لعمّته بأنّها ستجعل الانفصال بينه وبين شهيدة نهائيا. لكنّها سرعان ما تتأثّر بوقع الفراق على نفس الحبيبين وتتبنّى قضيّتهما. اتهّمت مرارا أنّها فضولية، وقد لا يخلو ذلك من حق، لكنّه فضول إيثاري إن صحّ التعبير، إلى حدّ يدفع “النسناس” (جوزيف صقر) إلى أن يسألها: لم يشعر المرء أحيانا أنّ المسألة تعنيه حتّى إن لم تكن تتعلّق به البتّة؟ فتجيبه، في مثالية مغالية تتجاوز الردّ على السؤال: ما أحسّ أحد بالألم في أقصى الدنيا إلّا وشعرت به ! وتحافظ على حيادها تجاه نزاع العائلتين، إلى حدّ أنّها تفضّل المبيت بالساحة على قضاء الليلة في ضيافة راجي كي لا تُتّهم بالانحياز. وفيما بعد، كان حوارها مع مختار المخاتير حاسما في حلّ عقدة الخلاف.
ومختار المخاتير هذا شخصيّة فريدة. فلئن كنّا تعوّدنا على حضور شخصية مختار القرية في مسرحيات الرحابنة، منذ جسر القمر، فلم نشهد مثيلا لسلطة تعلوه في عالم القرية الرحبانية. في البداية، يكون حاضرا بالغياب وذلك طوال الجزء الأوّل من المسرحية. ولمّا يُذكر أنّ عائلة راجي قرّرت الالتجاء إلى حكمه، ينبّههم الشاويش (وليم حسواني) أنّ هذا القرار لن يعود عليهم إلّا بالوبال. وقد كان فعلا أعرف برئيسه، فمختار المخاتير يقرّر أنّ أفضل حلّ لهذا الخلاف أن يتزوّج هو بشهيدة، وهو ما أدخل الارتباك على كلتا العائلتين.
تبدو صورة مختار المخاتير حافلة بالتناقضات. هو يحظى بخصائص ممثّل السلطة شكلا ومضمونا. شكلا في امتلاء بدنه وطول شاربه وأناقة طربوشه، ومضمونا في بيروقراطية تصرّفاته (حدّ أنّه انتدب “أركسترا مسلّحة” لتغنّي لخطيبته بدلا عنه، وينيب شاويشا ليقبّلها باسمه !) واستغلاله لنفوذه ونرجسيته المفرطة. لكن يتّضح في النهاية أنّ ما يبدو اعتباطيّا وأنانيّا في قراره الزواج بشهيدة لا يخلو من حكمة، وفي حواره الأخير مع زيّون يكشف جانبا من الألم الذي يعصف به جرّاء الوحدة.
وبغضّ النظر عن مختار المخاتير، كانت صورة ممثّلي السلطة في المسرحيّة سلبية تماما. جميع المخاتير هم من الشيوخ الواهنين المتنفّذين. أحدهم منذ خمسين سنة يُعزل ويُعيّن مجدّدا. الآخر شيخ محني الظهر ومع ذلك يتصنّع المشي بسرعة. والثالث تزوّج منذ يومين لسابع مرّة (ولم يصل لأنّه مات على الطريق). وجميعهم يلازمون الصمت ولا ينبسون ببنت شفة في حضور مختار المخاتير. حتّى استقبالهم من قبل الأهالي، ورغم مهابة الموسيقى، لم يخل من سخرية من “خلودهم” في مناصبهم، فهم “أبطال الأيام البخيلة يا اللي شواربهم شابت عالمجد، واحتمى التاريخ فيها من البرد”. أمّا رجال الشرطة، فمرتبكون تائهون لا يكادون يملكون الحدّ الأدنى من النجاعة، حتّى أنّهم يعجزون عن فضّ الاشتباكات فيلجؤون إلى تنظيمها وتحديد الأسلحة التي ستستعمل فيها. ويبلغ بهم الأمر حدّ تصنّع البلاهة. قبيل النهاية، يأتي أحد الحرّاس (زياد رحباني) إلى زيّون ويسأل لماذا سيّارتها ملقاة في الطريق، مع أنّها السبب في كلّ أحداث المسرحيّة. يصمّ أذنيه عن شرحها ولمّا تصرّ، يقول لها: “ما بفهم قلتلك، شو بدّك تفهميني؟؟”
في هذا الجو المشحون، كانت شخصيّة النسناس مثالا لعدم المبالاة التامة. هو ذلك السكران المتشرّد الذي يقف على الهامش (يتحوّل إلى محبّ للشعر في النسخة المتلفزة). لا يعني ذلك أنّه لا يتابع ما يحصل، بل أنّه مستوعب للموقف بشكل تام حتّى أنّه أصبح بإمكانه توقّع ما ستفعله الشخصيات المتنازعة. لكنّه يخيّر ألّا يفعل شيئا، فقد يئس من كلّ تغيير. يندهش من قلق زيّون وحرصها الشديد على إيجاد الصلح، ويرى أنّ الحلّ يكمن في اللامبالاة وحدها (“التطنيش”)، فيقول لها: “ما فيك تطنشي؟ أنت أحلى من الشاويش؟ الشاويش مطنـّش…المخفر مطنـّش …المجوَّز مطنـّش …بلد بإمّو وأبوه مطنـّش…أيّام تطنيش”. زيّون ترفض ذلك وتصرّ على “حشر أنفها” في المسألة حتّى تنجلي. هو لا يرى خلاصا إلّا في زجاجة الخمر. فيقول في مرارة “الواحد لازم يظلّ يشرب حتّى ينسى الحقيقة…الحقيقة بتموّت يا زيّون”.
الحقيقة هي الغائب الأكبر فيما يحدث بالبلدة. تتساءل زيّون إن كانت توجد حقيقة فيما يحدث، فيجيبها مختار المخاتير: لا توجد حقيقة سوى ما يحدث. الخلاف قديم مهترئ نُسيت أسبابه ولم تظلّ سوى تلك العداوة المستحكمة في القلوب. يصرّ راجي على أنّ الحق في جانبه، فيسخر منه مختار المخاتير: “تعيش وتاخد عمرو، وين بعد في حق؟ الله يرحمه !” ولمّا يصرّ الحرّاس، بناء على إجماع الأهالي، أنّ زيّون هي سبب المشكل، تلعب هي على ضبابية الرؤية لتصوغ الموقف بطريقة سفسطائية تبرّئها من هذه التهمة “فإذن يا حراس الأهالي متفقين، وإذا هني متفقين بتكونوا غلطانين، وإذا انتو مش غلطانين بيكونوا هني مش متفقين، وإذا كانوا مش متفقين بكون أنا مش سبب المشكل”.
تكرّرت الحوارات بين الحرّاس وزيّون، وكان عدد منها مغنّى. وفي الحقيقة، تعدّد الحوارات المغنّاة شكّل أحد السمات اللافتة في المسرحية بشكل قلّ نظيره في الأعمال الأخرى. الطابع الأوبرالي في “ع بكرا بكّير” لا نجد مثيلا له إلّا في مسرحية “المحطّة”. بساطة المضمون وخفّة اللحن يجعل بعض هذه الحوارات يرسخ بسهولة في الأذهان، وأشهرها الحوار الختامي “هالسيّارة مش عم تمشي”. بل أنّ عددا من الأغاني (الفردية) التي لا يمكن أن تفهم معانيها إلّا من خلال سياق المسرحية حقّقت انتشارا واسعا وصارت تغنّى بشكل منفصل، كـ “يا مختار المخاتير” و”آخر أيّام الصيفية”. وهذا النجاح يجعل من الأغاني الدخيلة على السياق، وهي عادة رحبانية متأصّلة كما أشرنا في مقالات سابقة، غير مبرّرة بالمرّة فهي، وإن كان لا يتطرّق الشكّ إلى قيمتها في ذاتها، تشوّش على تسلسل الأحداث ولا تشدّ المستمع/المتفرّج كما تفعله الأغاني السياقية. مثلا، في مجرى معاكس تماما للقبض على أبي حلقة وغندور، تنبري فيروز لتغنّي “كنّا نتلاقى من عشيّة”. وبينما وقع الوجوم على العائلتين بعد حكم مختار المخاتير، يقوم نصري الشمس الدين لينشد “يا مارق عالطواحين” المرحة.
وقد توزّعت المسؤوليات في تلحين مقاطع المسرحية على أبناء العائلة الرحبانية بجيليها، كما في مسرحيّة “لولو”، مع منح حيّز أكبر لإلياس وزياد رحباني. ففيما كتب الأخوان رحباني كلّ الكلمات (باستثناء “يا مارق عالطواحين”) ولحّنا أغلب الأغنيات، لحّن الياس وكتب “يا مارق عالطواحين” ووزّع موسيقى “يا لور حبّك” ولحّن المقدّمة الثانية و”فالز الحب”. أمّا زياد، فقد لحّن “حبّوا بعضن” وخاصة المقدّمة الأولى التي كانت برهانا على نبوغه المبكّر، وهو الذي لم يبلغ العشرين من عمره آنذاك.
لا نحتاج إلى تحليل معمّق لرسم التوازي بين المسرحية والواقع. حسبنا أن نشير أنّ “ميس الريم” هو جمع بين اسمي بلدتين لبنانيتين: ميس الجبل (محافظة النبطية) ذات الأغلبية المسلمة وقاع الريم (محافظة البقاع) ذات الأغلبية المسيحية، لتتحوّل ميس الريم إلى نموذج للبنان، الذي دخل في ذلك العام حربه الأهلية الطويلة، بتنوّعه وتناقضاته الكثيرة. في تدبير كلّ من رئيسي العائلتين للاعتداء على نظيره، واستئجارهما لمجرمين محترفين لهذا الغرض، نلمح تماهيا مع حوادث مماثلة شهدها لبنان ووصلت حدّ الاغتيال. المثير للاهتمام أنّ الرحابنة اختاروا التطرّق إلى هذا الوضع الشائك للغاية من زاوية الكوميديا. أ تكون التناقضات بلغت من الحدّة إلى درجة جعلت الضحك عليها أقصر السبل إلى معالجتها؟
يبدو أنّ الأمر أعمق من ذلك. لنعد إلى التحوّلات الكبرى في المسرحية. زيّون، بمجرّد استماعها إلى حوار قصير بين الحبيبين، تغيّر رأيها فتتحوّل من حريصة على فراقهما إلى مساندة لهما. مؤامرة الاعتداء على حاتم وراجي تُكتشف بفعل الصدفة لأنّ زيّون كانت غافية بالقرب منهما لمّا كانا يتحدّثان. بضع ثوان من الحوار بين زيّون وراجي كانت كافية ليتحوّل موقف هذا الأخير إلى البحث عن الصلح مع غريمه. لمّا تأزّمت الأحداث، انفرجت الأمور فجأة بعد حوار مختار المخاتير وزيّون ليكشف هذا الأخير أنّ ما حصل كان مجرّد خدعة لتتقارب العائلتان…في كلّ هذه الأحداث، كان الانفراج فجئيا، بل ويكاد يكون سحريّا، ولا يحمل أيّ تفكيك حقيقي لبواطن الأزمة. نتساءل مثلا: إذا كانت لمختار المخاتير هذه السلطة على العائلتين، لم لم يستعملها في وقت مبكّر؟
إنّ الكوميديا تقوم تقليديا على التناقض. وبغضّ النظر عن التناقضات داخل المسرحية بين الشخصيات والأحداث كان هناك تناقض أبرز بين الحلم الرحباني والواقع القاتم. ارتطمت المثاليات الرحبانية، القائمة على لبنان “أخضر حلو” أسطوري لا زمني، بحرب دامية أطرافها الإخوة في الوطن. كأنّنا بالرحابنة كانوا عاجزين عن استيعاب ما يحدث ويصرخون: هذا ليس لبناننا، فجلسوا على ربوة الحلم يهزؤون بالوضع الراهن دون فهم عميق لتعقيداته. كانت ميس الريم كوميديا الحيرة…كوميديا الذهول…كوميديا الصدمة. نلمح ذلك خاصة في شخصية زيّون. كانت هي الغريبة التي قدمت إلى القرية لتصلح بين أهلها. كانت إليهم رسولة السلام الغائب عنهم، غريبة بينهم غرابة الحلم الرحباني في ذلك الوطن الممزّق. وكأنّنا بالرحابنة يحاولون زرعها قسرا في ذلك الواقع العصيّ، ويبتكرون من أجل ذلك حلولا عجائبية ساذجة لتعقيدات المسرحية. لننظر كذلك إلى النهاية التي يعتريها ارتباك واضح بين التفاؤل والتشاؤم. يحلّ المشكل بين نعمان وشهيدة (تفاؤل)، ولكن نعمان يتنكّر لزيّون ويمتنع عن إصلاح سيّارتها (تشاؤم)، ويأتي الحارس لتسجيل مخالفة ضدّ زيّون (تشاؤم)، وفي أثناء الحوار الغنائي، يأتي الأهالي ليدفعوا بالسيّارة (تفاؤل). مردّ هذا التخبّط هو تردّد الرحابنة بين التمسّك بحلمهم العتيق والعضّ عليه بالنواجذ، وبين التسليم بإكراهات الواقع المعتم. يختلقون حياة اصطناعية لحلمهم في النهاية، لكن لم يعد لتلك الرؤية نفس الصدى القديم. بعد ثماني سنوات، سيأتي زياد رحباني، الإبن الضال للوطن الرحباني، لينحر ذلك الحلم عن طريق الكوميديا كذلك، كوميديا شديدة السواد هذه المرّة، في مسرحيته “شي فاشل”.