بطولة المثقف وثقافة البطولة

يتميز عصر الشك الذي نعيشه اليوم بعديد المظاهر لعل أهمها ضبابية المعنى وقصور اللغة عن مواكبة مختلف الظواهر والسلوكات المجتمعية مما أدى إلى تآكل بعض المصطلحات  وتعويمها إلى درجة توشك معها على فقدان أي دلالة مباشرة أو ما يعرّفه مفكرو ما بعد البنيوية post-structuralism بانقطاع الدلالة المباشرة للبنية النصية عموما واللفظية خصوصا. عبارة مثقف تعاني كغيرها من المصطلحات العلمية من الابتذال ومن الخلط خاصة في الدول المتخلفة حيث سقطت من مرتبة المفهوم العلمي إلى الاستعمال الصحفي وانتهى بها المطاف إلى وصف مجرد يطلق على المتعلمين وحتى على الذين يحفظون بعض المعلومات العامة كعواصم البلدان وتاريخ كأس العالم لكرة القدم مثلا.

هذا الانهيار المدوي لهذا المفهوم يدفعنا لنفض الغبار عنه ولو قليلا من خلال استعراض أبرز التعريفات التي قدمها الفكر العالمي للكائن المثقف وميزاته.

من أقدم التعاريف للمثقف هو التعريف الذي قدمه JEAN BODIN (1530-1596) والذي اعتبر فيه أن المثقف هو الشخص الذي يواجه بفكره مختلف انحرافات السلطة سواء كانت سياسية أو شعبية أو دينية. بعده جاء ANTONIO GRAMSCI (1891-1937) بمفهوم المثقف العضوي والذي يشترط فيه على المثقف الحقيقي أن يرتبط إسمه بهدم بنى فكرية ومجتمعية قائمة وبتأسيس أخرى على أنقاضها شريطة أن ينطلق في عملية الهدم والتأسيس من دوافع فكرية ذاتية وحرة. ويبقى التعريف الذي قدمه إدوارد سعيد (1935-2003) أكثر التعاريف رواجا ويقول فيه أن على المثقف أن يضع حدا للنظرية في المنطقة الكائنة خارج نطاق التأويل أي أن المثقف عليه أن يسعى لفهم النظرية أو الظاهرة المجتمعية التي يعمل على نقدها كي يكون نقده موضوعيا وصحيحا وإلا فعليه أن يمتنع إراديا عن ممارسة الفعل النقدي. وما نستخلصه من هذه التعاريف مجتمعة هو أن المثقف الحقيقي هو بالضرورة:

  •     شخص شجاع لأنه وجد ليواجه وينقد ويضع حدا لأي نظرية مهما كان بطش السلطان الذي يحملها أو سطوة الشارع الذي أنتجها. وهو شجاع لأنه يواجه نفسه أولا بالحقيقة فلا ينقد إلا عن دراية ويتحلى بحد أدنى من النزاهة الفكرية.
  •  شخص حر ومستقل لا يوظف للدفاع عن فكرة أو عن شخص وحتى عن الشعب الذي ينتمي إليه كي يبقى قادرا على مواجهة الجميع بالحقيقة.
  • شخص مقاوم في ميدان الحقيقة لا يهادن ولا يفاوض عليها أحدا ويسطع بها في أشد الظروف قسوة.  ومن خلال هذه الصفات الأساسية تبرز بطولة المثقف الحقيقي الذي يستوفي شروط الفعل الثقافي.
وعلى النقيض من بطولة المثقف الحقيقي الذي لا يدعيها بل يستحقها نجد ثقافة البطولة وهي عبارة عن سلوك وفكر مرضي ومتخلف يرتبط عادة بمن يدركون ميادين القتال بعد انتهاء المعارك أو أولئك الذين يتمرجلون على أسير الحرب وأنوثة المرأة. وتبقى الخطب العصماء أهم ميدان لممارسة ثقافة البطولة حيث تمتهن أعراض الناس وينسب الخطيب لنفسه جليل الأعمال ويصبغ على نفسه أرفع الألقاب فيصبح القذافي مثلا أميرا للمؤمنين ويصبح أحد المرضى النفسيين الذي يمضي حياته في المقاهي أو أمام صفحة الفايسبوك ثائرا وفاتحا في حجم حنبعل لأنه شتم الأمن التونسي أو شجع على حرق البلاد.
ومن بين العاهات الفكرية التي تنتجها ثقافة البطولة نجد أيضا استمراء دور الضحية وتبني فكر المؤامرة ومحاربة طواحين الهواء فتجد بعضهم يبرر فشله أو جنونه بأنه حارب لوحده كل البشر والآلهة، تماما كدانكشوت في الأثر الأدبي الرائع لميقال سيرفنتاز، وكان يكفيه أن يواجه نفسه بالحقيقة كي يصبح كائنا سويا قادرا على الاستجابة لمقتضيات البطولة أو على الأقل لفهم معناها
Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights