بيني موريس ومولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين
|بقلم: فهمي رمضاني
تعد فكرة التهجير أو “الترانسفير” مسألة مهمة في الفكر الصهيوني باعتبار أن الحركة الصهيونية قد قامت بالأساس على أحقية الشعب اليهودي في امتلاك “إرتس إسرائيل” أو أرض إسرائيل وهو عدم اعتراف ضمني بوجود أي شعب آخر على الأرض الموعودة، لذلك كانت الأوساط الصهيونية تطالب منذ البداية بضرورة تهجير الشعب الفلسطيني أو إبادته حتى تكون أرض إسرائيل أرض خالصة للشعب اليهودي وحده، وقد تم اعتبار ذلك بمثابة الحل الأنجع لما سمي آنذاك “بالمعضلة العربية” أي مشكل وجود أعداد غفيرة من العرب يسكنون تلك الأرض منذ زمن قديم. وتتجلى هذه الأفكار في أدبيات الحركة الصهيونية من تيودور هرتزل مرورا ببن غوريون الذي قنن وأسس للترحيل القسري للفلسطينيين وصولا لسموتريتش وبن غفير اليوم.
في هذا الإطار، تعد نكبة 1948 أكبر حدث جسد حلم الحركة الصهيونية في تهجير الفلسطينيين وإبعادهم للدول المجاورة مما جعل من هذا التهجير عاملا مهما في تشتيت الشعب الفلسطيني والاستيلاء على ممتلكاته وابعاده عن أرضه وما رافق ذلك من تدمير وحشي للقرى الفلسطينية وتهويد للتاريخ الفلسطيني وطمس للهوية العربية. ونتيجة لعمليات التهجير وافتكاك الأرض التي تنتهجها الحركة الصهيونية بشكل ممنهج منذ 125 عاما، اضطر سبعة ملايين فلسطيني للعيش كلاجئين خارج أراضيهم. في هذا السياق يعد كتاب “مولد مشكل اللاجئين الفلسطينيين ” للمؤرخ الإسرائيلي بيني موريس وثيقة حية تكشف عن تفاصيل عمليات التهجير التي قامت بها الحركة الصهيونية وما تولّد عنها من أزمة النزوح واللجوء الفلسطيني بمراحله المتعددة.
ويعد بيني موريس من أشهر وجوه تيار المؤرخين الجدد الذي ظهر في آخر ثمانينات القرن العشرين والذي قام بنقد الروايات الصهيونية ومعظم السرديات التي قامت عليها دولة إسرائيل. درس بيني موريس التاريخ في الجامعة العبرية في القدس وأنجز أطروحة دكتوراه متعلقة بالعلاقات الإنجليزية الألمانية. اطلع موريس على وثائق هامة في الأرشيف الإسرائيلي مما ساعده على نقد الرواية الإسرائيلية وهو أول من أطلق لفظ المؤرخون الجدد على المؤرخين الذين قاموا بإعادة كتابة التاريخ الإسرائيلي كإيلان بابيه وإيفي شلايم وشلومو صاند.
تتمثل الفكرة الرئيسية التي يكشف عنها هذا الكتاب الضخم في كون التهجير الإسرائيلي للفلسطينيين لم يكن كما تدعي الأوساط الصهيونية طوعيا واستجابة لنداء الجيوش العربية التي شاركت في حرب 1948 وإنما تهجيرا قسريا ومخطط له منذ تأسيس الحركة الصهيونية لذلك جاءت عمليات الطرد مباشرة ومقصودة ومخطط لها حيث يستشهد هنا بأقوال وتصريحات القيادات العليا الصهيونية مثل إسحاق رابين ودافيد بن غوريون.
ويعتبر بيني موريس أن نجاح عمليات التهجير التي قامت بها الحركة الصهيونية قبل وبعد حرب 1948 يعود بالأساس إلى ضعف هيكلة المجتمع العربي الذي غادر معظم أثريائه إلى الخارج بانتظار عودة الهدوء للمكان الأمر الذي جعل الفقراء يواجهون مصيرهم وحدهم على الأرض مع شعور كبير بالانهيار والضعف هذا بالإضافة إلى الرعب الذي نشرته العصابات الصهيونية المسلحة في القرى الفلسطينية بعد نجاحها في إبادة وتدمير مئات القرى وتهجير أهلها وهو ما أعتبره موريس “حملات تخويف ممنهجة ” كان هدفها زرع الهلع والخوف في نفوس الفلسطينيين لدفعهم للتخلي عن منازلهم والنزوح نحو الدول المجاورة. ويؤكد موريس في هذا الإطار ان معظم الكتائب الصهيونية قد تلقت تفويضا مطلقا باستخدام العنف وذلك بالعودة إلى معظم الوثائق الارشيفية التي تؤكد تلقي هذه العصابات الضوء الأخضر لقتل الأطفال والنساء بدون رحمة. يوثق لنا المؤرخ كذلك حالات القتل التعسفي والاغتصاب التي ارتكبتها الجماعات الصهيونية على الأراضي الفلسطينية أثناء حرب 1948 مؤكدا أن ذلك قد تم بتواطؤ دولي وصمت عربي رهيب.
يسرد لنا الكتاب فيما بعد أزمة النزوح واللجوء الفلسطيني بمراحله المتعددة وتفاصيله المهمة. يعود بنا موريس إلى جدور فكرة التهجير باعتبارها فلسفة أكد عليها تيودور هرتزل في كتابه دولة اليهود واعتبرها شرطا لإنجاح ولادة الكيان اليهودي وقد أشار الكاتب إلى أهم مكونات فلسفة الترانسفير في الفكر الصهيوني مثل منع العرب من العودة إلى ديارهم في حال تهجيرهم وتدمير أكبر عدد ممكن من القرى في العمليات الحربية ومنع المزارعين من القيام بجني محاصيلهم الزراعية وإصدار القوانين التي تحرمهم من البناء. يعود الكاتب بعد تحليله لفكرة الترانسفير إلى جذور القضية الفلسطينية من الانتداب البريطاني إلى وعد بلفور وثورة القسام ثم عمليات شراء الأراضي الفلسطينية وما رافق ذلك من بدء لعمليات التهجير القسري في المدن الفلسطينية كحيفا والقدس.
يتحدث الكاتب فيما بعد عن قرار التقسيم الشهير وهو قرار الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة رقم 181 والذي أصدر بتاريخ 29 نوفمبر 1947 وقسم فلسطين إلى 3 كيانات: دولة عربية ودولة يهودية وأراض تحت وصاية دولية. ويعتبر موريس أن هذه المرحلة كانت حاسمة فيما يتعلق بمصير الشعب الفلسطيني حيث أخذت العصابات الصهيونية في الاستعداد لبدء عمليات التهجير وشن الحرب على العرب وقد كان ذلك بمساعدة دولية وأمريكية في فترة كانت فيها اغلب دول العالم العربي لازالت ترزح تحت نير الاستعمار الغربي أو هي دول بصدد التشكل. وهنا يستغرب موريس من صمت الجامعة العربية التي كانت موجودة منذ 1945 ولم تبادر بأخذ قرار حاسم بخدم القضية الفلسطينية وعموما فإن إعلان قيام دولة إسرائيل في 1948 قد أعلن عن استحالة قيام تحرك عربي ذي جدوى.
نتيجة لهذا الضعف العربي والدعم الغربي وجدت إسرائيل نفسها في وضع الهجوم خاصة بعد نهاية حرب 1948 حيث يؤكد الكاتب أن إسرائيل قد نجحت في تدمير 400 قرية وإفراغها من سكانها وبحلول منتصف عام 1949 أضحت أغلبية المدن والقرى الفلسطينية تلك المواقع في حالة دمار كامل أو جزئي وغير صالحة للسكن. وبذلك تكون إسرائيل قد انتصرت على الجيوش العربية وضمنت الأمن والقوة العسكرية من جهة ونجحت في تهجير الفلسطينيين ومحو آثارهم والشروع في تهويد المنطقة من جهة أخرى ولم تقف عند ذلك الحد فقط بل إنها عملت كما يشير المؤلف على تنظيف الحدود الفلسطينية من التجمعات العربية بدءا بالنقب في الجنوب إلى الشرق والشمال.
لا يمكن الاستغناء عن هذا الكتاب إذا أردنا فهم قضية اللاجئين الفلسطينيين ليس لكونه قد كشف عن زيف الروايات الصهيونية فقط بل كذلك لاحتوائه على وثائق مصدرية وأرشيفية هامة تدحض مزاعم إسرائيل حول التهجير الذي اعتبرته كان بأمر من الجيوش العربية. يتضمن كذلك الكتاب العراقيل التي وضعتها العصابات الصهيونية لمنع عودة اللاجئين إلى قراهم ومدنهم وفشل الفصائل السياسية الفلسطينية في طرح هذا المشكل في المجتمع الدولي. يعد كذلك هذا الكتاب بحثا في “أماكن الذاكرة” إذ يذكر لنا أسماء قرى فلسطينية تلاشى ذكرها بعد أن أقيمت فوقها مستوطنات إسرائيلية بأسماء بديلة في محاولة لتهويدها.
نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 34، ربيع 2024.
للاطّلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf34