في أربعينية الخطاب الكنائسي للسيد حمادي الجبالي : هل سقط النقاب؟
|لأن المهللين والمطبلين بدؤوا في تكريس مبدأ ” الدنيا مع الواقف” ولأن آلة الانبطاح بدأت تشتغل على مستوى وسائل الإعلام، ولأن السيد الهادي الجيلاني اعتبر منتقدي خطاب السيد حمادي الجبالي (الّذي تعرّض فيه للخلافة الراشدة السادسة) من المنتمين للفريق المنهزم في الانتخابات ودعاهم إلى قراءة استبطانية إيجابية لهذا الخطاب….من أجل كل هذا وحتى لا ننسى وحتى لا نبدأ في تكريس المفاهيم الكارثية من نوع “الوفاق والانسجام ” و-“نبذ التفرقة والفتنة” و-“درء المخاطر المتربصة بالوطن “، أعود لتحليل أبعاد هذا الخطاب التاريخي الاستشرافي في أربعينيّته وذلك حتى لا ننسى ….
بخطاب ذي شحنة دينية متميزة، نجح حمادي الجبالي فيما فشل فيه الآخرون: دحض مقولة أن حركة النهضة حزب مدني تخلص من الرواسب القديمة. نعم، نجح سي حمادي الجبالي، وهو الّذي كان آنذاك على أبواب رئاسة الحكومة، في خلط الأوراق من جديد وتحديد معالم السلوك السياسي المستقبلي للنهضة : مراجعة المنظومة السياسية والاجتماعية الحالية على أساس مرجعية السلف الصالح، وإعادة ترتيب الأولويات لتصبح تونس المتمردة سابقاً على القراءة الضيقة والقصيرة المدى للصراع العربي الإسرائيلي، منطلقاً لفتوحات جديدة هدفها تحرير القدس.
ونظراً لردة فعل الرأي العام بأطيافه المستغربة، المستهجنة والمنددة، تظافرت وتكافلت جهود القيادة العامة لحركة النهضة، مستنجدة بقطاعات هامة من الإعلام التونسي بغية التخفيف من وقع ووطأة هذا الخطاب الإخواني المرجعية.
ولأن العديد من التونسيين المتيقظين يسعون للصيد في الماء العكر وهز أركان الوحدة الوطنية، وجب وضع الأمور في إطارها الصحيح. وهكذا كانت عملية “الكومندوس” الجريئة بقيادة العنصر الحركي “سمير ديلو” والتي استهدفت التركيز الكلي على مقتطف “الخلافة الراشدة السادسة” و التعاطي معه على أساس القاعدة العبقرية الخاصة بالمقاصد في القول، والهدف المنشود هو التعتيم على المحتوى الكامل للخطاب في خطوة تتناغم مع أحدث أساليب التواصل في الخطاب السياسي. فالخطاب لم يخل من “ربانيات” ودعوة للانغراس في كامل أنحاء البلاد لبداية حملة تنموية شاملة التي هي في الحقيقة دعوة لأنصار النهضة لمواصلة الحملة التعبوية على أساس خطاب ديني بين المعالم.
إن القراءة الأولى لهذا الخطاب التاريخي تبين أن الخط الإيديولوجي للنهضة ليس فيه لبس : فالوصفة السياسية النهضوية هي بالأساس ذات بعد ديني متأصل، تستلهم مشروعيتها من قراءة معينة للنص القرآني وتركيز شديد على السنة . كما أن المشروع ينبني على انتقائية ممنهجة في اختيار المراجع الفقهية المتلائمة مع خصوصيات التوجه.
إن الإحالة على مؤسسة الخلافة، حتى وإن كانت راشدة، تبرز أن القطيعة الإبستمولوجية في تعاطي الإنسان مع آليات الحكم ، والتي بدأت تتكرس في القرن السابع عشر ميلادي من خلال فكرة “العقد الاجتماعي”، لا تندرج ضمن أدبيات ومرجعيات النهضة. والأخطر من هذا، هو المغالطة التاريخية والتعاطي الانتقائي المقصود مع تاريخ الخلافة الراشدة. فباستثناء أبي بكر وعمر بن الخطاب، لا يمكن المرور بسهولة على فترة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. فالأول كرس مقولة ” الأقربون أولى بالمعروف”ويبدو أنه خص بني جدته بالمناصب القيادية العليا في الدولة. ولا أبالغ إن زعمت أن عثمان هيأ )من حيث لا يعلم ؟( لتأسيس الدولة الأموية واستفراد عائلة بالحكم .أما علي بن أبي طالب فلا يمكن اعتبار فترة حكمه مزدهرة حيث أنها تميزت بعدم الاستقرار والانقسام العميق بين المسلمين. بالطبع لا يمكن أن نتغافل عن مآثر عثمان وعلي كصحابة للرسول صلى الله عليه وسلّم. ولكن كرجالات حكم، إعتبار فترتهم بالراشدة فيه نوع من طمس للحقائق.
ومن ناحية أخرى فإن علاقة “إفريقية” تاريخياً بمؤسسة الخلافة كانت تتسم بنوعٍ من الغموض نابع من إرادة الحكام المحليين التمتع بنوع من الحكم الذاتي وصل في بعض المراحل التاريخية إلى قطيعة مع مؤسسة الخلافة (الفاطمية) في فترة حكم المعز بن باديس.
غريب أمر سي حمادي الجبالي الذي تناسى الحقائق التاريخية وجعل من بلادنا منطلقا لإحياء فكرة مؤسسة الخلافة.
إن هذا الخطاب بإشاراته الواضحة إلى مسألة فتح القدس يسعى لتسويق طرح قد يفلح في استقطاب القوميين العروبيين ويجعلهم يقدمون تنازلات لا شعورية في قضايا متعلقة بحقوق الإنسان كالتبني وغيرها من المسائل. وهذا الطرح فيه الكثير من المخاتلة لأن القاصي والداني يعلمان أن العلاقة المتوطدة بين النهضة من ناحية والولايات المتحدة وقطر من ناحية أخرى تجعلها أبعد من أن تكون متبنية فعلياً لهذه المقاربة الصدامية مع إسرائيل .
ولعل من أكثر المغتبطين والمبتهجين بهذا الخطاب، “القطب التحريري- السلفي”. فرضا بالحاج الناطق الرسمي لحزب التحرير كان من أول المستبشرين بفحواه وخاصة مسألة الخلافة السادسة. وهكذا اعتبر أن النهضة أعلنت “توبتها السياسية ” وعادت إلى الصراط المستقيم. وتأتي هذه التصريحات في تقاطع مريب مع حديث راشد الغنوشي عن إمكانية منح التأشيرة لحزب التحرير.
أما عن ردة فعل قواعد النهضة،فإنها ولئن تنوعت بين مهلل ومنشرح ومتخوف من استغلال الخطاب لإرباك الحركة، فإن فيها قطاعات هامة مجمعة على ضرورة مواصلة العمل والتغلغل في النسيج الاجتماعي بغية تغيير نمط العيش ونسق التفكير وذلك على المدى الطويل دون مواجهة مباشرة مع المدافعين عن نمط الحياة التونسي الذي فيه موازنة معقدة ومتميزة بين الخصوصية و الكونية وقدرة على استيعاب مختلف المسارات الحضارية في إطار توليفة تحافظ على الهوية وتجعلها في تفاعل مستمر مع الأخر .
في النهاية، يمكن الجزم بأن القراءة النزيهة والمعرفية لكلمة الأمين العام لحركة النهضة، تحيلنا موضوعياً، دون غلو أو مغالطة إلى مرجعية إخوانية تنسجم مع الخطاب الإسلامي السياسي العالمي.
لقد كنا نظن أن الخطاب المزدوج يمثل مرحلة تكتيكية الهدف منها إرضاء القواعد والوصول للحكم ( وإن بعض الظن إثم)، وأنه بعد تحقيق هذا الهدف المنشود، سوف تنبري الحركة في تأطير جدي وحاسم لقواعدها والقطع مع الازدواجية في الخطاب. ولكن يبدو أن سي حمادي الجبالي في خطوة متناغمة مع مجموعة من الإشارات الأخرى (الأمهات العازبات، مسألة التبني) أراد أن يؤكد لهذه القواعد أن الحركة حسمت أمرها إيديولوجيا…….منذ سنة 1981.
” كي لا يتكرر هذا أبداً، كي لا يتكرر شيء من هذا أبداً ”
عبد السلام المسدي – تونس وجراح الذاكرة.