المُستبدّ العادل بين النّظريّة والتّطبيق

 

بقلم: راضية لعريّض

المواطن بين العدل والمساواة والانصاف

استرسل اللسان في الاصطلاح سبيلا الى بيان الفروق اللّطيفة بين العبارات في المعنى، فلم يكتف بالعدل مدخلا معجميّا في وصف سلوك الانسان ومعاملاته بل اتخذ من المساواة والانصاف مداخل أخرى في كشف ما يروم التعبير عنه. يعرّف العدل بما هو مصدر في جنس الأسماء المشتقّة في معجم لسان العرب لابن منظور ” ما قام في النّفوس أنّه مستقيم” هكذا يستوي العدل استقامة لا اعوجاج فيها يحددها معجم مقاييس اللّغة “العدل من النّاس المرضي المستوي الطريقة” أي الاستواء الذي يحقق رضا الآخر بما هو حسن التصرّف والمعاملة بما يقتضيه المقام والموقف.

 اختار المعجم الوسيط الفعل المزيد عدّل على وزن فعّل الذي يفيد معنى المبالغة في القيام بالفعل ليستخرج تعريفا يستقيم والمصدر الاعتدال ” توسّط حال بين حاليْن في الكمّ والكيف” أي الموازنة بينهما فيما صاغه معجم جمهرة اللغة ” عدلت الشيء بالشيء عدلا إذا جعلته بوزنه.”  تتفق المعاجم في صياغة المعنى الحرفي على دلالتيْ الاستقامة والموازنة. 

أمّا التعريف باستحضار الضدّ فيستوي في ” العدل ضدّ الجَوْرِ” الذي يعرّفه لسانه العرب بإدراج العدل ضدّا له ” الجور نقيض العدل” وقد اختار المركب النعتي ” قوم جورة” سبيلا الى البحث عن مرادف ” أي ظلمة” ومنه يعرّف الجور على أنّه الظّلم.  فيتجلّى معنى العدل اصطلاحا «هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم”

ذلك أنّ العادل هو الذي لا يستسلم لغريزته: غريزة الانانية والعنف والتسلّط ليظلم الآخر عملا بقول الفيلسوف ” الانسان ذئب لأخيه الانسان”، بل يعمل عقله ويتّحذ الحكمة منهجا والعدل حكما.  هكذا يتجلّى العدل في سلوك الأنا الواعية التي تمارس فعل التفكير وتعبّر عن وعيها بالعدل قيمة في الحكم، وقد بوّبه معجم المصطلحات الفلسفيّة في باب الفضائل الرّئيسيّة الأربعة: الحكمة والشجاعة والعدل والاعتدال بما هو ” إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه والعمل على احترام حقوق كلّ أحد.” كيْ يتيسّر تصنيفها ضمن نوعين: العدالة التعويضية وهي “تعويض المظلوم من الظّالم” أي استرجاع حقّ المظلوم وعقاب الظالم بوزن ظلمه والعدالة التوزيعيّة” توزيع الخيرات والأموال والكرامات حسب الاستحقاق”  [1]تتجلّى في الفعل الاوّل توزيع الثّروات دون احتكارها والاستلاء عليها عدلا يمارسه الحاكم الأمين، مشروطا بمعيار الاستحقاق فعلا ثانيا يجسّد مقولة ” إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه” دون أن يتماثل الوزن لأنّ لكلّ المقدار الذي يحدّده صنيعه.

الفعل سوي مدخل معجميّ في تعريف مصطلح المساواة في معجم المصباح المنير ” ساواه مساواة ماثله وعادله قدرا وقيمة” تتجلّى المماثلة فعل محاكاة حرفية يشترط التسوية بين الفاعل والمفعول به دون النّظر الى ماهيّته أو صنيعه مساواة قائمة على مبدأ المناصفة أي الأخذ بالنّصف الذي يعرّفه معجم مقاييس اللّغة ” نصف: نصف الشّيء ونصيفه شطره” فاشتقّ منه الانصاف مصدرا الذي يدلّ على معنى ” الرّضا بالنصف”.  يحقّق هذا المعنى الترادف بين المساواة والانصاف في الدلالة على الموازنة بين نصفيْن في القيمة والقدر دون ضبط معيار الماهية أو الخصوصيّة أو الفحص في طبيعة الفعل أو الصنيع وشكل جزائه.

 تُعرّف المساواة المدنية في معجم المصطلحات الفلسفية بأنّها “تساوي الأفراد في الحقوق والواجبات بحيث يكونون سواء أم القانون. ”  أيْ  يُلزم القانون من يطلبه الرّضا بالنصف من الحقوق والواجبات في الحياة المدنية تحقيقا لمبدأ التعايش والسّلام، غير أنّ هذا الشّرط القانوني لا يفصّل القول في خصوصية كلّ مواطن وصورته الاجتماعية بل ” الأفراد متساوون كأسنان المشط ” تعريفا ضبطه أفلاطون في كتابه الجمهوريّة للمساواة الحسابية، باستعمال أسلوب التشبيه تصويرا يرسم الانصاف والمساواة بين جمع متشابه لا اختلاف بينهم يمنح كل فرد منه نصفه من الجزاء،  تمييزا لها عن ما سمّاه المساواة الهندسيّة ” معاملة الأفراد حسب حاجياتهم واستحقاقهم”[2]  فضبط الحال إجابة عن سؤال كيف نعاملهم ؟

تجلّى معيار الجزاء، وهو اتخاذ الحاجة والاستحقاق مقياسا في منح الجزاء والعقاب، واضحا في مفهوم العدل وترسمه الصّورة أدناه بما يقيم الفصل بين المساواة والعدل والانصاف في المعنى كي يستوي العدل ممارسة مشروطة بمعيار الاستحقاق بالنّظر الى السّائل عنه في حين يتماهى الانصاف والمساواة تقسيما بمعيار النّصف بالنّظر الى الهبة موضوع السّؤال.

المستبدّ العادل: تضاد يدعو إلى التدبّر !

استهلّ المصلح المصري محمد عبده ( 1849- 1905) مقالا له في مجلّة العروة الوثقى  بقوله “إنّما ينهض بالشّرق مستبدّ عادل” . تستوي هذه الجملة نحويّا باستعمال أداة القصر “إنّما” التي تفيد معنى الحصر وقصر الفعل على الفاعل، يتجلّى هذا الطرح في المقولة في حصر المفكّر فعل النّهوض بما يعنيه من تطوّر في معنى التقدّم في الفاعل مستبدّ عادل اختار أن يعرّفه باسم الفاعل المشتقّ من الفعلين استبدّ وعدل وقد جمع بين الأضداد un oxymore في تركيب نعتي: المستبد منعوت وعادل النّعت الذي يصفه ورتّبها ترتيبا قدّم فيه ممارسة الاستبداد على صفة العدل.  صاغ المصلح فعل النهوض لمفعول به محدّد بصفته إطارا مكانيّا الشّرق في سياق الثّنائية الجغرافيّة الشّرق والغرب ذات الأبعاد الايدولوجية المضمّنة في القول بالغرب عالما متقدّما والشّرق عالما متخلّفا.  تستوي الجملة فعلا وفاعلا من اجل مفعول به أي مستبدّ عادل يسعى الى النّهوض بحال الشّرق لمواكبة التقدّم العلمي والتّكنولوجي في الغرب.

 يفصّل المفكّر المصلح القول في سبيل هذا الحاكم الذي اختاره في ممارسة حكمه وقد ضبطها في أربعة فواصل مهمّة اوّلها وأهمّها ” يحمل النّاس على رأيه في منافعهم بالرّهبة” ذلك انّه يتّحذ الحزم والصّرامة سلوكا ومنهجا في إدارة شؤون شعبه فيدفعهم الى جني مصالحهم وربحها والتمتع بمنافعها عملا بالفاصل الثّاني بما هو شرط مُلزِمٌ  ” لا يخطو خطوة إلاّ ونظرته الأولى الى شعبه الذي يحكمه” فهو يسعى بحزمه وعزمه الى تحقيق مصالح النّاس وتوفير حاجياتهم ولا ينشغل عنهم بما يعيق التواصل معهم وحسن تسيير شواغلهم.

 أقام المصلح محمد عبده مقارنة بين الحاكم الجاهل والحاكم العالم. عدّد المفكّر صفات الأوّل ” سيء الطّبع، ضعيف الرّأي خسيس النّفس ومعوج الطبيعة” أمّا الثّاني فهو ” حاكم حازم، أصيل الرّأي، عالي الهمّة، رفيع القصد، قويم الطّبع، ساس الأمّة بسياسة العدل ورفع منار العلم ومهّد طريق اليسار والثروة” وتدعم تبعات كلّ سياسة وجوب هذا الشّرط ذلك أنّ خصال الحاكم الجاهل تُسقط الأمّة في مهاوي الخسران في حين يتقدّم الحاكم العالم بأمّته الى كلّ وجه من وجوه الخير.

 ضبط محمّد عبده في الفاصل الثالث المدّة الزمنيّة التي يستغرقها المستبدّ العادل من أجل بلوغ هذه الغاية النبيلة “خمس عسرة سنة” فشبّه الحكم بمسيرة الانسان من ولادته الى فترة الحُلُمِ أي من مرحلة دخوله العالم الإنساني واكتشافه إيّاه الى مرحلة النّضج والوعي به. يتخذ الحاكم العالم التنشئة والتعديل منهجا في هذه الفترة بما هو الفاصل الرّابع” يثني فيها اعناق الكبار الى ما هو خير لهم ولأعقابهم ويعالج ما اعتل من طباعهم” تتجسّد سياسة الحاكم مع الكبار قيمة وشأنا وسنّا في تعديل معاملاتهم بما يحقّق الفائدة لهم. “وينشئ فيها نفوس الصّغار على قوة العزيمة ويسدّد نياتهم بالتثقيف” يعمل الحاكم على تنشئة الصغار سنّا وشأنا على قوّة العزيمة ويدفعهم الى التعلّم والتثقّف سبيلا الى النّجاح والتطوّر في مسار التقدّم والنّهوض. 

  هكذا تتجلّى ثنائية الاستبداد والعدل في فكر محمّد عبده تضادا لفظيّا لا ينتهي بالخلاف بل بالتوافق والانسجام لأنّ الاستبداد في هذا المقام يفيد معنى الحزم والصّرامة ولا يدلّ على ما استقرّ في الثقافة الحديثة من معنى الظّلم despotisme “انفراد فرد أو مجموعة من الأفراد بالحكم أو السّلطة المطلقة دون الخضوع لقانون أو قاعدة دون النّظر الى رأي المحكومين.” [3]

يستقيم هذا التحليل في متن نصّ المفكّر محمد عابد الجابري: ” لا بدّ من التنبيه أولا الى الفرق بين مفهوم الاستبداد في مرجعيتنا التراثية ومفهومه في اصطلاحنا اليوم المستقى من المرجعية الأوروبية. لم يكن لكلمة استبداد في المرجعية العربية القديمة ذلك المضمون السلبي الذي لها اليوم.  لقد كان الاستبداد يعني الحزم وعدم التردّد في اتخاذ القرار وتنفيذه. ومن هنا تلك العبارة الشّهيرة ” إنّما العاجز من لا يستبدّ” هذ هو معنى الاستبداد في المرجعية العربية خصوصا عندما يقرن بالعدل، فالعدل يفقد مضمونه مع العجز عن تطبيقه، أمّا الاستبداد دون عدل فكان له اسم آخر في المرجعية العربية وهو الطغيان “اذهب الى فرعون إنّه طغى” أمّا مفهوم المستبدّ العادل كنموذج للحكم الصالح تحيل الى السيرة التي عرفت عن الخليفة عمر بن الخطاب في الحكم والمتميّزة بالحزم والعدل”[4].  فيجد هذا الرّأي شرعيّته في تعريف الطّغيان في معجم مقاييس اللغة:” الطّاغية الجبّار العنيد والمستكبر الظّالم، الذي لا يبالي ما أتى، يأكل النّاس ويقهرهم لا يثنيه تحرّج ولا فرق.”  والعجز عن العثور على مفهوم الاستبداد في المعجم العربي بما يتوافق مع معناه الحديث.

  رسم المفكّر سياسة المستبدّ العادل الإدارية بما يتناسب مع غايته في تسيير مصالح شعبه وضمانها. وقسّمها الى ثلاثة مجالس: المجالس البلديّة والمجالس الإدارية والمجالس النيابيّة، تقسيم يفصح عن عدل الحاكم في مشاركته شعبه مجالس الرأي والقرار دون الاستفراد بالحكم في سلطة واحدة فقط مطلقة فهي ليست صورة شكلية دون معنى أي ليست “آلات تدار” بل “هي مصادر للآراء والأفكار”.  تراعي هذه المجالس الخصوصية الجغرافية فلم يتفرد الحاكم بمقولة القطب الواحد في الحكم جغرافيا إنّما قرّب السّلطة من شعبه بتركيز الإدارة في إطار مكاني مناسب للاطّلاع على مشاغل الشّعب ومصالحه وطموحاته، حرصا منه على العدل في الاستجابة لهم والنهوض بأوضاعهم الاجتماعية والاقتصاديّة، فالحزم والصرامة عدلا هي أساس النّهوض الذي يستوي في فكر العلاّمة عبد الرحمان بن خلدون عمارةً ” لا قوام للشّريعة إلاّ بالملك ولا عزّ للملك إلاّ بالرّجال ولا قوام للرجال الا بالمال ولا سبيل الى المال الا بالعمارة ولا سبيل للعمارة الا بالعدل”. فيخرج اللفظ عن معناه الأصلي الى المعاني الصواحب فيدل العمران على معنى النهوض والتقدم والتطور وقد أدرج ابن خلدون ألفاظ الفساد والانقباض والخراب في مقام الضّد له.

 

هل يستقيم المستبدّ العادل في مقام السّلطة في تونس؟

يتنزّل فكر المصلح محمّد عبده في سياق السّلطة في تونس من باب التأريخ الزّمني منذ نيل الاستقلال من المستعمر الفرنسيّ 1956 الى اندلاع ثورة الياسمين 2011 نظرا في مرحلتيْن من الحكم: رئاسة الحبيب بورقيبة من 1957 الى 1987 ورئاسة زين العابدين بن علي من 1987 الى 2011.

 اختار الباحث مختار خلفاوي أن يصف بورقيبة في مقاله “بالمستبدّ المستنير” [5]وهو تركيب يدعو الى البحث في النعت قبل المنعوت، ذلك أنّه اسم فاعل مشتق من الفعل استنار على وزن استفعل فعل مزيد يفيد معنى الطلب أي أنْ يطلب الفاعل النور الذي يخرج عن معناه الأصلي الى معنى التجديد والتحديث قطعا مع عصر التخلّف والأميّة وهو ما يُحسب للحبيب بورقيبة  الذي كتب على ضريحه في  ولاية المنستير  ” باني تونس ومحرّر المرأة”  وقد صاغها الباحث في عبارة ” النموذج البورقيبي”  الذي يتجلّى في ” ريادة في بناء الدولة الحديثة على أسس مدنيّة لا دينيّة ولا عسكريّة ولا عشائريّة ولا عائليّة وجراءة في الإصلاح الديني والاجتماعي بحلّ الاحباس وإصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة وتوحيد التعليم المدني ومجانيّته وتعميم الصّحة.” [6] هكذا طلب بورقيبة في عهد بناء الفترة الحديثة بعد أهوال الاستعمار وتبعاته على تونس تحديث المجتمع والارتقاء به من البداوة الى المدنيّة التي أساسها التعليم والفكر الحرّ فقد سعى بورقيبة الى بناء المدارس والمعاهد والجامعات ودفع المرأة الى المشاركة في الحياة الاجتماعية العامّة بتحقيق المساواة بينها والرّجل في الوظيفة المهنيّة. هكذا تتجلّىى العدالة الاجتماعية بحمل الناس بالرّهبة على منافعهم أيْ العزم والحزم في تسيير شؤون مجتمع قد خرج لتوّه من وطأة استعمار خرّبه وأفسده وطمس معالم الحياة فيه. 

غير أنّ نعت المستنير قد سُبق وجوبا في نص الباحث بالمنعوت المستبد الذي لم يصمد كثيرا في معنى الصرامة والشدّة كيْ ينهار ضرورة الى الاستبداد في معناه الحديث متّخذا مصدره الخلفيّة الأبويّة[7] في ممارسة السّلطة والقيادة بما أنّ الأب هو “ربّ العائلة” الذي يشرف عليها ويسهر على رعايتها. فتحوّل الحبيب بورقيبة من رئيس الى “المجاهد الأكبر” الذي خلّص تونس من ظلم الاستعمار واستغلاله لثروات البلاد، ليكون الأب وشعب تونس عائلته.

تجسّدت صورة الأب المستبد في القضاء على “الفلاقة” وهم رجال قاوموا المستعمر بالسّلاح في الجبال والفيافي وانتصروا لصالح بن يوسف الذي دعا الى الاستقلال التام من الاستعمار داخليا وخارجيّا في حين قبل بورقيبة الاستقلال الداخلي فقط كي تبقى تونس منطقة نفوذ فرنسية في السياسية الخارجيّة.

  اطّلعت هيئة الحقيقة والكرامة، التي تأسست سنة 2014 بغية كشف الحقيقة في مختلف الانتهاكات ومساءلة المسؤولين عنها وجبر الضرر وردّ الاعتبار للضحايا لتحقيق المصالحة الوطنية بعد الثورة التونسيّة، على حقائق ترسم صورة الأب حقيقة تهدم الوهم: محاكم استثنائية لمعارضين منذ 1956 الى 1959 حاكمت 1270صدر في حقّ   36 معارض حكم بالاعدام و  244 معارض حكم بالأشغال الشاقة[8]، في مراكز اعتقال سريّة أشهرها سجن “صبّاط الظّلام في المدينة العتيقة تونس الذي يحتوي على بئر ترمى فيه جثث المعارضين بعد قتلهم.  وقد وثّق التاريخ مليشيات أحدثها بورقيبة سمّاها لجان رعاية نفذت مداهمات بمساعدة القوات الفرنسية واغتالت عددا من اليوسفيين[9]

  لا تستقيم نظرية المستبدّ العادل وصفا لسياسة الحبيب بورقيبة لانّ سلوك الاستبداد ” الأبويّ” جعل منه يدافع عن فكرة السّلطة المطلقة[10] ذات القطب الحاكم الواحد الذي لا يقبل شريكا في الرّأي أو الحكم وقد رسّخ هذه الفكرة علامة ” المجاهد الأكبر” التي يصف بها سلوكه تركيبا نعتيا من اسم الفاعل المجاهد أي المناضل الذي يجاهد في سبيل تونس وصيغة التفضيل الأكبر تفضيل مطلق يجعله في رتبة المقاوم الذي لا نظير له فهو المنقذ والمخلّص. وهي صورة وهميّة حطّمتها الحقائق التي كشفتها هيئة الحقيقة والكرامة.

 استوى عهد التغيير 07 نوفمبر 1987 فاصلا سياسيا في تاريخ تونس وشعبها ذلك أنّ الحبيب بورقيبة الذي لم يتخلّ عن السّلطة الأبوية قد اضطر زين العابدين بن علي وزيره الأوّل الى الانقلاب عليه بحجّة تقرير طبي يؤكّد عجزه على مواصلة الحكم. ووُضع في الإقامة الجبرية.  أثار هذا التحوّل استحسان المجتمع المدني بأحزابه وتنظيماته لأنّ الرئيس الجديد قد أكّد “جدارة الشّعب بحياة سياسية متطوّرة ومنظّمة تعتمد بحقّ تعددية الأحزاب والتّنظيمات الشعبيّة”.

 ما استقرّ في تاريخ الشّعب التونسي مع بن علي هو ما يتردد الآن في مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية: “قفّة الزّوالي”. تزخر العبارة في لهجتها الأصلية العاميّة على معان تتصل بهذا المركب الإضافي من باب محافظة بن علي على “شهادة الملكية”  أي أنها هذه القفّة هي ملك للفقير ولا أحد يشرّع له القانون أن يحرمه منها، في معنى محافظة الرّئيس على القدرة الشّرائية التي تخوّل له أن يشتري ما يقتات منه وعائلته دون نقصان.  ههنا تتجسّد العدالة الاجتماعيّة في الاهتمام بالطبقات الاجتماعية المختلفة دون ان تحتكر الطبقة الثريّة الوطن وتحرم الفقير من المواد الاساسيّة التي يقتات منها.

 غير أنّ هيئة الحقيقة والكرامة تحصّلت على 29173 ألف شكوى تتعلّق بالمعاملة القاسية والإنسانية في السّجون[11] أغلبهم سجناء الرّاي السياسي في فترة حكم بن علي الذي منع اقتناء الصحف في السّجن بل لا توفّر إلا صحف الحزب الحاكم فقط وتحجب إدارة السجن المقالات التي تتعرّض لأوضاع البلاد. عزل السجين عن الحياة المدنية والسياسية الخارجية وحرمان عائلته من زيارته[12].

طغت صورة الحزب الحاكم استبدادا يستمد مادّته من الاشتراكيّة في قيام دكتاتورية الحزب الحاكم التي عبّر عنها بن علي في سيادة جزبه التجمع الدستوري الديمقراطيّ واختار اللّون البنفسجي رمزا له في القنوات الاعلاميّة التي أطلق عليها اسما يخلّد تاريخ شروعه في الاستبداد (قناة تونس 07) فتعرض النشرة الإخبارية على مستشاريه قبل بثّها الى عوام الشّعب.  حرص بن علي على منح الشّعب الحق في الانتخاب بما هو حقّه في تقرير مصيره، لكنّه أخمد صوت المعارضة بالسّجن والعزل فلم يشاركه الترشح للسلطة الا أسماء مجهولة الذّكر في الوسط الاجتماعي ويتلاعب بنتائج الانتخابات التي تصل حدّ 89% من مجموع المنتخبين لصالح بن علي سنة 2009.

هي نسبة تزيّف الواقع الاجتماعي الذي اختار الثورة ردّا على سياسية الاستبداد بشعار ” يسقط جلاّد الشّعب يسقط حزب الدّستور” استعمل فيه الشّعب الثّائر الفعل يسقط علامة على وطأة هذه السياسية وفعلها فيه مرتبطة بفاعل في صيغة مبالغة الجلاّد دلالة على المبالغة في القيام بفعل الجلد، فعل يستعمله الراعي مع الحيوان الذي يرعاه وهي صورة بن علي الرّاعي والشّعب قطيع يقوده ويحكمه فيجلده باستبداده ويقمعه بظلمه.  لم يحصر الشعار نداء السّقوط في الحاكم فقط بل في حزبه أيضا وسيلة اتخذها ليرسم صورة الديمقراطية في السياسة الخارجية لكنّه فضاء الوطن حكم الحزب المستبدّ المستغلّ.

  ومنه يصف هذا الرّأي موضع المستبد العادل من مقام السلطة في تونس ” شأن الحزم غير الاستبداد، إنّه مواجهة كل فساد بحقّ أما الاستبداد فهو محاولة التدثّر بخطاب إصلاحيّ لحماية الفساد وليس لمواجهته.” [13]  فما مارسه الحبيب بورقيبة استبداد في رداء المنقذ المخلّص وبن علي في رداء الديمقراطي الذي يساير سياسة العالم الخارجي لكنّه على غير تلك الحال في الحقيقة. المستبد العادل نظرية المدينة الفضلى والحاكم المثاليّ وهو رأي لا يتناسب ومنطق النسبية الذي يسيّر الحياة واقعا.  

الهوامش

  1. جلال الدّين سعيّد، معجم المصطلحات الفلسفية، دار الجنوب للنّشر، تونس، 2004، ص 281-283
  2. معجم المصطلحات الفلسفية، ص 423-425
  3. عبد الله علي العليان، “المستبد العادل في التراث السياسي العربي الإسلامي”، مقال منشور على موقع الجزيرة للمعرفة سنة 2004
  4. محمد عابد الجابري، “المستبد العادل…. بديلا للديمقراطيّة”، منبر محمد عابد الجابري
  5. مختار الخلفاوي، “تونس وطيف مستبد مستنير من جبته طلع دكتاتور صغير”، مقال منشور على موقع CNN بالعربية سنة 2014
  6. المصدر نفسه
  7. غازي التوبة، “الاستبداد المعاصر مصادره وهزيمته”، مقال منشور في موقع الجزيرة للمعرفة سنة 2016
  8. “السجون التونسية زمن الاستبداد: مسرح للانتهاكات المهينة للذات البشرية”، موقع Ultra تونس مقال منشور سنة 2022
  9. المصدر نفسه
  10. غازي التوبة، مرجع مذكور
  11. السجون التونسية زمن الاستبداد…، مرجع مذكور
  12. المصدر نفسه
  13. سيف الدّين عبد الفتّاح، “في تفكيك مقولة المستبد العادل”، مقال منشور في موقع العربي الجديد سنة 2022

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 29، أوت 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf29

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights