دعم الكتاب في تونس: ملايين الدينارات لأيّ غاية؟
|بقلم: حمزة عمر
الحديث عن وضعيّة الكتاب التونسي يدخل في باب الندب الدائم. لا أحد راض عن الوضع: لا الكاتب ولا الناشر ولا القارئ. هذا ما حاولت جمعيّة تونس الفتاة التعرّض له في لقائها حول “قضايا النشر في تونس”. الكلّ يطالب بتغيير ما. ولكن في أيّ اتّجاه؟
يشقى الكاتب لإيجاد من ينشر له عمله. وإذا وجده، فسيجد نفسه أمام ضرورة المساهمة في نشر ما من المفروض أن يتلقّى أجرا لبيع حقوق تأليفه. فإن تعدّى هذه العقبة، سيكون محظوظا إذا استعاد ما دفعه من تكاليف. أمّا إذا كان غرضه أن ينحت لنفسه اسما في الساحة الأدبية، فعليه أن يعوّل على نفسه بالأساس لكي يروّج لما كتبه. في خاتمة المطاف، يجد الكاتب نفسه مؤلّفا وناشرا بالاشتراك ومكلّفا بالتواصل. يضحي النشر عبئا ثقيلا، ممّا يدفع الكثيرين، لا سيّما من الشبّان، إلى الاكتفاء بنشر شذرات على شبكات التواصل الاجتماعي والتهليل لما يمكن أن يحصّله من تفاعلات.
أمّا الناشر، فيشتكي من التكلفة الّتي زادها ارتفاع أسعار الورق ثقلا، كما يشتكي من “جشع” الموزّعين والمكتبات الّذين يلتهمون جزءا كبيرا من ثمن البيع، ممّا يدفع الناشر إلى رفعه لكي يحصل على ما يوفّر له هامش ربح ضئيل.
يبقى القارئ، وشكواه الرئيسية في غلاء السعر لا سيّما إذا كانت موارده محدودة على غرار التلاميذ والطلبة. فيما عدا ذلك، فإنّه لا تبلغ مسامعه بسهولة أخبار الكُتب الّتي تُنشر حديثا، وإن بلغت، فإنّه لا يدري الكثير عن جودتها بما أنّ المقالات النقدية (غير الأكاديمية) شحيحة نادرة وهو لا يريد أن يدخل في مغامرة لا يقدر على تحمّل تكلفتها، وإن درى، فمن المرجّح ألا يجد إلى اقتناء الكتاب سبيلا بما أنّ فضاءات بيع الكُتب في بلادنا أقلّ من القليلة، لا سيّما إذا ابتعدنا عن العاصمة وعن المدن الكبرى.
يلوم الناشرون بشكل خاص وزارة الثقافة الّتي لا تبذل ما يكفي لدعم الكتاب. حتّى وإن اقتنت، فهي لا تقتني بما لا يكفي. وإن دعمت، فدعمها ضعيف لا يُعتدّ به. وفي الحقيقة، لا يخلو هذا اللوم من مبالغة إذا نظرنا إلى الأرقام. تفيد معطيات وزارة الثقافة التونسية أنّها خصّصت سنة 2020 مليونين وستمائة ألف دينار لشراء ما يزيد عن ثلاثمائة ألف نسخة من 1665 عنوان أصدرها 127 ناشرا. كما حصّصت في نفس السنة 1.83 مليون دينار لدعم الورق تمتّع بها 83 ناشرا، واقتنت مجّلات تونسية بقيمة 134 ألف دينار. مجموع ما تخصّصه الوزارة في هذا الصدد يتجاوز إذن 4.5 مليون دينار، وهو تقريبا ضعف ما كان في سنة 2017. إن سلّمنا جدلا أنّ الناشرين المتمتّعين بالشراءات غير المتمتّعين بالورق، فهذا يعني أنّ عددهم الجملي يصل إلى 210، أي أنّ كلّا منهم يتسلّم دعما لا تقلّ قيمته في المتوسّط عن 21 ألف دينار. لا يبدو ذلك قليلا بالنسبة إلى مؤسسة صغرى أو متوسّطة!
المشكل ليس في المبلغ الموجّه للدعم، وإنّما في غايته. فآليات الدعم المذكورة لم تفعل إلّا أن حوّلت قطاع الكتاب في تونس إلى ما يشبه الريع لعدد كبير من الناشرين. في عدّة أحيان، يبتزّ الناشر المزعوم مبلغا من الكاتب يغطّي به كلفة الطباعة أو جزءا منها، وتكفل له شراءات وزارة الثقافة أو دعمها للورق أن ينتقل إلى خانة الأرباح، ويتوقّف الأمر هنالك. لا حاجة لصناعة كُتّاب، ولا داعي لأن نوفّر للقارئ مادة لقراءتها. يكفي أن تتكدّس النُسخ في مخازن وزارة الثقافة أو تُوزّع على المكتبات العمومية المهجورة بطبيعتها ليعتبر كلّ من الناشر والوزارة أنّهما أدّا غايتيهما. والمصيبة أنّ لا شيء يضمن حتّى جودة الكُتب المقتناة ! إذ تقع هذه العمليّة داخل لجان مغلقة ووفق معايير مجهولة. وإذا جاء من يريد تغيير هذا النظام، حتّى من باب ترشيد المال العام، لا شكّ أنّ المستفيدين منه سينبرون محتجّين، فالأمر يطال “خبزتهم”.
إنّ المعايير الحقيقيّة لأيّ سياسة تتعلّق بالكتاب في بلادنا يجب أن يكون محورها أوّلا وبالأساس القارئ، وأيّ مبالغ تُدفع في هذا الاتّجاه ولا تُساهم في الرفع من عدد القرّاء ودعم حسّهم النقدي والإبداعي هي تبذير وإهدار موجبان للمحاسبة. نقرأ منذ سنوات عديدة عن ضعف الوقت المخصّص للقراءة ويستهجن المثقّفون رواج كُتب تخلو من العمق، ومع ذلك، لا تُصرف الأموال لإصلاح شيء من هذا أو ذاك وإنّما لاقتناء كتب لا ندري شيء عن جودتها لتظلّ غير مقروءة! أليس الأولى أن يوجّه ذلك إلى ما يدعم المطالعة، ولعلّ “البطولة الوطنية للمطالعة” خُطوة في هذا الاتّجاه؟ أليس من الأفضل تدعيم قدرات الكُتّاب أو مشاريع الكتّاب ومعرفتهم بحقوقهم في خصوص الملكيّة الفكريّة وتعزيز تواصلهم مع القرّاء؟
صحيح أنّ الناشر هو حلقة الوصل بين الكاتب والقارئ، لكن ليس لوجوده غاية من دون كليهما. لو كانت للقراءة سوق رائجة، لما كان ليكون لآليات الدّعم هذه أيّ معنى. كلّ المجهودات يجب أن تنصبّ على تنمية هذه السوق (حتّى إن بدا التعبير ليبراليا رأسماليا). يمرّ ذلك بالأساس غبر رسم سياسة ثقافية تعرف بالضبط الغايات التي ترمي إليها، وما أبعدنا عن ذلك في لحظتنا الراهنة.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد23، فيفري 2023
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf23