التطبيع… تهمة تحتاج إلى ضوابط
|بقلم: حمزة عمر
لا يهدأ الجدل حول التطبيع في تونس حتّى ينبعث، إذ أنّنا لا نعدم أسبابا تشعل جمره في الفينة بعد الأخرى. وما الجدل المُثار حول مشاركة العميد السابق لكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنّوبة الحبيب القازدغلي، رفقة أساتذة آخرين، في ندوة علمية بفرنسا تضمّ كذلك أساتذة من جامعات القدس وتل أبيب، إلّا حلقة -لن تكون قطعا الأخيرة- في مسلسل طالت فصوله الرياضيين والفنّانين والأدباء والأكاديميين، فضلا عن السياسيين بطبيعة الحال.
والحقيقة أنّ تجدّد الجدل بشكل متواصل حول هذه المسائل يسلّط في ذاته الضوء على أحد أهمّ جوانبها: وهي أنّ هذه المسألة غير محسومة. لو كان مفهوم التطبيع محدّدا بشكل دقيق، لما انتطح فيه عنزان كما يقول القدامى. أما والأمر على خلاف ذلك، فالباب يبقى دائما مواربا لتبقى المسألة مفتوحة على تأويلات شتّى. والاختلاف، في عرفنا، ليس رحمة، بل قد يكون مدعاة للتخوين والسحل على شبكات التواصل الاجتماعي.
صراع المُثل والواقع
لماذا يتواصل الخلاف في مثل هذه المسألة؟ المفروض أن يكون الأمر بسيطا. نحن في حالة عداوة مع الكيان الصهيوني منذ أكثر من سبعين عاما. هذه العداوة تفترض أنّ كلّ تعامل مع أيّ فرد ينتمي إلى هذا الكيان مرفوض بشكل قاطع. بل أنّه من المفروض أنّ التعامل حتّى مع الّذين يعترفون بهذا الكيان مرفوضة بدورها. أليس اعترافهم هذا إقرارا منهم بأحقيّة العدوّ في اغتصاب أرضنا؟
الأمر كذلك فعلا، ولكن فقط إذا نظرنا إليه من عالم المُثل دون إقامة أيّ اعتبار للواقع. من الصعب أن نجد دولة أو منظّمة دولية لا تعترف بإسرائيل في هذا الزمن. هل نتصوّر مثلا ألّا نكون أعضاء في الأمم المتّحدة أو الفيفا أو اللجنة الأولمبية وألّا تكون لنا أيّ علاقة بالولايات المتحّدة أو الصين أو أيّ دولة أوروبية؟ بل هل نتصوّر ألّا تكون لنا علاقة بأشقّائنا المطبّعين على غرار مصر والأردن والمغرب والإمارات والسعودية؟ ألن تدفعنا هذه المثالية إلى حالة عزلة شبه كليّة عن العالم؟ إنّنا ننسى أنّنا بنينا مواقفنا المبدئية في زمن كنّا نتصوّر فيه أنّ انتصارنا مسألة وقت، وأنّ استعادة حقوقنا المشروعة ستكون في المدى المنظور. ما حصل في الواقع أنّ العدوّ راكم تقدّمه وازددنا نحن غرقا في تيهنا. هذا ما حوّل الموقف من الصراع من قضيّة مبدئيّة إلى حالة إنكار للواقع. اعترافنا بإسرائيل من عدمه لن يغيّر، للأسف، شيئا من وجودها الفعليّ في العالم الآن وهو ما نصرّ على أن نغمض عيوننا دونه. في العقود السبعة الماضية، نجحوا هم في بناء شبكة واسعة من العلاقات اخترقت حتّى حزام الممانعة المكوّن أساسا من الدول النامية، في حين بقينا نحن نصرخ ونشجب ونندّد. على سبيل المثال، 46 دولة من أصل 54 عضوا في الاتّحاد الإفريقي تعترف بهذا الكيان. نتناسى كذلك أنّ الحروب نفسها لا تعني إلغاء الآخر كليّا. حتّى صلاح الدين فاوض وهادن وتنازل في حروبه ضدّ الصليبيين، دون أن يعني ذلك أنّه قبل من حيث المبدأ التسليم في الأرض.
علينا أن نعترف لأنفسنا بأشياء قد يبدو أنّها من باب جلد الذات، ولكنّها للأسف حقائق. أوّلا، نحن لا نعيش في هذا العالم بمفردنا. ثانيا، نحن كعرب عاجزون عن التنسيق مع بعضنا البعض حتّى في شأن قضيّة محورية كالقضيّة الفلسطينية. ونحن غير قادرون على توفير حدّ أدنى من التضامن والعمل المُشترك (في المجال الأكاديمي مثلا) ما يغنينا ولو نسبيّا عن الحاجة إلى التعاون مع دول لها مواقف تتناقض جوهريا مع ما نؤمن به. ثالثا، نحن مضطرّون بحكم موقعنا هذا إلى التعامل مع هذه الدول بشأن وثيق، حتّى لبناء قدراتنا الذاتية. لنتصوّر مثلا حال البحث العلمي في بلادنا لو لم نكن منفتحين على الجامعات الأوروبية. نعلم جميعا أنّه شديد البؤس، وأنّ آليات التعاون الدولي هي ما تبثّ فيه بعض الروح ليظلّ قادرا على رفع رأسه قليلا. بل أنّنا لا نستطيع أن نخفي فخرنا كلّما تُوّج تونسيّ أو تونسيّة بجائزة أو رتبة علميّة مرموقة تمنحها إحدى الجامعات الأوروبية أو الأمريكية. لا شكّ أنّ العديد من أبنائنا الّذين يدرسون في الخارج يزاملون طلبة إسرائيليين. طبعا لأنّهم ليسوا شخصيّات عامة مثل العميد القازدغلي لا نسمع بهم، وذلك لا ينفي وجودهم القطعيّ. هل يجب علينا أن نطلب منهم جميعا قطع مساراتهم الجامعية الّتي تبشّر بكثير من التميّز والعودة إلى تونس فورا للاكتفاء بتحصيل شهادة جامعية آفاقها شبه معدومة؟
أيّ ضوابط ممكنة؟
هل يعني ذلك إذن التخلّي عن القضيّة برمّتها والارتماء في أحضان من نحاربه؟ قطعا لا، إذ لا يمكن أن نفترض مثلا حسن النيّة في مغنّ يحيي عرسا لعائلة يهودية في قلب تل أبيب. لكن ينبغي إعادة النظر في المعالجات القصووية تجاه وضعيّات من العاديّ جدّا أن تنشأ بحكم الواقع. يعني ذلك مثلا إذا قبلنا بعضوية اتّحاد رياضي دولي ألّا نتّهم بالخيانة رياضيا ألقته قرعة مشؤومة في مواجهة رياضيّ من دولة نعلم مسبقا أنّها عضو بنفس الاتّحاد. يعني ذلك أنّه إذا كانت هناك روابط أكاديمية وثيقة تربط جامعاتنا بجامعات بلد نعلم جيّدا أنّه يقيم علاقات مع إسرائيل أن نقبل أنّه لا سلطة لنا على من تدعوه جامعات ذلك البلد إلى ندواتها. يعني ذلك أنّه إذا قبلنا أنّه لا حرج في زيارة الضفّة الغربية والقدس خصوصا، بما يعنيه ذلك من مرور عبر نقاط الحدود الإسرائيلية، ألّا ننزعج من صورة اضطرّ/خُدع فنّان لالتقاطها تحت إلحاح ضابط خبيث (وأعني بذلك الصورة التي التقطت لصابر الرباعي في 2016). أمّا التغنّي بمساندة إخواننا المحاصرين في الأراضي المحتلّة وفي نفس الوقت استنكار حوادث من العاديّ أن تحصل بفعل هذه المساندة ذاتها فلا يمكن أن يكون إلّا لونا من ألوان الانفصام.
إذا لم تكن حدود التطبيع محدّدة بشكل واضح، فذلك يفتح المجال للإسراف في الاتّهام به وهو ما يفضي في النهاية إلى تمييعه. يمكن أن تتصوّر نفسك مثلا متّهما بالتطبيع نظرا لأنّك حيّيت الجالس جوارك في حافلة بين ميلانو وروما. لتجنّب ذلك، من المفروض أن تكون هناك ضوابط واضحة، والمفروض أن ينظّمها القانون لكيلا نسقط في عقوبات اعتباطية، من طينة سحب رتب علمية، دون أيّ سند. يمكن أن يشمل تحديد التطبيع على سبيل الذكر المشاركة في تظاهرة تنظّمها أو تساهم في تنظيمها جهة إسرائيلية (حتّى إن كان في دولة أخرى)، حضور نشاط يقام في إسرائيل، استضافة من يحملون جواز سفر إسرائيلي على أراضينا… بمعنى أدقّ، يجب أن ينحصر التطبيع في كلّ ما نكون مسؤولين عنه -دولة وأفرادا ومؤسّسات- بشكل كامل ويُشكّل اعترافا مباشرا بشرعيّة هذا الكيان. فيما عدا ذلك، من المفروض أن نلتزم الحذر في الإلقاء بهذه التهمة الخطيرة والّتي تمسّ من سمعة الأشخاص وشرفهم: العمالة والتخوين.
أمّا إذا شئنا توسيع دائرة التهمة إلى أقصى حدودها، فلا أحد ينازعنا في إمكانية اتّخاذ هذا القرار السياديّ. علينا فقط أن نكون مستعدّين لتحمّل نتائجه مهما كانت، فنقبل مثلا ألّا تكون لدينا علاقات مع غير “الشقيقة الكبرى”. المهمّ في كلّ الحالات أن تكون الحدود واضحة بشكل لا لبس فيه. وفي الحقيقة، ليس هذا الجدل المتواصل حول مسألة التطبيع إلّا سجالا -يكاد يكون خاويا- يفضح افتقارنا، كوطن عربي، لاستراتيجية واضحة في شأن القضيّة الفلسطينية منذ اتفاقيات أوسلو في تسعينات القرن الماضي.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 26، ماي 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf26