التحركات الاحتجاجيّة الاجتماعيّة بتونس بعد الثورة والتعبير عن السيادة 

بقلم: ضو سليم

 

تمهيد

شهدت تونس في تاريخها المعاصر عددا من التحركات الاحتجاجية لعلّ أبرزها أحداث 26 جانفي 1978 أو ما يُطلق عليه بالخميس الأسود والذي “تَحوّل من إضراب عام أعلنته قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل إلى حالة شعبية رافضة لسياسات الحكم وخياراته، أمسَى في قراءات المؤرّخين حدثا يختزِل سياقات مرحلة بأكملها من التاريخ السياسي والاجتماعي للبلاد”[1]، مرورا بانتفاضة الخبز ديسمبر 1983- جانفي 1984 إثر الزيادة في سعر الخبز ورفع الدعم عن بعض المواد الأساسيّة، وصولا إلى انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 وأحداث بنقردان في أوت 2010 اللذان كانا بداية للمسار الطويل الذي أدّى إلى الثورة التي اشتعل فتيلها ديسمبر 2010 وانتهت بإسقاط النظام.

إنّ ميزة الاحتجاجات المذكورة أعلاه طابعها العفوي وخلوها من أي تأطير حزبي في مرحلة أولى ثمّ تبنّيها من طرف اِتّحاد الشغل الذي لعب دور تعبوي وتنظيمي في مختلف هذه المحطات بما له من قوّة دفع وتأثير على أصحاب القرار ولصلة هذه التحركات بالسياسات التنموية للبلاد وتدهور الوضعية المعيشية للمواطن وهو دور الاتحاد حاضنة العمل النقابي والشريك الاجتماعي الفاعل في الدفاع عن الطبقة الشغيلة وضمان الموازنات. إضافة إلى الميزة السابقة يُلاحظ الباحثُ السمة الجندريّة لهذه التحرّكات القائمة على الحضور المكثّف والمركّز للرجل وتتدعّم هذه الفكرة عند تصفّح سجلات الشهداء أو المعتقلين وهي سجلات ذكورية الأسماء في أغلبيتها الساحقة، ويُفسّر غياب العُنصر النسائي هنا بمقتضيات هذه التحركات القائمة على الاعتصام وإشعال النيران والمواجهات الحادة مع الأمنيين… باعتبار الفعل الاحتجاجي فعلا مجندرا يندرج ضمن مسألة توزيع الأدوار[2] التي تجعل من كل نشاط يحتاج مواجهة ومجازفة نشاطا ذكوريا أساسا. وهو ما يُضفي بُعدا تقليديا كلاسيكيا على هذه الحركات.

في مشهديّة الحركات الاحتجاجية غداة ثورة جانفي 2011

لكن ومع ثورة 2011 هبّت رياح التغيير على الاحتجاجات الاجتماعيّة التي شهدت “حالة يُمكن أن نُسمّيها تمكينا للفئات التي عادة ما تكونُ عازفة عن المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة. فالشباب كان بمثابة خاصرة الاحتجاجات، كما أن المرأة شاركت بقوة غير معهودة، وكانت في مقدّمة المحتجّين. وهكذا نجدُ أنّ الاحتجاجات نجحت في إفراز نخبة قياديّة جديدة، وإدماج فئات ظلّت بعيدا طويلا عن المشاركة”

لقد أصبح للمرأة مرئيتها النضالية بعد أن حُجبت طويلا عن المشاركة، بفضل اقتحامها هذه الدائرة الذكورية المسيّجة بالمقولات النمطيّة الثقافيّة وإثبات قوّتها وأهليتها لقيادة التحرّكات والمشاركة فيها والسير في الصفوف الأولى دون أيّ خشية أو خوف لا سيما إذا ما تعلّق الأمر بمدنية الدولة وحقوق النساء.

ينضاف إلى مشاركة المرأة الفاعلة ظهور فئات اجتماعيّة أخرى من التخفي والسريّة إلى العلنية نذكر مثالا على ذلك عابري وعابرات الهوية الجندرية والكويريين، وقد أثار هذا البروز جدلا واسعا بين مؤيّد يعتبر ذلك علامة صحيّة ومؤشرا سليما لترسيخ مفهوم التعددّية وتدريبا على احترام الحريات الفرديّة ومُنتقد يرى في ذلك مروقا وفُجورا وتشويها للفعل الاحتجاجي وتمييعا لهُ.

إنّ في مشاركة مختلف أطياف المجتمع إيمان واسع بقدرة الحراك الاحتجاجي على خلق التغيير وحلحلة الواقع وفي ذات الوقت تعبير عن الرفض وإدانة للسياسات الاجتماعية بالأساس وثورة ضدّ القوانين الزجرية أو غير المنصفة، وبالتالي تقديم تصور مجتمعي بديل يناهض العنف والقمع والتمييز.

ومن الخصائص المميزة للتحركات الاحتجاجية الاجتماعية طيلة العقد الماضي، الأشكال النضالية المستحدثة في الاحتجاج، فلم يعد الشارع هو الفضاء الوحيد الحاضن لهذه التحركات بل انفتح المحتجون على فضاءات بديلة كملاعب الكرة التي أضحت فضاءات موازية عبر ما تقوم به مجموعة “الألتراس” من نشاط بات يلفت الأنظار فقد استطاعت هذه المجموعات خلال عقدين من الزمن تحويل مدارج الملاعب إلى فضاءات للاحتجاج والتعبير والتظاهر من خلال “تعبيراتهم الفنيّة خصوصا الأغاني التي تكون مشحونة بمعان خارجة عن الإطار الرياضي وحاملة لمضامين سياسية واجتماعية وحتى اقتصاديّة، والتي تتمحور أساسا حول الدفاع عن الحقوق والحريات والتجاهر بمعاداة ما يعتبرونه أنظمة دكتاتورية”[3]. وقد نجحت هذه المجموعات عبر العالم في إرباك الأنظمة التي تحكمها وزعزعة أركانها في مرات عديدة[4].

إنّ هذا الانتقال من الخارج (الشارع) إلى الداخل (الملعب) والانزياح من لحظات التشجيع وما يرافقها من أهازيج وفرح إلى أغاني تذمّر واحتجاج وانتقاد للواقع بكافة تشعباتهِ، يُضمرُ رغبة المحتجّين في التجديد وتثبيت أقدامهم في المشهد العام عبر تقديم رؤية نقدية للواقع بشكل لافت ومستجد وطريف قادر على الحشد والتجميع خاصة فئة الشباب التي باتت تشهد عزوفا عن المشاركة في الشأن السياسي والنقاش حولهُ. إضافة إلى ملاعب الكرة اِتّجهت بوصلة المحتجّين وخاصة الشباب منهم نحو الفنون بكافة أنواعها تعبيرا عن الغضب والتمرّد فوجدوا في فن الشارع l’art de rue وسيلة تعبيرية طريفة تنأى عن الموجود المتداول الذي اُستهلك حتى مُلّ منهُ، و “تسعى من خلالها إلى إرساء مناخ تفاعلي جديد لا فقط مع النظام السياسي الحالي وإنما أيضا مع محيطها الاجتماعي ككل[5]”.

ويضُمّ فنّ الشارع “جملة من الممارسات الفنيّة المتنوّعة، كالغرافيتي وكتابات الغضب على الجدران والأعمال المركبة والعروض القياسية والمعلقات، بالإضافة إلى التقنيات والوسائط لا مجال لمقارنتها من وجهة نظر فنيّة كالكتابة والتلوين على الجدران، ملصقات ومونتاج الفيديو والفوارق اللونية…. ومن وجهة نظر سوسيولوجيّة يُشكّل فنّ الشارع مختبرا هاما لتحليل التوترات الراهنة بين منطق الخلق والإبداع وجمالية التلقي من ناحية، وبين الفضاءات الفنية العامة والمؤسسات المتحفيّة من ناحية ثانية[6]”، إضافة إلى ما ينطوي عليه هذا النوع من الفنون من حمولة دلالية ورسائل مشفّرة سياسيا تدين الواقع لتتحوّل “جدران وأرصفة المساحات العموميّة لإطار مستعدّ لخلع ثوب القلق والإفلات من الروتين اليومي وثقلهِ، وجسر تواصل ونقطة تقاطع والتقاء بين الشباب الممارس لفن الشارع والفاعل السياسي[7]”، وقد أخذ هذا الفنّ يكتسح مساحات هامة من جدران أنهج وشوارع المدن التونسية وخاصة العاصمة لا سيما تلك المتفرّعة عن شارع الحبيب بورقيبة الذي يُمثل رمز السيادة الوطنية وواجهة البلاد أمام الزوار الأجانب إلى جانب واجهات العمارات وأنفاق المترو ومحطات الحافلات، فصار الشارع مساحة هامة من مساحات التعبير وحمّال شعارات ثوريّة وفضاء إبداع منفلت عن عقال القوانين والاُطر الرسمية والفضاءات الثقافيّة، باعتباره لم يحظ بعدُ باعتراف رسمي من سلطة النقاد والمبدعين الأمر الذي جعله يوسم بالهامشيّة، وتتّضح نبرة الغضب واضحة من خلال  الرسوم الكاريكاتورية التي يقع طباعتها، والشعارات المكتوبة والتي احتلّت كذلك الفضاء الرقمي خاصة الفايسبوك الذي يشهد استعمالا كثيفا وواسعا ما يعني الترويج للقضيّة والتعريف بها أكثر عبر تناقل الهاشتغات ونسخها وإلصاقها.

 وتتميّز هذه الهاشتاغات بميزتين، الأولى وجازتها وهي ترد على نحوين إمّا جملا خبريّة من قبيل فلقطْنا/ أنا زادة وهي الحملة المقابلة ل MeToo في تونس لمناهضة التحرّش/ مانيش مسامح/ زواولة/ هاو وجهي … أو إنشائيّة في صيغة الأمر من قبيل يزّيكم باسطة تنديدا بتردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بتونس/ خلّيه ينتن حملة مقاطعة السمك لغلاء الأسعار/ تعلّم عوم/ سيّب جمنة…، أو النهي مثل الرخّ لا/ المتحرّش ما يقرّيش….

إنّ هذا التحوّل في أشكال وطرق التعبير صاحبه تحوّل في المضامين والموضوعات فلم تعد المسألة الاجتماعيّة ممثّلة في الفقر والبطالة وتدنّي مستوى المعيشة هي شعار المرحلة، بل بات المحتجّون يوسّعون آفاق الاحتجاج ويتوزّعون في ذلك مجموعات وطبقات وفق مجالات الاهتمام، وتوزّعت طبقا لذلك مواضيع الاحتجاجات إلى جملة من المسائل يمكن حصرها في ما يلي:

1/ مسألة الثروات الوطنيّة

ولنا في قضيّة هنشير جمنة[8] وحراك الكامور[9] خير مثال على ذلك، وذلك في إطار رغبة المحتجّين في تأميم الثروات والتوزيع العادل للثروة وتوفير مواطن الشغل لأبناء الجهات الداخلية ونيل الاعتراف الاجتماعي. أمّا قضيّة هنشير جمنة فتتلخّصُ في مطالبة أهالي المنطقة والمجتمع المدني باسترجاع إحدى الضيعات الفلاحية التي كانت على ملك المعمّرين والمعروفة بـ “هنشير لمعمّر” من الدولة/ تحديدا من وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية بعد أن فوّتت فيه بالتسويغ لصالح المستثمرين الخواص، وتطوّرت المطالبة إلى حركة احتجاجية واسعة انتهت بالظفر باسترجاع الضيعة واستثمارها للقضاء على البطالة بالجهة وتولّت لجنة منتخبة للغرض من الإشراف على عملية التسيير وجمع الموارد المالية والبشرية الكافية لاستثمار الضيعة، وقد التفّت مختلف شرائح المجتمع المدني بجهة جمنة من نقابيين وموظفين وصغار فلاحين وأصحاب رؤوس أموال… لمساندة هذا الحراك والدفاع عن هذا المكسب الذي سيعود بالنفع على المجموعة العامة والتعريف بالقضية وكسب الرهان. وقد “مكّنت تجربة جمنة من الاستغلال الجماعي الذي يؤمن المصلحة العامة على المستوى المحلّي من خلق إطار من الشفافيّة بشكل مواطني من خلال مراقبة مختلف المنجزات، إذ يتمكّن المتساكنون من معاينة المشاريع المنجزة والتماس آثارها في حياتهم[10]”.

أما حراك الكامور فيتنزل ضمن سياق احتجاجي واسع ضمّ مختلف معتمديات ولاية تطاوين، عرف هذا الحراك مرحلتين الأولى سنة 2017 والثانية سنة 2020 عندما ملّ المحتجون مماطلة الحكومة والتراجع في الإيفاء بما تعهّدت به عند إنهاء الاعتصام الأوّل، وهو يُعدُّ من أكثر التحركات الاحتجاجية نجاحا[11] نظرا للاستراتيجيات النضالية المبتكرة التي توخاها المحتجون والتي تنزاح بوضوح عن التحركات الاحتجاجية التقليدية المعتادة من قبيل الاعتصام بمقرات المؤسسات الإدارية وشن إضرابات الجوع وسدّ المنافذ والطرقات… حيث عمد المحتجون إلى اقتحام منطقة الإنتاج النفطي وشلّ مسالك الإنتاج (الفانة) والتوزيع (بين حقول الإنتاج والشركات العاملة) الأمر الذي بات ينذر بأزمة محقّقة في الأفق القريب وهو ما جعل الحكومة تسلّم وتقبل النقاش وترضخ لعدد من شروط المحتجّين وفي ذلك شكل من أشكال ردّ الاعتبار حتّى وإن كانت المكاسب والحصيلة ليست على قدر المأمول.

إنّ ميزة الحراكين المذكورين أعلاه الحضور الكثيف واللافت لفئة الشباب فيهما مقابل غياب واضح للمرأة، مع افتقارهما إلى أي نوع من التأطير أو التوجيه الحزبي، إضافة إلى اللحمة الاجتماعية الجهوية التي ميزتهما والتي انتفت خلالها كافة أشكال القطيعة الإيديولوجية وغاب عنها الانقسام الطبقي أو القبلي، حيثُ يُصبح الجهوي والمحلي “عابرا لما هو سياسي، وهذا ما يؤكّد مرّة أخرى مأزق الأحزاب السياسيّة والديمقراطية التمثيليّة إذْ تُصبح العلاقات الأوليّة والجهويّة هي المحدّدة لما هو سياسي وليس العكس”.

2/ القضيّة البيئيّة

مثّلت المسألة البيئيّة السنوات الماضية مشغلا واضحا في خارطة اهتمامات الفاعلين اجتماعيا والمنظمات وبعض الأحزاب ذات التوجه البيئي كحزب تونس الخضراء، في ظلّ انتصاب بعض المصبات العشوائيّة غير المنظمة وعجز الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات على تثمين ورسكلة النفايات إضافة إلى الإضرابات العشوائية والمفتوحة لأعوان النظافة في جلّ البلديات الأمر الذي أفرز تلوّثا بيئيا ينذر بخطر قريب لا سيما تهديد المائدة المائية والسواحل الشاطئية في بعض المناطق كجربة. وهو ما فتح باب الاحتجاجات على مصراعيه ونضرب لذلك نموذجين، الأوّل حملة المطالبة بغلق المصب العشوائي بجربة، والثاني حملة غلق مصب السياب بصفاقس.

تعود جذور قضية حملة مصب جربة إلى تصريح تلفزي أدلى به الوزير السابق في حكومة الترويكا سليم حميدان في برنامج تلفازي أثار غضب سكان المنطقة القريبة من المصب الجهوي بولاية مدنين حيثُ قاموا بقطع الطريق أمام شاحنات نقل النفايات ومنع معتمديات جزيرة جربة من استغلال المصب وأمام صمت السلطات الجهوية اُصدر أمر حكومي بإعادة استغلال مصب قلالة وهو مصب صغير لا يفي بالغرض لتُضطر السلط المحلية بجربة في مرحلة لاحقة إلى بعث مصب عشوائي بمنطقة “تابلت” هو ما أثار موجة من الاحتجاجات في صفوف أهالي الجزيرة أمام أطنان النفايات المكدّسة المنبعثة روائحها في الأرجاء في منطقة تعد قطبا سياحيا من درجة أولى، وازداد الأمر ضراوة لتتحول إلى مواجهات مع القوات الأمنية واعتداءات وإيقافات في صفوف المحتجين. والملاحظ في هذه الحملة التفاف كافة أهالي الجزيرة حول هذا المطلوب المشروع بغض النظر عن كافة الحساسيات العرقية والمذهبية واللونية التي كانت تخرق النسيج المجتمعي وتنشئ فروقات حادة يتجلى ذلك بوضوح في التوزيع الحضري للأحياء والمساجد والمصاهرة… وهو ما يؤكّد مرة أخرى تفوق الجهوي والمحلي على حساب الحزبي والسياسي الذي أثبت فشله وتهاونهُ.

وذات الأمر وقع في صفاقس عندما ضغط المجتمع المدني بكافة مكوناته وأطيافه وقاد حملة شرسة لأجل الضغط على مصنع السياب كي يُغلق، و”يقع مصنع السياب الذي يلقبه البعض بـ”مصنع الموت“ على الشريط الساحلي الجنوبي لمدينة صفاقس الذي تقدر مساحته بـ5600 هكتار، انطلق في النشاط سنة 1952 ويعد أول وحدة لتحويل الفسفاط في تونس من خلال إنتاج ثلاثي الفسفاط الرفيع المعد للتصدير، وينتج من هذه المادة 330 ألف طن سنويا ويشغل 450 عونا مباشرا”[13]، لكنه في مقابل ذلك أسهم في تدمير البيئة والشريط الساحلي بالجهة لعديد الصناعات الملوّثة التي يُنتجها والإفرازات الكيميائية المنبعثة منه وهو ما جعل من إغلاقه أمرا ملحا وضرورة لا تؤجّلُ، وتشكّلت لذلك تنسيقيّة مهمّتها تقريب وجهات النظر والتحاور مع كل أطراف المجتمع المدني والمنظمات بالجهة للتوصّل لحلّ نهائي أمام تلكؤ السلطة وتحوّل قضيّة غلق هذا المصنع إلى محلّ مساومة ومقايضة ومصالح، ونلحظ هنا الدور الحيوي الذي لعبه اتحاد الشغل والمجتمع المدني بصفاقس والإعلام المحلي لأجل خلق قوة تأثير على الرأي العام الوطني والسلط المركزيّة.

3/ المسألة الاقتصاديّة/ الاجتماعيّة

عرف الجانب الاقتصادي طيلة العقد الأخير تضخّما ماليا وعجزا واضحا في الميزان التجاري في ظلّ تدهور قيمة الدينار في السوق العالميّة الأمر الذي انسحب بوضوح على المعطى الاجتماعي فتدهورت المقدرة الشرائية لدى المواطن التونسي وارتفعت الأسعار ارتفاعا جنونيا ازداد معه الاحتقان الشعبي ولم يبق أمام السواد الأعظم من الشعب سوى النزول إلى الشارع تعبيرا عن غضبه من الطبقة السياسيّة الحاكمة التي لم تتوصل إلى حلول ناجعة للحدّ من التفاوت بين الجهات ومعالجة قضية البطالة ومراعاة المقدرة الشرائية للمواطن ودعم الطبقة الوسطى التي كادت تندثر، وتُعتبر احتجاجات شهر جانفي 2021 والتي بلغ عددها 1492 تحركا حسب إحصائيات نشرية شهر جانفي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية،  مثالا حيا وعيّنة ملموسة تصوّر حالة الاحتقان التي بلغها التونسي والتحولات السريعة التي عرفها الفعل الاحتجاجي في تونس، وقد عرفت هذه الاحتجاجات انفتاحا على كافة أطياف المجتمع من عاطلين عن العمل وشبان ونساء وعابري هويات جندرية… تقاطعت خلالها الشعارات بين المناداة بمطالب اجتماعية وأخرى سياسية وذهب آخرون إلى المطالبة بتعزيز ترسانة الحقوق والحريات الفردية… وتراوحت بين احتجاجات ليلية تنشب في المناطق الداخلية كالقصرين وسليانة… والأحياء الشعبية كحي التضامن، سيدي حسين، الانطلاقة…عُرفت حينها بزلزال الأحياء. واحتجاجات أسبوعية عشية السبت بشارع الحبيب بورقيبة، والتي مثّلت الإرهاصات الأولى لقرارات 25 جويلية لاحقا. وتميّزت هذه الاحتجاجات الدوريّة انزياحا كبيرا عن الصورة النمطية التقليدية للاحتجاجات كالتظاهر بشكل كرنفالي من خلال التنكّر في أزياء مهرجين وصبغ الوجوه بالألوان وتركيب شعور مستعارة… واستفزاز السلطة ممثّلة في الأمنيين الذين وقفوا متصدّين للمدّ التظاهري عبر تبادل القبل ورميهم بألوان الطلاء ورفع شعارات تضم عبارات خادشة ورفع علم قوس قزح شعار المثلية… وهي كلها علامات دالة على الرغبة في كسر كافة القيود الكلاسيكية المنظمة والمؤطرة للحراك الاحتجاجي، إضافة إلى تقارب جل الحساسيات السياسية والإيديولوجية والاتفاق وإن ظاهريا حول عدو مشترك هو رأس السلطة حينها بعد أن تراجع هامش الحرية ولا أدلّ على ذلك من تسارع وتيرة الاعتقالات بالجملة ورد الفعل بعنف ضدّ كل من يحمل نفسا ثوريا مغايرا.

الحركات الاحتجاجية والسيادة، أيّة علاقة؟

يُعتبر مفهوم سيادة الدولة من وجهة نظر فلسفية احتكار الدولة لوسائل العنف بالمجتمع احتكارا شرعيا على حد عبارة “ماكس فيبر”، وغاية ذلك في نظرها حماية الحقوق والفردية والعامة، وهو ما يحيلنا في الآن ذاتهِ إلى الثنائية التي تسعى الأنظمة الكليانية إلى فرضها وتكريسها وهي ثنائية السائس والرعيّة الخاضعة المؤتمرة بأوامرهِ، لذلك تُعرّف هذه الأنظمة بكونها أنظمة أبويّة/ باترياركيّة، حيثُ يحتلّ الأب/ السائس المركز وفي فلكه يدور الأبناء/ الرعيّة يهتدون بهديهِ.  وهو ما يُفسّر نشوئية هذه التحركات الاحتجاجية التي مرت من المطلبية القطاعية أو الجهويّة أو الماديّة… نحو محاسبة الطبقة السياسيّة برمّتها على تقصيرها وتفريطها في أركان السيادة الوطنية القائمة على السيادة الغذائية عبر الحفاظ على البذور الأصلية من التلف أو الهجنة وإيلاء القطاع الفلاحة العناية التي يستحقّ وتعزيز الموارد المائية، السيادة على الموارد الطاقية والطبيعيّة واسترجاعها واستثمارها والاستفادة من عائداتها في توفير مشاريع أو تشغيل العاطلين عن العمل، السيادة السياسيّة ومنع التدخّل الأجنبي في الشأن الداخلي وحماية المؤسسات العمومية من التفريط والتفويت…

فجميعُ ما تطرقنا إليه من الحركات الاحتجاجيّة “تؤكّدُ السيادة الشعبيّة. جميع الحالات التي رصدت في هذه الفترة التاريخيّة، تُصوّر تأكيدات بازغة للسيادة الشعبيّة. وتبيّن أيضا إلى مدى تطرح التأكيدات قضايا سياسيّة حادّة، ومن لديه الحق في التحدّث باسم الناس”[14]

لقد أفرزت هذه التحركات بكل زخمها وكثافتها مفهوما مستحدثا للسيادة والمواطنة يقطع مع المفهومين الكلاسيكيين، فنسبة هامة من الشباب المحتج فقد ثقته في الطبقة السياسية وجدوى العمل السياسي وترجم ذلك عبر مقاطعة الانتخابات ترشّحا واقتراعا، وهو في نظره يرى أنّ الشعب وحده هو صاحب السلطة المطلقة والعليا في التصرّف في موارده لذلك تنطوي رؤيته السياسية على إعادة توزيع الثروة والمجال… ولا يتحقّق ذلك إلا عبر إزاحة الطبقة السياسية التشريعية باعتبارها لسان حال من تمثله إما بطلب تجميدها أو الامتناع عن التصويت لفائدتها  وذلك شكل من أشكال العقاب فـ “العزوف عن التصويت هو عداء للنخب السياسية العاجزة عن التغيير ونفور من الخصومات الحزبية وتكذيب للتوقعات المبالغ فيها من الخارطة الحزبية ومن النظام السياسي السائد كما يدل على خيبات مبالغ فيها وهو نوع من العقاب للحقل السياسي ولكل فاعليه”، وبذلك التصرف الذاتي وفقا لما تمليه المصلحة العامة بعيدا عن كافة أشكال الوصاية.

الخاتمة

ختاما يُمكن اعتبار ما شهدته تونس بين سنتي 2020 و2021 من عدد مأهول من التحركات والانتفاضات عبر سائر الولايات في قضايا وموضوعات مختلفة منها البيئي ومنها السياسي ومنها الاجتماعي… دليل واضح على إفلاس النظام السياسي السابق وعجز الطبقة السياسية على إيجاد حلول فعليّة لمختلف المآزق التي أضحت تؤرّق كيان المواطن الذي اُنهك واُستنزف فلم يجد غير الاحتجاج أداة تعبيرية مع التنويع في طرق الاحتجاج (الرياضي/ الفني/ التشكيلي..) وفضاءاته (الداخل/ الخارج، الواقعي/ الافتراضي) بحثا عن آفاق تلقي أفضل وتفاعل أخصب. وهذا الاحتجاج يُضمر في بنيته العميقة عن رغبة في التعبير عن السيادة ومسك زمام الأمور وردّها إلى نصابها في ظلّ هذا الإفلاس القيمي والتصحّر السياسي الذي بات يعيشه بلدنا. 

الهوامش

  1. ياسين النابلي، “أحداث 26 جانفي 1978: ذاكرة مهرّبة من دفاتر النظام”، موقع نواة الالكتروني، منشور بتاريخ 26/01/2016.
  2. على سبيل المثال كانت مشاركة النساء في انتفاضة الحوض المنجمي منسجمة أساسا مع دورهنّ الاجتماعي الموكول لهنّ فقد كنّ يقمن بإعداد الطعام للمحتجين وإيوائهم وتمريض الجرحى ونقل المعلومات… لمزيد الاستفاضة في هذه النقطة، اُنظر:هدى العربي، “نضال المرأة المنجميّة من خلال أحداث الحوض المنجمي بقفصة”، مجلة إنسانيات، العدد 74، 2016، ص ص 29-46
  3. شيماء بن رجب، “الألتراس: أشكال التنظم وأبعاده السياسية والاجتماعيّة”، كراسات المنتدى، الكراس عدد 2، جويلية 2019، ص 90
  4. GeKo, Quand le stade déborde sur le mouvement social, une histoire politique des supporters, Revue de grieur, 2019/1, n 12, p 36
  5. آية بن منصور، “خطاب الرفض لدى المجموعات الفنيّة لفنّ الشارع: المجموعات الناشطة بشارع الحبيب بورقيبة مثالا”، كراسات المنتدى، الكراس عدد 2، جويلية 2019، ص 61
  6. Federico Tarragoni, « Le peuple est dans la rue. Politiques du street art dans les barrios vénézuéliens », Sociologie de l’Art,  2016/1-2 (OPuS 25 & 26), p p 131-132
  7. آية بن منصور، مرجع مذكور، ص75
  8. للاطلاع أكثر حول الحراك الاحتجاجي بهنشير جمنة، اُنظر: محمد سميح الباجي عكاز، “تجربة جمنة: مسيرة قرن من أجل استرداد الأرض”، المفكرة القانونية، العدد 19، نوفمبر 2020.
  9. للتعرف إلى تفاصيل حراك الكامور، اُنظر: حبيب الحاج سالم، “تونس/ تطاوين: المسألة أبعد من احتجاجات”، الأخبار اللبنانيّة، منشور بتاريخ 24/05/2017، الرابط: https://al-akhbar.com/Arab/231039
  10. علي الكنيس، جمنة: “الصراع حول الأرض، الدولة في مواجهة المجتمع المحلي”، كراسات المنتدى، الكراس عدد 2، جويلية 2019، ص 234
  11. اُنظر: محمد رامي عبد المولى، “اعتصام الكامور: نصف انتصار وبعض هزيمة”، المفكّرة القانونية، العدد 21، نُشر بتاريخ: 05/03/2021.
  12. سميحة الحامدي، “اعتصام الكامور بالجنوب التونسي: مواطنون عاديون يحرجون الديمقراطية التمثيلية”، كراسات المنتدى، الكراس عدد 2، جويلية 2019، ص 247
  13. ياسين النابلي، “مصنع السياب بصفاقس: التلوّث ولعبة المصالح”، موقع نواة الالكتروني، منشور بتاريخ: 23/02/2016.
  14. ربيع وهبة، الحركات الاجتماعيّة: تجارب ورؤى، الحركات الاحتجاجيّة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، ط 2، 2011، ص 70
  15. نشرية الثلاثية الثالثة 2019 حول الاحتجاجات الجماعية والإنتحار والعنف، ص 09

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 20، أكتوبر 2022

 للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf20

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights