التسامح والتعايش: أيّهما الضمان؟
|بقلم: حمزة بيّة
نحن اليوم نعيش في وضع دولي وعالمي ظهرت فيه عديد الحساسيات السياسية القائمة على أسس ومنطلقات دينية أو طائفية قد تهدد بعض المكتسبات في مجال الحقوق والحريات وتمسّ من حق الفرد في الاختلاف وهذا ما قد يدعو إلى تصنيفها كحركات رجعية غير متسامحة وإطلاق عديد التسميات عليها بينها ما هو قائم على تحليلات علمية موضوعية ومنها ما يدخل في باب التحليلات الموجهة سياسيا.
نحن نعيش اليوم معضلة عدم قبول الآخر، عدم قبول المختلف. والاختلاف هنا طبعا يقيّمه ويحدده ويضع معاييره القائم بفعل الرفض أو الإقصاء. وحقيقة يبدو مفهوم الحق في الاختلاف من المفاهيم التي تدعو للتفكر والتحليل وهي حاملة لمفهوم التقاطعية في أصلها. إذن بإمكاننا اليوم أن نتساءل على الأسس والقيم التي يبنى عليها حق الاختلاف هذا.
من أهم ما يُطرح عادة في هذا الصدد -في فضائنا الاجتماعي بما يجمعه من اختلاف في مكوناته- مفهوم التسامح الذي يمثل في المخيال الشعبي وخصوصا الترسبات العقائدية منه فعلا منشودا محمودا يُحمد القائم به عند (إذا رغب في ذلك) كما يمثّل في “المخيال الحقوقي” هدفا اجتماعيا ساميا. نحن هنا ننطلق من التسامح كفعل ذاتي غير ملزم فعليا كما أنه قائم على نوع من العلوية وعدم الندية فعند حديثنا عن التسامح حتى وان وضعناه في إطار ثقافة شعبية فهو يبقى تسامح فئة تمتلك غلبة من حيث تغلبها بالسلطة و/أو القوة و/أو المال و/أو العدد مع فئة أضعف منها.
لو بدأنا بتحليل التسامح، نجده كمنظومة قائمة الذات والأسس قد نشأت مع ظهور الأديان التوحيدية وخصوصا ما هو إبراهيمي منها بمختلف ما أسست له من نظم وتمثلات سياسية.
تطرح هذه الأديان في جوهرها إطلاقية فكرة الإله وقدرته فالإله الواحد يمتلك سلطة الحياة والموت، الخلق والإفناء وتسيير كل ما بينهما وتدبر أدق تفاصيله فالفكرة أساسا مبنية على توحد بالسلطة واتحاد بها ومن الطبيعي عند طرح فكرة كهذه ان تظهر حركات معاكسة رافضة لهذه الفكرة وهذا ينطبق على البعد السياسي كما الديني مع اختلاف في الضدية التي يمكن أن تظهر فوجد المنظّرون للأديان التوحيدية في خلق نظام التسامح سبيلا لخلق ديانة أكثر صلابة ومقبولية وقدرة على الانتشار.
الاله هنا يمثل القوة العليا والمطلقة متسامح مع البشر وهو خالقهم ومفنيهم وهذا التسامح هو تسامح غير محدد المعالم أو غير مهيكل، فقد نجد الإله مثلا في الاديان الإبراهيمية يتسامح مع شعوب كثيرة تحمل اختلافات عديدة في ممارساتها أو في طباعها ولا يتسامح مع قوم لوط كما تنسب تسميتهم في الأديان الثلاثة لمجرد اختلاف توجههم الجنسي عن التوجه المغاير الذي يريده الإله لعباده.
قد نتبين بداية في تحليلنا أن العباد يحاولون التماهي مع خالقهم في تسامحه المحدود عند دراستنا للمجتمع التونسي مثلا الذي قد يتسامح مع عدّة أشكال للاختلاف بينما يفخر بعدائه لمجتمع الميم-عين. لكن عند عكسنا لزوايا النظر والمنطلقات، قد تكون المجتمعات هي التي خلقت آلهتها على هذه الشاكلة المعتلة.
نجد إذن منظومة كاملة للتسامح في صلب الدين ونصوصه وفي فروعه وروافده الكنسية والفقهية قادرة على خدمة الدين واخفاء أشكال التعصب أو خطاب الكراهية الوارد فيه.
مع تطور منظومة حقوق الإنسان، وجدت المجتمعات التي مرت بتجربة النقد الذاتي والاصلاح الاجتماعي نفسها أمام ضرورة خلق منظومة للتعايش هي منظومة قائمة الذات تستهلك جزءا هاما من الروافد الدينية لمنظومة التسامح في حالة تبنى المجتمع مبدأ حرية الدين والمعتقد والضمير أو في حالات اخرى تكون فيها المجتمعات تعيش نوعا من المحاصصة الدينية او الاثنية في تنظيمها الاجتماعي والسياسي أو تقطع مع الروافد الدينية من جذورها، وهذه حالة عديد المجتمعات التي عاشت تحولات سياسية واجتماعية قطعت فيها مع الدين، مثل الدول التي تبنت التوجّه الاشتراكي أو الشيوعي. لكن المشترك بين مختلف هذه المجتمعات هو الانطلاق في بناء منظومة جديدة هي منظومة التعايش. يرتكز التعايش هنا أساسا على القانون الوضعي المدني الذي يحترم مبدأ الحق في الاختلاف وعلى التطور الطبيعي للحقوق والنظريات الفلسفية والسياسية والنظم الاقتصادية فنجد أنّ المجتمعات التي تحمل عمقا مسيحيا والتي عايشت فترات سيطرة الكنيسة على المجتمع الاوروبي قد مرّت بعديد المراحل واللحظات التاريخية الفارقة منها ثورة الأنوار، الثورة الصناعية… كل هذه السيرورة، التي لم نعشها أو عشنا تجارب هجينة منها أفرغت محتواها، انتهت بتكون مجتمع يعيش منظومة من التعايش يسقط فيها العامل الديني ويكون القانون الوضعي، الذي يؤسس بدوره لمنوال عيش اجتماعي، هو الأساس الأول.
من الواضح والجلي أننا في عالمنا العربي الاسلامي نعيش في الطور الاخير لمنظومة التسامح، فقد حافظنا على هذه المنظومة المنبثقة من الدين والمحدودة بحدوده في قيمها وتمثلاتها و”المجموعة الوطنية” بما تجمعه من مؤسسات دينية وحكومية وفاعلين اجتماعيين لازلت تبذل مجهودات كبرى من أجل تطويرها بهدف إيجاد حلول للإشكالات الاجتماعية المرتبطة بعوامل عقائدية ظنّا منها أنّ ذلك هو الطريق الصحيح أو ربّما بغاية حفظ الدين ذاته. اليوم نجد أنفسنا، من حيث السياسات التي تقوم عليها الدولة ومجهودات المجتمع المدني، خصوصا منه المختص في المجال العقائدي وحرية الدين وتطوير الحوار والتسامح بين الأديان، مازلنا نعمل في إطار منظومة- منظومة التسامح- قد بلغت منتهاها وكأنّنا نحاول أن نبعث الروح فيها، في حين أنّ مصيرها أن تموت لتنبعث من رمادها منظومة التعايش القادرة على تجسيد دولة القانون والمؤسسات وتعزيز منظومة المساواة والحريات الفردية ومن ضمنها حرية الدين والمعتقد.
لترسيخ الحقّ في الاختلاف في المجتمع، لا يجب أن يقتصر التركيز على القادة والفاعلين الدينيين والاكتفاء بتشريك صوري لهياكل المجتمع المدني بل يجب أن يكون هناك حفر عميق ينأى عن الآليات الميتافيزيقية لاشتغال العقل. لعلّ المقاربة الأمثل للحصول على تفاعل سليم بين جميع الحساسيات الدينية واللادينية داخل المجتمعات (وخصوصا المجتمعات العربية الإسلامية التي تزال تحت تأثير البعد الميتافيزيقي في مختلف مشمولات الحياة العامة والاجتماعية) تمزج بين مزيد تطوير منظومة التسامح عبر التركيز على الدين كذاتية روحانية غير ملزمة للتنزل اجتماعيا او تشريعيا ودعم ثقافة الاختلاف داخل مصادر التشريع الديني والعمل في نفس الوقت على خلق منظومة تعايش خارج الدين قد تصل في أقصى حدودها إلى الاقصاء الكلي للدين في اشتغالها وقيامها بالأساس على التدرج بين الجانب الثقافي والقانوني والعمل على تطوير المناويل التنموية والاقتصادية لما تمثله من مؤثر على العلاقات الاجتماعية وتطوير المنظومة السياسية لدورها في خلق علاقة مدنية بين المواطن ومؤسسات الدولة قائمة على علوية القانون. بذلك يمكن أن ننتقل من التمثل الميتافيزيقي كرافد اختياري إلى مادية مبدأ التعايش الذي يتم تأسيسه عبر الدراسة العلمية للتفاعلات الموجودة داخل المجتمع في علاقتها بمختلف المؤثرات على تنوّع منابعها واستشراف نظام عالمي يكرّس الحرية الدينية والفكرية ويحمي حقوق المتدينين وغير المتدينين عبر ضمان قانون وضعي يتم ترسيخه عبر استراتيجيات مختلفة وعبر تعاقد بين المواطنين وذلك أساسا عبر تطوير أنظمة التعليم والتنشئة الاجتماعية وتوسيع دائرة المتداخلين في هذه التنشئة من أجل بناء القيم المثلى للتفاعل الإيجابي القائم على احترام مبدأي التعدد والاختلاف.
قد نكون قد أسرفنا في استخدام الدين من أجل حل المشاكل الناجمة عن الدين نفسه بينما قد يكون الحل الأنجع كامنا في اتخاذ سبل أخرى تنطلق عبر تغيير منهجيتنا في المعالجة او ربما القطع مع المقاربات الدينية البحتة في التعاطي مع الخلافات ذات الجذور الدينيّة.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 11، جانفي 2022، ص. ص. 18-19.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf11.tounesaf.org