أبناء إبراهيم…أو رحلة البحث عن الله
|بقلم: أمل المكي
تنويه: هذا المقال ليس تغطية اعلامية لفعاليات الملتقى بل هو حصيلة انطباعات تكوّنت بفعل حضوره.
بدأت أكتب مقالتي هذه فيما صوت الأذان يعلو في سماء الحيّ وجواره مغريا بالسجود الى الله والخشوع له… للأذان دائما وقع السحر، حتى وهو يوقظك من نومك العميق الحلو ويدفعك دفعا الى مغادرة فراشك الدافئ العامر بالحب… لكنّ أجراس الكنائس تقرع يوم الأحد فيلبّي المريدون النداء، لها أيضا وقع السحر…
ولأنني لا أفهم كيف تستطيع حواسّ بعض الناس التمييز بين القدسية في الأذان وأجراس الكنيسة، وبين تلاوة القرآن وترتيل الانجيل، وبين التهجّد بصلاة محمّد أو بالدعاء للمسيح، فلم أستطع أن أفهم يوما لم يفاضل الناس بين دين وآخر ويتعصّبون لملّة دون الأخرى ويحاربون كلّ من يسمّي إلهه بمسمّى غير “الله”.
ملتقى أبناء ابراهيم عليه السلام على أرض تونس
يوم السبت 8 فيفري الجاري، نظّمت جمعية “تونس الفتاة” التي أنشط في صلبها، ملتقى فكريا بعنوان “أبناء ابراهيم عليه السلام على أرض تونس” وذلك بمناسبة الأسبوع العالمي للوئام بين الأديان… كان الحضور غفيرا ومتنوّعا بحجم توقّعاتنا… لكن الاسئلة التي طرحها البعض منهم على المتدخّلين الثمانية على امتداد ساعات الملتقى كشفت الجانب غير المتسامح في المجتمع التونسي والذي يستمدّ أفكاره وقناعاته من خطّه السياسي أو الايديولوجي لا من خلال قراءاته المتعمّقة في التاريخ والباحثة عن الانساني في الانسان…
كان ملتقى ناجحا، جمع ثلّة من المفكّرين والنشطاء تونسيين وأجانب…حيث حاضر الأستاذ “ناجي جلّول” حول “تاريخ التعايش بين الديانات بتونس” ضاربا أمثلة عديدة حول تجليات التسامح التي ميّزت التونسيين عبر العصور، كما قدّم العميد “الحبيب الكزدغلي” لمحة عن دور اليهود في الحركة الوطنية وخاصّة في مرحلة بعث الحركة الوطنية “تونس الفتاة” بقيادة “عبد العزيز الثعالبي”…
“جوناثان باهاجو”، عضو حركة الآباء البيض، تحدّث عن دور المسيحيين في العمل الانساني بتونس وقدّم على ذلك مثال العمل الخيري بمخيّم شوشة للاّجئين… شدّتني كثيرا محاضرة أمّنها الأستاذ “كمال الشواشي، خبير في الأنثروبولوجيا، حول التفاعل العجيب بين اللهجة التونسية واللغة المالطية، حيث اكتشفت معه أن اللغة الأخيرة ما هي إلاّ صورة عن اللهجة التونسية تكتب باللاتينية وتعتمد سياسة “تكسير اللغة”… اختتام الملتقى كان مع الأستاذة والباحثة “آمال قرامي” التي قدّمت جملة من التوصيات من شأنها أن تضمن مجابهة التحديات التي يواجهها واقع العيش المشترك بين الديانات في تونس والعالم العربي في ظلّ صعود المدّ الديني المتطرّف… هؤلاء وغيرهم رحلوا بنا في سويعات الى تونس جميلة لم نعرفها سوى في الكتب والمناهج قبل أن تتلطّخ الذاكرة الوطنية بخطابات التكفير والتحريض والتخوين…
بفضل الملتقى، زادت قناعتي بأن الشعب التونسي شعب عظيم عظمة فسيفسائه التي تميّز تكوينه وتركيبته. لكنني تأكّدت أيضا من وجود أقلية من الناس ران على قلوبهم الجهل بالدين والثقافة والتاريخ وأعمتهم الولاءات الحزبية والإيديولوجيات… فقبل انعقاد الملتقى بأيام، تلقّينا على الصفحة الرسمية للجمعية تعليقات مشحونة بالحقد والكراهية ورسائل مكتوبة بحبر التخوين وقلم التكفير..واتّهمنا البعض بمعاداة الاسلام والبعض الاخر بمحاولة تنصير تونس أو تهويدها…ووصفنا آخر بأننا “فرع صهيوني” لحزب النهضة المتصهينة…( يعني النهضة ما طلعتش حركة اسلامية في الاخر؟)
لكلّ هؤلاء، نقول:” تونس جميلة أيّها التونسيون…وما تجمعه الإنسانية لا يفرّقه إنسان…”
عود على بدء
أنا نفسي كنت أعبد الله الذي عبده أبي وأمي..وجدتهما يسجدان له ويعظّمان اسمه ففعلت… أخلصت لإله آبائي الولاء وآثرته بالمحبّة… وكان من الممكن أن أموت ويوارى جسدي التراب وأنا لا أعرف عن الله شيئا غير ما سمعته عنه من أفواه من عبدوه كما عبده آباؤهم من قبلهم…. لكنّني عندما سمعت عن ربّ السماوات والأرض من أفواه محبّين أفنوا العمر في البحث عنه، أدركت أن الله أكبر من أن نحبسه في قفص التعصّب ونغلّق عليه الأبواب… وأنّ نوره عزّ وجلّ أعظم من أن يشعّ على ملايين معدودة من عباده ويحرم الملايين الكثيرة الاخرى من ضيائه المبارك… وأنّ الله ليس غضبا أو انتقاما، بل هو سماحة وحبّ… وأنّ يديه المباركتين مبسوطتان لكلّ من يلهج اليه بالذكر والدعاء لا تستثنيان أحدا بسبب لونه أو عرقه أو دينه… وتعلّمت أنّ الله لا يراقبنا من فوق عرشه الذي في السماء، بل هو يرافقنا في غدوّنا ورواحنا ويمشي معنا ويجلس في مجالسنا ويضحك لضحكنا ويتألم لأحزاننا… وأنّ أذان المساجد وأجراس الكنائس كلاهما موسيقى تعزف في معبد المحبة تقرّبا من إله واحد معبود…
آن لنا أن نشقّ طريقنا بحثا عن الله فهو كنشوة النصر، لا نعرفه إلاّ ونحن مضمّخون بالعرق … والإيمان ليس كتابا يهديه لنا الآخرون في عيد ميلادنا، بل هو ما نكتبه بأنفسنا عن حالات التعثّر والوقوف والخوف من الاستمرار التي ميّزت رحلة بحثنا عن الله…