كيف تعمل الحكومة دون قوانين؟
|إذا ما تصفّحنا أعداد الرائد الرسمي للجمهوريّة التونسيّة لسنة 2012، يسترعي الانتباه قلّة عدد القوانين المنشورة. فإلى حدود نهاية شهر ماي 2012، لن نجد إلا قانونا وحيدا هو القانون عدد 1 لسنة 2012 مؤرخ في 16 ماي 2012 المتعلق بقانون المالية التكميلي لسنة 2012. وإلى حدود 3 جويلية 2012، لم يتجاوز عدد القوانين الثمانية، وإذا استثنينا منها القانون عدد 4 المتعلّق بأحكام استثنائيّة للانتداب في الوظيفة العموميّة، فإنّ جميعها يتعلّق باتفاقيات دولية محورها الأساسي القروض وضمانات القروض.
وإذا علمنا أنّ معدّل القوانين الّي تصدر سنويا كان يناهز المائة قبل 2011، فإنّ الوضعيّة الحاليّة تعكس قصورا في أداء الوظيفة التشريعيّة، وهو أمر يؤثّر بالتأكيد على عمل الحكومة. فكيف يمكن للحكومة أن تقوم بتنفيذ برامجها في ظلّ عدم وجود القوانين الّتي تمنحها وسائل العمل الّتي تمكّنها من ذلك؟ ففي ظلّ غياب مثل هذه القوانين، لا يمكن للحكومة أن تقوم إلا بتصريف الأعمال ويقلّ مجال تدخّلها إلى الحدود الدنيا الممكنة.
والغريب أنّ المجلس الوطني التأسيسي الّذي أوكل له القانون التأسيسي المؤرّخ في 16 ديسمبر 2011 المتعلّق بالتنظيم المؤقّت للسلط العموميّة القيام بالتشريع قد قام، منذ شهر فيفري، بانتخاب ستّ لجان تشريعيّة من المفروض أنّ مهمّتها القيام بدراسة مشاريع القوانين الّتي تحال إليها. ورغم أنّ هناك 33 مشروع قانون أحيلت إلى مختلف اللجان قدّمت أغلبها من قبل الحكومة (الّتي يمنحها التنظيم المؤقت للسلط العموميّة الحقّ في المبادرة التشريعيّة) يعود بعضها إلى شهر مارس، إلا أنّ إحالتها إلى الجلسة العامة للمجلس التأسيسي لم تتمّ إلى الآن، بل أنّنا لا ندري مدى التقدّم الّذي حققته اللجان التشريعيّة في دراستها في ظلّ التركيز على عمل اللجان التأسيسيّة وانهماك المجلس في مناقشة كلّ ضوضاء تحدث بالبلاد، ممّا أضاع الكثير من وقته.
وإذا كان المجلس التأسيسي غير قادر على الاضطلاع بوظيفته التشريعيّة كما ينبغي، فيجدر التساؤل عن إمكانيّة تفويض هذه الوظيفة أو جزء منها إلى الحكومة. فقد كان دستور 1959 في فصله 28 يخوّل لمجلسي النواب والمستشارين تفويض رئيس الجمهوريّة لاتّخاذ مراسيم لفترة معيّنة ولغرض معيّن تتمّ المصادقة عليها بعد ذلك. كما أنّ المرسوم عدد 14 لسنة 2011 مؤرخ في 23 مارس 2011 المتعلّق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية كان يمنح لرئيس الجمهوريّة المؤقت بعد مداولة الحكومة (و كلّ من الرئيس والحكومة لم تكن له مشروعيّة انتخابيّة) الحقّ في إصدار مراسيم لها قيمة تشريعيّة دون الحاجة إلى مصادقة من أيّ مجلس (بعد أن تمّ حلّ مجلسي النواب والمستشارين) وهو ما منح المرونة اللازمة لاتخاذ مراسيم مكّنت من تجاوز الفترة الانتقاليّة الأولى وانتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر. فلم لا تمنح مثل هذه الصلاحيّة لحكومة منحها نواب الشعب ثقتهم؟
إنّ المشكل يكمن في التنظيم المؤقّت للسلط العموميّة الّذي صادق عليه نوّاب الشعب ذاتهم. فالفصل 16 منه يجعل من تفويض المجلس لوظيفته التشريعيّة مقتصرا على وجود “ظرف استثنائي يمنع السير العادي لدواليب السلط العمومية ويجعل من المتعذر على المجلس الوطني التأسيسي مواصلة عمله العادي” وحتّى في هذه الحالة (الّتي يمكن للأغلبيّة أن تزعم وجودها)، فإنّ التفويض لا يكون للحكومة بل للرؤساء الثلاثة الّذين يصدرون مراسيم (يصادق عليها المجلس فيما بعد) بالتوافق بينهم، وهذا التوافق قد يكون متعذّرا في ظلّ وجود خلافات بين المعنيين بالأمر مما يجعل التفويض في مثل هذه الحالة فاقدا للأهميّة.
هذا التقييد لتفويض الوظيفة التشريعيّة أملته الظروف السياسيّة الّتي حفّت بالمصادقة على التنظيم المؤقّت للسلط العموميّة وخاصة ما أبدته المعارضة من تخوّف من تغوّل الأغلبيّة الحاكمة، وهو تخوّف مشروع في ذاته ولكن في ظلّ تثاقل المجلس في أداء وظيفته التشريعيّة وصعوبة تفويضها، لن يكون بإمكان الحكومة تنفيذ البرنامج الّذي سبق أن قدّمته وهو ما يعني التأخير في تنفيذ الإصلاحات الموعودة.
الغريب في الأمر أنّ الحكومة منبثقة عن أغلبيّة مطلقة في المجلس التأسيسي ممّا يعني أنّ مشاريع القوانين الّتي تقدّمها الحكومة لن تحظى مبدئيّا بغير المصادقة إذا عرضت على التصويت، وهو ما يطرح التساؤل عن الانسجام بين الحكومة وأعضاء المجلس المنتمين إلى نفس الأغلبيّة.