سجون البلاد…رؤية أخرى
|لطالما تم التعامل مع المؤسسة السجنية ببلادنا بعقلية الردع والعقاب قصد الإصلاح وهي معادلة أثبت التاريخ والجغرافيا فشلها الذريع حيث تحولت السجون إلى مدرسة لاحتراف الجريمة وبيئة ملائمة لإنتاج الانحراف. هذه الوضعية جعلت من المنظومة السجنية تصبح عبئا مضاعفا على كاهل المجموعة الوطنية، فإضافة إلى ملايين الدينارات التي تصرف لتسييرها (34 وحدة سجنية) تتحمل البلاد نزيف آخر بشري واقتصادي واجتماعي من جراء استشراء الجريمة وتطور أساليبها وتخريبها للمنظومة الأخلاقية إضافة إلى فقدان الكثير من الطاقات والمواهب الكامنة في ألاف المساجين وتحولها إلى طاقة هدامة.
والمؤسف في الأمر هو أن فشل هذه المنظومة حدث ويحدث حين نجحت دول أخرى فى تحويل السجون لا فقط إلى مؤسسات إصلاح بل جعلت منها قاطرة من قاطرات النهوض الاقتصادي والاجتماعي. فالسجين في إيرلندا مثلا يساهم في النهوض بالبلاد وهو في سجنه كما أنه يخرج من السجن وهو حامل لمشروع حياة ولسلوك حضاري أحيانا مثالي في المجتمع.
وفي بلادنا تشكل وضعية السجون كابوسا مفزعا نظرا للنسب المرتفعة للعودrécidive وما ينتج عنه من اكتظاظ كبير بالوحدات السجنية يؤكد أنها تشكل بالأساس مراكز اعتقال وعزل وأنها بعيدة كل البعد عن تأدية دورها الردعي ولا معنى للحديث هنا عن دورها الإصلاحي. يحدث هذا في حين أننا قادرون على تحويلها إلى مؤسسة إصلاح حقيقية وإلى رافد من أهم روافد التنمية البشرية والثقافية. أقول هذا وأنا أعي جيدا ما أقول. أغمض عينيك عزيزي القارئ وتصور للحظة سجنا مجهزا بمكتبة مع نظام قراءة إجباري لمدة ساعة يوميا طيلة سنة على الأقل بعدها تصبح القراءة اختيارية لمن تجاوزت مدة سجنه سنة. تخيل معي محاضرات أسبوعية في التاريخ والجغرافيا والفلسفة وعلم الاجتماع يمكن أن يلقيها الأساتذة العاطلون عن العمل مقابل نصف المرتب أو الأساتذة العاملين مقابل منح ساعية على أن يكون المحاضرون في كل الأحوال من المجيدين لفن الخطاب وإيصال المعلومة.
لا تقلق من الحلم عزيزي، خذ نفسا وواصل معي. هب أنك تحضر مباريات ثقافية دورية بين السجناء وفيها جوائز تكريمية ومادية ولو رمزية. دعنا من الحلم الآن وقل لي كيف سيصبح حال المساجين بعد قراءة عبد الرحمان منيف وجمال الغيطاني وأمين معلوف والمنفلوطي وغيرهم…أعتقد أن الأمر سيكون أفضل مما هو عليه الآن بكل الأحوال. ولعلك تدرك أن من مسه الولع بالمطالعة فنادرا ما يشفى منه وتصور تأثير ذلك في مجتمع يبحث عن المصالحة مع الكتاب والثقافة.
من ناحية أخرى، ماذا لو حولنا السجون إلى وحدات إنتاج حقيقية بدل الورش الصغيرة والبائسة الموجودة حاليا ببعض السجون والتي كان لها رغم صغرها تأثير إيجابي جدا على المساجين الذين حالفهم الحظ وتمكنوا من العمل بها نظرا لضعف طاقة إستيعابها. ماذا لو تحولت السجون إلى مصانع حقيقية توفر كل لوازمها الذاتية (مواد تنظيف وأغطية وستائر وأثاث) وبعض المعدات التي تستعملها المرافق العامة الأخرى مع تمكين المساجين من الحصول على أجور رمزية ولكنها تكفيهم شر الحاجة والسؤال وتمكنهم من مساعدة ذويهم إن أمكن وتعلم الكثيرين منهم ممن لم يختبروا طعم اللقمة الحلال معنى العمل وحلاوة الكسب بعد التعب.
وماذا لو كلفنا بعض المؤسسات السجنية بالتعاون مع هياكل أخرى بتوفير اليد العاملة اللازمة لتنفيذ مشاريع استثنائية لا تتعلّق بالحركة الاقتصادية العادية ولكنها مشاريع عملاقة قادرة على تغيير حال البلاد التونسية (زراعة مليون شجرة زيتون بالوسط والجنوب الغربي، مشاريع إحياء فلاحي بالصحراء أو بالأراضي الدولية البيضاء مماثلة لمشروع رجيم معتوق، تهيئة كيلومترات من السواحل التونسية أو إنجاز أجزاء من الطرقات السيارة). على أن عمل المساجين في هذه المشاريع لا يجب أن يكون من قبيل الأشغال الشاقة بل بمقابل ولو بسيط وفي ظروف تحترم فيها كرامتهم أولا وقبل كل شيء. وهي مشاريع ستمنحهم حتما فرصة للتكفير عن أخطائهم تجاه بلادهم وتجعلهم يشعرون بقيمتهم وأهميتهم في الحياة وفي المجتمع وهو شعور يفتقده الكثير من المساجين وهذا الافتقاد يعتبر من بين أهم الأسباب المفسرة للانحراف وللسلوك العنيف والانتقامي.
وفي كل الحالات لا بد من المحافظة على نمط حياة في السجن شبيه إلى حد كبير بالحياة العادية لسائر أفراد المجتمع حيث يجب الحرص على أن لا تتحول فترة السجن إلى ساعات طويلة من النوم ومن الخمول الذي ينعكس على شخصية السجناء في ما بعد فيجعل منهم مكتئبين ومنغلقين على أنفسهم وفاقدين للهمة وللنشاط. وهو سلوك معروف ومنتشر لدى الأغلبية الساحقة من الأشخاص الذين مروا بتجربة السجن ويحتاجون في غالب الأحيان لفترات طويلة للتأقلم مع إيقاع الحياة خارج السجن ويعجز الكثيرون منهم في ذلك.
ولئن أثبتت عديد الأطراف التونسية سواء كانت حكومية أو من منظمات المجتمع المدني وعيها بضرورة إصلاح المنظومة السجنية في أقرب وقت فإن ما نتمناه هو أن تأخذ عملية الإصلاح في الاعتبار الملاحظات التالية:
– يجب أن لا يتم تركيز عملية الإصلاح على تحسين ظروف الاعتقال المادية داخل السجن وإغفال العنصر الأساسي وهو ضبط البرامج الموجهة لعقل وشخصية السجين.
– لابد من إعادة النظر في شروط الانتداب وفي برامج التكوين الأساسي والمستمر لأعوان السجون والإصلاح فلم يعد مطلوبا منهم أن يكونوا حراسا لأبواب السجن فقط بل وبالأساس مشرفين على عملية معقدة وصعبة جدا وهي إرجاع من زلت بهم القدم إلى السلوك السليم.
– السجن يجب أن يبقى سجنا وتجربة قاسية في عقل ووجدان المساجين وسائر أفراد المجتمع كي يؤدي دوره الردعي ولكنه دون أن يتحول إلى ملهى يمنح السجين متطلبات المصالحة والإندماج مع مجتمعه ويجعله يندم على ما إقترفته يداه عندما يكتشف أن الحياة بعيدا عن الإنحراف ممكنة وممتعة.
وقد يبدو هذا التصور لإصلاح المنظومة السجنية خياليا للبعض وغير قابل للتحقيق نظرا لتكاليفه الباهظة وهذا صحيح نسبيا، ولكن ما تخسره بلادنا سنويا نتيجة فشل المنظومة الحالية يعادل عشرات المرات المبالغ المطلوبة لتمويل عملية الإصلاح ولعله من المفيد التذكير في هذا الصدد بأن تقييم المشاريع العمومية لا يتم على أساس تقدير الكلفة والعائدات المباشرة لأي مشروع (المقاربة المالية والمحاسبية (l’approche comptable et financière) بل بتحديد الجدوى من إنجازه على المستوى الوطني وعلى المدى المتوسط والبعيدL’approche économique :cout-bilan-avantage).
ولمن مازال يرى في هذا المشروع شيئا من الخيال لا يسعني إلا أن أهديه مقولة الأستاذ Gustave LEBON “ليس بالاعتماد على العقل وحده، بل غالبا ما تنبني ضد العقل تلك الأفكار القادرة على هز العالم”