هل ولدت أوروبا خلال العصر الوسيط؟ أو كيف وحّد التاريخ الطويل أوروبا: قراءة في كتاب جاك لوغوف

بقلم: فهمي رمضاني

أسهمت أجيال متعددة من المؤرخين في الغرب في تطوير الكتابة التاريخية والارتقاء بها إلى ذرى الإبداع خاصة خلال القرن العشرين الذي شهد تأسيس مجلة الحوليات الشهيرة التي كان لها دور كبير في تجديد المعرفة التاريخية وتثوير مناهجها حيث تولى إدارتها  نخبة من المؤرخين كانت لهم إسهامات كبيرة في ابتكار اتجاهات مستحدثة في الفكر التاريخي ونذكر من بين هؤلاء مارك بلوك، لوسيان لوفيفر جورج دوبي، فرناند بروديل وخاصة جاك لوغوف الذي ارتبط اسمه بالقرون الوسطى وبمدرسة “التاريخ الجديد”، فقد أبدى منذ طفولته شغفا غير محدود بالعصور الوسطى التي ظلّت عصور تخلف وظلام في المخيال الأوروبي لقرون وذلك عبر إعادة دراسة هذه الفترة المهمة في تاريخ الغرب المسيحي من خلال توسيع دائرة المصادر والاستئناس بالعلوم الاجتماعية والإنسانية المساعدة لعلم التاريخ .كما دافع كذلك لوغوف عن تاريخ جديد يسعى إلى دراسة تاريخ المجتمع في شتى أبعاده مادية كانت أم روحية، فقد عرف بمنهجه الذي يتعامل مع التاريخ بشموليته حيث لا يكتفي بسرد الأحداث والمعارك والتواريخ والمعاهدات بل يتعداها إلى رصد مختلف مظاهر الحياة في زمن ما كأنماط التفكير وأنماط العيش والعادات والتقاليد وقد أسهمت جل أعماله في تغيير نظرتنا إلى العصور الوسطى التي أصبحت مرحلة أساسية في تكون المجتمع الغربي وثقافته، ففيها نشأ العنصر المؤسّس للهوية الجمعيّة وأخذت بوادر الدولة تتكون شيئا فشيئا كما ظهرت خلالها أيضا اللغات المحلية والتطور العمراني وتأسّست الجامعات بل إن أوروبا نفسها نشأت في نظره خلال هذه الحقبة الطويلة وهو ما سنتناوله في مراجعتنا لهذا الكتاب.

عُرف جاك لوغوف بغزارة إنتاجه حيث ألف ما يربو عن ثلاثين كتابا، نذكر من بينها “حضارة الغرب الوسيط”، ” المثقفون في القرون الوسطى”، الإنسان الوسيطي (بالاشتراك)، “التاريخ الجديد”(بالاشتراك)، ” من أجل عصر وسيط مختلف”، “المخيال القروسطي” و”هل ولدت أوروبا خلال العصور الوسطى ؟” الذي نقله الى العربية كل من الأستاذ “يوسف نكادي” و”محمد حناوي”( صدرت الترجمة العربية سنة 2015) وقد صدر في نسخته الأصلية عن دار سوي سنة 2003 وترجم إلى لغات متعددة كالإسبانية والايطالية والانكليزية.

افتتح الكتاب بمقدمة كشفت عن الجهد الذي بذله لوغوف في هذا المؤلف للتأكيد على أن الوحدة لا يمكن أن تستكمل إلا بأخذ التاريخ بعين الاعتبار حيث يجب استحضار التاريخ في عملية البناء لأنه ضروري لتحقيق النجاح ولا شك أن العصر الوسيط الذي اهتم به لوغوف يمثل الحيز الزمني الذي انبثقت فيه أوروبا كحقيقة وكتمثل. ويتوزع الكتاب على 350 صفحة تشمل توطئة وستة فصول مسبوقة بمقدمة ومذيلة بخلاصة عامة.

ينتقل بعد ذلك لوغوف، إلى الفصل الأول الذي غطى المرحلة المتزامنة مع بداية العصور الوسطى في أوروبا أي الفترة الممتدة بين القرنين الرابع والثامن والتي اعتبرها المرحلة الأولى في طريق بناء أوروبا الموحدة، وقد اختار له كعنوان “تصور أوروبا بين القرنين الرابع والثامن” حيث يرى بأن هذه الفترة هي حقبة مفصلية بدأت تظهر فيها أوروبا ولو بشكل هلامي وجنيني، وقد حدث ذلك في خضم تحوّل ذي وجهين: الأول انتشار الديانة المسيحية في ربوع أوروبا سنة 318 م تاريخ اعتراف الإمبراطور قسنطين بهذه الديانة ثم إقرارها كديانة رسمية سنة 390.

أما الوجه الثاني، فهو تقسيم الإمبراطورية إلى قسمين: قسم شرقي وقسم آخر غربي قدّر له أن يكون مهد نشأة أوروبا الموحدة، فقد شكل القرنان الرابع والخامس عملية صياغة العقيدة المسيحية التي قام بها كل من القديس جيروم والقديس أوغسطينوس، كما شهدت هذه الفترة كذلك انبثاق تراث فكري ينتمي إلى مرحلة نهاية العصر القديم وبداية العصور الوسطى حيث نجح العديد من الأعلام في المزج بين الثقافة الرومانية ومتطلبات المجتمع الجديد الذي انضافت إليه العناصر الوافدة الأمر الذي أدى إلى عمليات اختلاط وانصهار بين شعوب وافدة وعناصر محلية فأخذت بذلك الخارطة السياسية تتشكّل من جديد في ضوء هذه التحركات البشرية. في خضم ذلك مثلت الديانة المسيحية البوتقة التي انصهرت فيها مختلف فئات المجتمع الأوروبي خلال القرون الأولى من العصر الوسيط كما أعطت في نفس الوقت لجميع الأقاليم نوعا من الوحدة والتجانس.

يهتم الفصل الثاني بالفترة الممتدة بين القرن الثامن والقرن العاشر وقد ورد تحت عنوان “أوروبا مجهضة العالم الكارولنجي” ويعتبر لوغوف أن الفترة الكارولنجية تمثل الحقبة التي شهدت أهم محاولة لبناء أوروبا الموحدة وقد ارتبطت هذه المحاولة بشخص شارلمان الذي أقام إمبراطورية تعد مقدمة في مسلسل بناء أوروبا الموحدة ولذلك أولى لوغوف اهتماما بشخص شارلمان حيث لم يتردد في اعتباره الأوروبي الأول الذي حلم بأوروبا موحدة فهو لم يتوان في القيام بحروب وغزوات أسهمت في توسيع مجال إمبراطوريته كما عقد تحالفا مع المؤسسة البابوية لذلك يمكن القول بأنه ترك إرثا يكمن أساسا في منظومة القوانين التي أصدرها لتنظيم الحياة داخل المجتمع والعملة التي سعى من خلالها إلى توحيد النقود المتداولة وذلك بإقرار نظام نقدي تمثل العملة الفضية قاعدته والدنير وحدته النقدية. أما بخصوص المؤسسات الدينية، فقد نجح شارلمان في توحيد الأديرة حيث أصبحت الطريقة البندكتية الطريقة الملزمة لجميع أديرة الإمبراطورية ولذلك يعتبر لوغوف أن أهم نجاح حققته أوروبا الكارولنجية تجلى في مجال الحضارة. لكن هذه الوحدة الحضارية الخلاقة لن تتواصل بعد وفاة شارلمان إذ سرعان ما سيعود الانقسام السياسي من جديد.

ينتقل لوغوف إلى الفصل الثالث المعنون” بأوروبا المحلوم بها وأوروبا الممكنة في سنة ألف” حيث يشير إلى أن الوحدة وإن تهاوت بعد وفاة شارلمان فإنها قد انبعثت من جديد تحت يافطة جديدة وهي يافطة الإمبراطورية الجرمانية المقدسة مع ملك جرمانيا أتون الأول وقد تزامن ذلك مع دخول أوروبا مع حلول السنة ألف في مرحلة نمو اقتصادي مطرد أفضى إلى انتعاش جميع الأنشطة المتصلة بالعمارة والعمران والتجارة والزراعة ، كما شهدت هذه المرحلة كذلك قدوم وافدين جدد في شكل موجات غزو وهم الاسكندنافيون والهنغاريون والسلافيون وقد تحولت أغلب الشعوب الوافدة إلى المسيحية الكاثوليكية مما هيّأ قيام وحدة دينية وسياسية فيما بعد.

الفصل الرابع خصصه المؤرخ للحديث عن “أوروبا الفيودالية” أي أوروبا بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر وهي حقبة تأكدت فيها قوّة العالم المسيحي من خلال  الازدهار الكبير الذي شمل تطورات عديدة في مجالات متنوعة :ففي مجال الزراعة استغنى الفلاحون عن استعمال المحراث البسيط (الأركثروم) ليحل محله المحراث (charure) كما حدث تحسّن في العوامل المناخية بعد بزوغ فجر سنة ألف فبدأ وكأنه دفعة آتية من السماء على حد تعبير الباحث مارك بومبير.

ينتقل لوغوف الى الفصل الخامس المعنون” بأوروبا الجميلة: أوروبا المدن والجامعات القرن الثالث عشر” حيث يعتبر أن القرن الثالث عشر كانت فترة أوج الغرب الوسيط فقد حقق فيه العديد من النجاحات التي تمثلت في: الازدهار الحضري وانتعاش المبادلات التجارية ثم انتشار المعرفة والجامعات وأخيرا ظهور فئة جديدة من رجال الدين.

بالنسبة للازدهار الحضري فقد كشف لوغوف عن تغير مورفولوجية المدينة الوسيطة ووظائفها مقارنة بمدينة العصور القديمة حيث أصبحت الوظيفة الاقتصادية تحتل المقام الأول هذا فضلا عن تحول مدن القرن الثالث عشر إلى مدن تجلت فيها قيم الجمال خاصة في المعمار وهذا ما يؤكده لوغوف بقوله ” المدينة أصبحت تمثل حالة روح اختزلت حقائق مادية وتمثلات ذهنية في نفس الوقت.”

أما النجاح الثاني الذي شهده القرن الثالث عشر فكان بدون شك النجاح التجاري فقد كان هذا القرن قرن صحوة وتطور ونشاط ارتبط بالمدن ارتباطا وثيقا وقد اشتهر التجار الايطاليون والهانستيون إذ يعود ذلك إلى النشاط والازدهار اللذان ميزا كلا من المدن الايطالية ومدن الشمال الألماني. وقد كان التاجر الأوروبي تاجرا متجوّلا في أغلب الأحيان حيث يجوب التجار البلدان بحثا عن تحقيق أكبر قدر من الربح.

كانت أهم مشكلة تواجه الاقتصاد الأوروبي الوسيط هي مشكلة النقد حيث كانت التجارة الدولية تقتضي وجود أداة نقدية قوية وقابلة للانتشار بدل العملات الفيودالية التي كانت متداولة آنذاك . وقد قام التجار الأوروبيين بالعديد من أعمال البر والإحسان كتقديم الصدقات والأعطيات أملا في الحصول على الخلاص من الكنيسة، كما انخرطوا منذ القرن الثالث عشر في عمليات تشييد كنائس جديدة مغدقين الأموال على الرسامين والفنانين وبذلك حقق هؤلاء التجار مكسبين رئيسيين وهما الرفاه المادي والاستقرار الروحي.

إلى جانب النجاح الحضري والازدهار التجاري، تميز القرن الثالث عشر بظهور المدارس والجامعات، فقد خلق تنامي قوة البورجوازية في الحواضر المناخ الملائم لتأسيس مدارس لكن الحدث الهام بدون شك كان إنشاء مدارس للتعليم العالي تسمى بالجامعات أهمها جامعة السربون التي أسسها روبير دو سربون. أدى انتشار الجامعات والمدارس إلى تطوّر الثقافة والعلم وظهور حضارة الكتاب الذي شهد تطوّرا هاما خلال هذه الفترة فإلى جانب تزايد المهتمين بالقراءة وانخفاض نسب الأمية في أوساط النبلاء والتجار، تطوّرت ظاهرة النسخ وابتُكرت تقنيات جديدة تقوم على نسخ صفحات الكتاب مستقلة الواحدة عن الأخرى قبل شدها إلى بعضها البعض. بالتزامن مع ذلك، انتشر الإنتاج الموسوعي الذي اهتم بعلوم عقلية ونقلية كعلوم الدين والفلسفة والميتافزيقا ويعتبر العالم اللاهوتي هيوغ أول من وضع أسس وقواعد التأليف الموسوعي حيث نشر حوالي سنة 1135 كتابا يتضمن معارف دينية وأخرى دنيوية. بالموازاة مع ذلك تمثل المدرسية أهم إرث ثقافي جامعي ورثه القرن الثالث عشر وتطلق هذه التسمية على الإنتاج الثقافي المرتبط بالمدارس عموما وبالجامعات خصوصا.

أما الفصل السادس والأخير فقد ورد بعنوان ” خريف العصر الوسيط أم ربيع الأزمنة الجديدة ” حيث أكد فيه المؤرخ منذ البداية على فكرة مفادها أن الباحثين قد درجوا على إطلاق عبارة “خريف العصور الوسطى” على القرنين الرابع عشر والخامس عشر وهي فترة شهدت خلالها أوروبا أزمة بعد قرن من الاستقرار والازدهار النسبيين وقد تجلت هذه الأزمة في عودة المجاعة والحروب والأوبئة. أما المجاعات التي كانت ظاهرة مرعبة خلال العصر الوسيط فإن أسباب عودتها تتمثل في حدوث تحولات مناخية أفضت إلى برودة والأمطار تارة وإلى الجفاف تارة أخرى.

يختتم لوغوف هذا العمل بالإشارة إلى تساؤل هام وهو هل أن أوروبا قد كانت بصدد العبور إلى مرحلة جديدة عند نهاية القرن الخامس عشر؟ فهل كانت تلك اللحظة تتضمن بعض المستجدات وبعض مظاهر القطيعة التي تسمح بالحديث المشروع عن انتقال من حقبة تاريخية سميت بالعصور الوسطى إلى حقبة تاريخية أخرى نعتت بالعصور الحديثة؟ فهل انتهى العصر الوسيط حقا عند نهاية القرن الخامس عشر؟ للإجابة عن كل هذا الوابل من الأسئلة والإشكاليات يعتقد لوغوف بوجود “عصر وسيط طويل الأمد “فما ميّز نهضة القرن الخامس عشر كان موجودا خلال العصر الوسيط: ألم يكن الفن ناهضا في ايطاليا منذ القرن الثالث عشر؟ ألم تكن الحركة الإنسية قد بدأت في البزوغ منذ القرن الرابع عشر؟ ألم يتواصل الطاعون إلى حدود 1730؟ النظام الفيودالي كذلك ألم يسقط إلا عشية بداية الثورة الصناعية؟ وكذلك الأمر بالنسبة للتراتبات الثلاث (رجال الدين والمحاربون والفلاحون)، ألم تبق سارية المفعول في فرنسا إلى حدود الثورة؟ لذلك يؤكد لوغوف على أن قطيعة ما يسمى بالنهضة لا وجود لها لذلك “فإن العصر الوسيط كان عصر تقدم هائل نحو الأمام خاصة تقدما نحو الوحدة فقد تأكدت القدرة على التقدم خلال العصر الوسيط وتقوت أكثر خلال القرن الخامس عشر إذ كانت العوائق الفكرية المنتصبة أمام التقدم تزاح شيئا فشيئا فتم الانتقال من القدرة على التحكم في الحواس إلى القدرة على التحكم في الوقت وقد كان ذلك أمرا عظيما “.

تتمثل إضافة جاك لوغوف في قراءته لتاريخ أوروبا الوسيط في كونه عمل على رصد التاريخ الثقافي والاجتماعي والذهني وليس فقط التاريخ السياسي والكرونولوجي ويظهر ذلك من خلال تناول تاريخ الأفكار والعلوم والأوبئة والمشاعر والذهنيات في إطار مدرسة “التاريخ الجديد ” التي أعطت أهمية للبنية على حساب الحدث، حيث لم يعد للتاريخ الحدثي أي معنى لذلك لقب جاك لوغوف “برائد الأنثربولوجيا التاريخية في أوروبا” .

بالإضافة إلى ذلك أعاد جاك لوغوف قراءة التاريخ الأوروبي الوسيط وفقا لإشكاليات جديدة جعلت من العصر الوسيط لا عصرا للظلمات وللإقطاع وللجهل والفقر فقط بل “عصرا جميلا” أخذت فيه أوروبا في تحسّس خطاها نحو الحداثة من خلال تأسيس الجامعات وتطور المدن والعلوم والفنون وازدهار التجارة. لذلك فإن لوغوف يرفض التحقيب الكلاسيكي للتاريخ وفق الأحداث الكبرى والقطائع وإنما يقترح تحقيبا جديدا يعتمد على مفهوم الأمد الطويل كبنية وعلى تغير العقليات كمحدد للانتقال من حقبة لأخرى، فالعصر الوسيط بالنسبة إليه لا ينتهي في 1492 وإنما في القرن التاسع عشر، لذلك فإنه يتحدث عن عصر وسيط “طويل” وعن عصر وسيط آخر”un autre Moyen Age” أكثر جمالا كانت فيه المدينة محتضنة الحضارة وعرفت فيه أوروبا انتعاشة اقتصادية وثقافية مهمة أدت إلى بروز فئة البورجوازية وبداية تشكّل معالم أوروبا الحديثة. لذلك كان العصر الوسيط بالنسبة لجاك لوغوف “عصرا عرف تطلعا كبير نحو الطبيعة والسلم والعقل “.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد التاسع، نوفمبر 2021، ص. ص. 12-14

للاطلاع على كامل العدد: https://tiny.cc/hourouf9

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights