بين سلطة اليومي وسلطة الذات
|بقلم: كريمة بريكي
إن التساؤل عن الأشياء اليومية إنما هو في الحقيقة تساؤل عن الذات عن حقيقة “الأنا”، إن التساؤل عن اليومي هو من ضرورات قيام فلسفة الذاتية La philosophie de la subjectivité … وفي ذلك إشارة إلى أن فلسفة الذاتية مرتبطة شديد الارتباط بفلسفة الآخرية Philosophie de l’altérité، وفي ذلك إشارة إلى أن فلسفة الوعي مرتبطة بفلسفة اللاوعي.
وإذا كان الأمر كذلك فان درجة سعادة النفس تقاس بدرجة معرفتها. وهو ما يلح عليه أبو الريحان البيروني حيث يقول:” فإذا بلغت النفس مرتبة راقية من العلم استيقنت شَرفَ ذاتها وقوَامها لا بغيرها”. المرحلة المتقدمة هي مرحلة الإقلاع عن المادة والاستغناء عنها، وهي المرتبة التي يمكن أن نسميها مرحلة القوامة الذاتية أو الاستقلال الذاتي autonomie لذلك فإن علم النفس التحليلي يمكن أن يعيننا على فهم جينيالوجيا أشياء يومية كثيرة في حياتنا، أشياء لا نتساءل قط عن حقيقتها لفرط ما تبدو لنا بديهية وربما تافهة. لا تثير حيرة ولا تدفع للتساؤل
ولذا فان التساؤل عن اليومي يتخذ في الحقيقة شكل الحفريات في النفس الإنسانية الفردية، شكل الاركيولوجيا في التاريخ الإنساني وفي الثقافة الإنسانية وذلك مهما بدا لنا هذا اليومي بسيطا باعتبار أن البساطة كثيرا ما تكون ظاهرة سطحية لا تعي سطحيتها.
ولحظة تحول اليومي الروتيني إلى موضوع نسائله تصاحبها ضرورة لحظةُ تحول الأنا، تحول الذات من ذات بالمعنى البسيكولوجي الأنا باعتباره كائنا يوميا ”يمشي في الأسواق ويأكل القديد”(حديث نبوي) مثل جميع البشر. يتحول هذا الأنا البسيكولوجي إلى أنا أبستمولوجي (إلى ذات مفكرة إلى ذات متسائلة) والذات المفكرة المتسائلة هي الذات التي لا تعيش الأشياء في صمت وتلقائية بل تنفصل عنها لتجتهد في تأملها وفي الوقوف على معانيها. هي إذن لحظة الانتقال من المعيش le vécu إلى التفكرLa pensée.
إنّ هذا التحول من وضع الذات البسيكولوجية التي تنخرط في المعيش اليومي وتندرج في سيلانه الآلي حتى يصبح أشبه ما يكون بالغريزي إلى وضع الذات المفكرة في اليومي، هو في الوقت ذاته تحول ذلك اليومي إلى موضوع قائم بذاته مستقل عنا وكأنما هو أصبح غريبا عنا فنتساءل هل من الضروري عقليا أن تكون الأشياء على النحو الذي ألفناه؟
ضربان من التحول يقعان هنا: 1/ تحول الأنا من ذات بسيكولوجية تعيش الأحداث كما تحدث إلى ذات مفكرة تتأمل الأحداث وتسائلها عن معانيها.
2/ تحول اليومي من وضع الحدث الخام المعيش إلى وضع موضوع للدرس والمساءلة.
إنّ مساءلة اليومي بوجه عام عما يلتئم عليه من المعاني يمكن أن تفضي بنا إلى هذا التحول المزدوج: تحول اليومي ذاته من وضع المعتاد والمألوف إلى وضع غير المألوف وغير المعتاد، فكأنما نحن حوّلنا أقرب الأشياء إلينا إلى شيء غريب نسائله عن حقيقته وعن معانيه، وفي نفس الوقت يحدث تحول ثاني في الذات في الأنا فبعد أن كان الأنا “يتفرج على الشمس وهي كما يقال تجري في السماء” أصبح يراها ساكنة ويرى أن جريانها ليس إلا انعكاسا لحركة الأرض. فنحن نتحول إذا من وضع الأنا البسيكولوجي الأنا الخبري le moi empirique إلى وضع “الأنا المفكر”
وهذان التحولان يضعاننا أمام وضع ينقسم فيه الوجود البشري إلى قسمين :
1/قسم الروتين اليومي الذي التصقنا به حتى أضحى جزءا من وجودنا، قسم تماهينا معه حتى أصبح أشبه ما يكون بالوجود الغريزي لما يتميز به من التلقائية la spontanéité. (سلوك تلقائي) comportement spontané
2/ القسم الثاني هو قسم يقظة الفكر من سباته، قسم التفكر والحيرة. والشك هنا يحدث قطيعة في سلسلة اليومي في نسيج اليومي حتى يغدو كأنه غريب عنا -وبذلك نتبين أن مساءلة اليومي تعني في نهاية التحليل المرور من السلوك العفوي التلقائي إلى السلوك التأملي المتفكر فيه. والمرور من وضع يشبه السبات الفكري وبالتالي الدغمائية إلى وضع هو اليقظة الفكرية وبالتالي الموقف النقدي. كما هو المرور من عالم ألفناه نعيش أحداثه بشكل مباشر إلى علم أضحى غريبا عنا لأننا أخذنا منه مسافة نقدية وجعلناه موضوع تأمل فكري
فاليومي بالنسبة إلينا لا يبدو غريبا إلا بفعل ضرب من التماسف prendre ses ou prendre du recul أو قل بضرب من إيجاد مسافة بيننا وبينه أي بضرب من الانفصال عنه وأخذ مسافة منه حتى نحوله من وضع المعيش المباشر إلى وضع الموضوع المتفكر فيه.
هذا التماسف ضروري ليوجَد الموضوع في مقابل الذات ليكون الموضوع Objet قبالةَ الذات Sujet عندها نأخذ منه مسافة نقدية فنقف منه موقف الغريب عنه وهكذا يتحوَل اليومي من وضع الوسط المعيش إلى وضع الموضوع المدروس ومن وضع الشيء المعتاد إلى وضع الموضوع الغريب وعندها قد ننفذ إلى ما قد يكون انطوى عليه المعيش اليومي من ”أسرار” أو ”وقائع ” متسترة حتى لكأن اليومي غشاء يحجب عنا رؤية الواقع الذي نلقاه كلَ يوم هذا الموقف المنهجي عبّر عنه اميل دوركايم بمقالته الشهيرة التي تُشكل أولىَ قواعد البحث في علم الاجتماع في كتابه المسمى “قواعد المنهج في علم الاجتماع ”Les Règles de la méthode sociologique: يجب معالجة الظواهر الاجتماعية باعتبارها أشياء… وهذه القاعدة المنهجية القاضية باعتبار الظواهر الاجتماعية ”أشياء” هي التي استلهمها الانثروبولوجين في دراسة الثقافات عامة وفي دراسة موضوعات ثقافية مخصوصة.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد27، جوان 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf27