حبيبتي فوكوشيما
|أكثر من ستّة أشهر مرّت على كارثة فوكوشيما: تسونامي وآلاف القتلى، إنذار مفزع بكارثة نوويّة ومواطنون برهنوا مرّة أخرى عن مقدرة عالية في حسن التصرّف وعمق الإيمان بمبادئ وقيم المواطنة…كان ذلك ذات 11مارس، عندما أطلقت الطبيعة، بيد إلهيّة، غضبها المدمّر.
منذ 11 مارس والأياّم الّتي تلته، بتّ مبهورا يصلابة الشعب الياباني وإبائه. إنّي مذهول بتلك الأرواح المضيئة الّتي لا تنحني أمام الموجات الوحشيّة والأدخنة الكثيفة. فقط في اللحظات الخطيرة والمؤسفة تتاح الفرصة للإنسانيّة في تجلّيها الّذي يرفعها إلى الأنموذج الإلهي…حبيبتي فوكوشيما.
فوكوشيما أو “جزيرة السعادة” استحقّت تسميتها عن جدارة. رغم انقطاع الكهرباء والتزويد المحدود بالماء وخوف أزرق من نتيجة كارثيّة وسيناريو مشابه لتشرنوبيل، بقي المواطن الياباني رزينا…لم يغرق وتأقلم دون ضجّة مع الظروف رغم صعوبتها. المصلحة الفرديّة امّحت أمام “الكائن الجماعي”. تغلّب شعور بالانتماء إلى مجموعة ذات مصالح متجانسة…حبيبتي فوكوشيما.
الصور الّتي تلاحقت والّتي أظهرت اليابانيين، الغارقين في الهلع والحيرة، يقفون في الصفّ بطريقة مثاليّة تستجيب لقواعد الهندسة في استقامتها وقواعد الجبر في انتظامها، كانت درسا عن التعالي في مواجهة مصيبة كبرى…حبيبتي فوكوشيما، أغار من هؤلاء المتقاعدين اليابانيين المستعدّين للتدخّل، متطوّعين، لتنظيف الموقع النووي، كما هو حال ذلك المقدام كازوهيكو إيشيدا الّذي ما إن أخبر زوجته بقراره حتّى أجابته أنّ عليه أن يفعل ما يظنّه واجبا…هؤلاء الرجال والنساء من الأرخبيل الياباني ذي الموارد الطبيعيّة المتواضعة، أ لا يمكن أن يكونوا شعب الله المختار لبسالتهم وتواضعهم وقدرتهم على أن يعطوا باستمرار معنى لوجودهم؟
هذا الشعب، الّذي ما فتئ، على امتداد تاريخه، يقدّم دروسا حقيقيّة يراقب أيضا عن بعد الشعوب في فورانها (على غرار الشعب التونسي)…الشعوب الّتي هي بصدد القيام بثوراتها أو إكمالها. بعد 14 جانفي، نحن التونسيون، كنّا نظنّ بسذاجة أنّنا نمثّل شعبا مثاليّا، شعبا في سرّة العالم، و ها هي شياطيننا القديمة الجديدة تلوح مجدّدا: الطمع، الشراهة، قلّة الصبر، “أنا وبعدي الطوفان” وغير ذلك ممّا نسيت…وكانت لنخبتنا الفرصة لتتميّز (وهي الّتي لا زالت تعاني وتعاني) بأنانيتها وضيق أفقها وعدم قدرتها على الارتقاء إلى مستوى مسؤوليّاتها التاريخيّة…لنعترف، إنّه تناقض صارخ بين الساموراي المنضبط والمتفاني من جهة والعقليّة “الخبزيست” للتونسي الّقاصرة عن نظرة شاملة، والحاملة لأنانيّة سرطانيّة تضاف إلى انتهازيّة عمياء.
حبيبتي فوكوشيما…إنّها نسمة تأتي من بعيد، مشبعة بالشجاعة والصلابة تغمر روحي وتملأ قلبي…نعم، الثورة التونسيّة أيضا نفخت فيّ دفقة عميقة من الأمل لكن مع وجود الطرقات المقطوعة، مع البلطجة الّتي تبدو بريئة وعفويّة، مع الإضرابات العشوائيّة والمفتوحة، أخاف أن لا تحمل هذه الثورة غير رائحة عابرة من الياسمين وأنّ فوكوشيما ستبقى حبيبتي الوحيدة والفريدة…
حبيبتي فوكوشيما…أعيش معاناتي و أنا بعيد آلاف الكيلومترات عنك…ويؤجّج اضطرابي ما أراه من مكائد من حولي، وهذا الانقلاب السريع من ثقافة التمجيد ومن السلبيّة المطلقة إلى فكر من التحقير التلقائي والشكّ الآلي، ممّا يعبّر عن طبيعة تونسيّة حبلى بالمتناقضات. هذه الملامح السلوكيّة تتناقض جوهريّا مع ثبات الطبع الياباني، هناك أين لا يكون لمن “يبدّل لحية بلحية” مكان. ذلك هو “الصراط المستقيم” الّذي يضمن هذا الثبات، وهو ما صنع الفارق بفوكوشيما.
كان للنقد والفزع مكانهما في بلاد الشمس المشرقة، لكن دون زلل ولا انحراف. في تونس، الصخب الإيديولوجيّ هو ما يهيمن. قمّة هذا الهرج والمرج يعبّر عنها بجلاء من يحتجزون الهويّة التونسيّة، الّتي، حسب رؤيتهم “الطلائعيّة” يجب أن “تحفظ” في تابوت الهويّة العربيّة الإسلاميّة. إذن، ورغم أنيّ أجازف بصدم من يحملون لواء الهويّة العربيّة الإسلاميّة في هذه الربوع، أعلن بأعلى صوتي استعدادي، بل حماسي لإدماج الفضائل العظيمة للهويّة اليابانيّة الباسلة في جينوم هويّتي ومنحها الأسبقيّة في التعلّق بها. إن سألتم عن الهويّة العربيّة الإسلاميّة، أخبركم بهدوء أنّ هويّتي تزداد ثراء باستمرار، ومن المقدّر لها أن تكون وعاء لقيم الشجاعة والرزانة والتفاني والكرامة، قيم مثل تلك الّتي تدفّقت عن قيام الراحل محمّد البوعزيزي بحرق نفسه. هذا الفعل الغنيّ بالتعاليم والمشبع بالأنوار يكوّن بدء من الآن جزء لا يتجزّأ من هويّتي. هو فعل ينتسب إلى الثقافة اليابانيّة، فالرياح الإلهيّة المحرِّرة غريبة (بالمعنيين الممكنين للكلمة) عن مجال تعريف الهويّة العربيّة الإسلاميّة. فما قول مفتّشي الهويّة، فرسان الساعة الخامسة والعشرين؟
نعم، باعتناق القيم الّتي برهنت عليها فوكوشيما، ألمح الطريق نحو جوهري ونحو الأنموذج الإلهي، وأبدأ في الاقتناع أنّني سأعطي معنى لوجودي، بغضّ النظر عن حماقة ونفاق إخواني الّذين يؤنّبون ويكيدون ويشيّدون المشانق كي يجمّدوا هذه الهويّة العربيّة الإسلاميّة ويحوّلوا مشتقّاتها إلى عوائق تقف أمام مسيرة التقدّم.
حبيبتي فوكوشيما، سأحياك في كلّ لحظة وفي كلّ مكان وآمل أن يأتي اليوم الّذي أنادي فيه تونس بحبيبتي، لا لوطنيّة مرتجلة أو عمياء، ولكن كذلك لقناعة شعوريّة.
ترجمه عن الفرنسيّة: حمزة عمر