الفصل الأوّل و”يمين البكوش…”

بعد أسابيع من السجال حول قضيّة إدراج الشريعة كمصدر للتشريع (البعض يريدها “مصدرا أساسيّا ووحيدا”، ولا أدري كيف يجمعون بين نعتين لا يجتمعان منطقيّا)، وفي اليوم الّذي شهدت فيه العاصمة “غزوة المنقالة”، حزمت الهيئة التأسيسيّة لحركة النهضة أمرها وصوّتت على الحفاظ على صياغة الفصل الأوّل من دستور 1959 “تونس دولة، حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربيّة لغتها، والجمهوريّة نظامها” دون إضافة تنصيص على الشريعة. تنفّس الصعداء العديد ممّن تخوّفوا على مدنيّة الدولة وعلى الحريات الفرديّة. وبدا وكأنّ الأزمة قد حلّت. ولكنّ الأمر لا يعدو أن يكون هدنة قد يطول أمدها أو يقصر، و سيتكرّر الصدام لا محالة.

فعبارة “الإسلام دينها” الّتي يحتويها الفصل الأوّل من الدستور حمّالة أوجه. فقد يعتبرها البعض مجرّد وصف لحقيقة اجتماعية (تتمثّل في كون الإسلام دين الأغلبية الساحقة من التونسيين) دون أثر قانوني، وهو تأويل ذهب إليه بعض رجال القانون قبل 14 جانفي لكنّه يتنافى مع كون الدستور قاعدة قانونية واجبة التطبيق، وقد تعتبر شرطا من شروط ممارسة بعض الوظائف العليا، كما كان ينصّ على ذلك الفصل 38 من دستور 1959 في خصوص رئاسة الجمهوريّة، وقد تعتبر إلزاما للدولة بالإشراف على المساجد والعناية بها وتوفير كلّ الضمانات اللازمة لكي يمارس المسلمون شعائرهم في أحسن الظروف، وقد تعني كذلك أنّ الشريعة الإسلاميّة تعلو جميع القواعد القانونيّة الأخرى، وإن خالفتها قاعدة ما، فإنّها تعتبر لاغية. ويبدو أنّ هذا التأويل الأخير هو الّذي يراه قادة النهضة للفصل الأوّل، ففي كلمته أمام أنصار الحركة بالكبّارية يوم 23 مارس، أشار راشد الغنوشي أن لا اختلاف بين الإسلام والشريعة، وأنّ الحركة تختار الحفاظ على الحدّ الأدنى المتّفق عليه لأنّها الحصول على الأغلبية غير مضمون في حالة اللجوء إلى التصويت على إدراج الشريعة، وحتّى إن حصلت على الأغلبية، فلن تكون أغلبيّة يعتدّ بها،  وأكّد كذلك أنّ الوصول إلى تطبيق الشريعة سيحصل يتطوّر وعي الشعب الّذي يبدو أنّ أفرادا منه يخافون من الشريعة. “الانسحاب إلى حدود 1959″، إذا كان موقف رئيس الحركة يعبّر عن موقف الحركة، هو إذن خطوة تكتيكيّة لا تعني التراجع عن مبدأ تطبيق الشريعة، بل يبقى هذا المبدأ مُضمرا في عبارة “الإسلام دينها” في انتظار الحصول على أغلبيّة مريحة تخرجه من حيّز الإضمار إلى حيّز الإفصاح.

وليس هذا الإضمار بغائب عن أفراد المعارضة. فبعضهم صرّح في نقاشات تلفزيّة جمعتهم بقياديين من النهضة أنّ تونس لم تخالف قطّ الشريعة، بدليل التحفّظات الّتي أبدتها عند المصادقة على معاهدات المحتوية على بنود تخالف الشريعة كاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وأنّ العبارة الّتي تبنّاها الفصل الأوّل كافية لضمان احترام الشريعة. ولا شكّ أنّ الأحزاب، الّتي تعهّد بعضها بتحقيق المساواة التامة بين الرجل والمرأة في برامجه الانتخابية، لها فهم مغاير لعبارة “الإسلام دينها”، ولكنّها أمام ضعف حضورها في المجلس التأسيسي، وأمام تحرّكات من يطالبون بتطبيق الشريعة، تختار أن يبقى تفسيرها مُضمرا، كذلك، في هذه العبارة في انتظار أوقات أفضل تكون لها فيها الأغلبية في مجلس منتخب.

رضي الخصمان، ولكن إلى متى؟ فاختلاف التأويلات حول الفصل الأوّل لا يمكن أن يظلّ في حيّز الكتمان أمدا طويلا. يكفي أن نشير إلى أنّ المرسوم عدد 103 لسنة 2011 بتاريخ 24 أكتوبر 2011 (وقد لا يكون تاريخ إمضاء المرسوم بريئا !) رخّص في سحب بيان وتحفظات الحكومة التونسية على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لكي نعلم أنّ طرح المسألة وشيك. فيكفي أن يطلب طرف في قضيّة تتعلّق بالميراث تطبيق هذه الاتفاقية وإعطاء نفس النصيب للمرأة والرجل حتّى تثار المسألة من جديد. بل يكفي أن يصرّ نائب متحمّس على طرح هذه المسألة أمام الجلسة العامة للمجلس التأسيسي حتّى نتبيّن أنّه لم يقع حلّ المسألة بتاتا.

هي إذن هدنة إلى أجل غير مسمّى وليست البتّة إنهاء للنزاع…هدنة يختار فيها الطرفان ما يبدو حلا وفاقيّا يرضى به الجميع، لكنّ كلّ منهما يصرّ على موقفه من المسألة دون أن يفصح عنه، ولسان حاله يقول “يمين البكوش في صدرو”.

Please follow and like us:
2 Comments

اترك رد

Verified by MonsterInsights