العنف المسلّط على المرأة في ارتباطه بالحيض وانقطاعه
|بقلم: سوسن فري
أتيحت لي الفرصة مؤخّرا لأطّلع على دراسة بعنوان: “المرأة والعنف من البلوغ إلى انقطاع الحيض” صادرة عن مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث “كوثر” وهيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة سنة 2013. ولعلّها المرة الأولى التي أعثر فيها على أعمال تتناول بالبحث والتحليل تجربة البلوغ وانقطاع الحيض عن النساء في المنطقة العربية واستتباعاته الاجتماعية والثقافية على المرأة في مختلف مراحل دورتها الحياتية.
الكتاب بحث ميداني في ثلاث بلدان عربية هي البحرين ومصر واليمن، خرج في شكل دراسة تأليفية حول المرأة والعنف أثناء دورة الحياة. يتناول بالبحث أساسا تجربة انقطاع الحيض عند النساء في هذه الدول ويركز حول ما تعيشه هذه الشريحة من النساء من متغيرات نفسية واجتماعية في شتى المجالات ومدى تأثير الدور الإنجابي في تحديد هوية النساء وتحديد مسار حياتهن ومدى العلاقة بين بداية الحيض وانقطاعه وبين دخول المرأة وخروجها من دائرة العنف بأشكاله. فمعرفة هذه المرحلة الخاصة بحياة النساء مهم باعتبار أن أمل الحياة لديهن في تزايد مستمر والنساء العربيات اليوم يعشن حوالي ثلث أعمارهن بعد انقطاع الحيض.
تشير الدراسة إلى أنّ مكانة المرأة في المنطقة العربية قد شهدت تحسنا واضحا من خلال القدرة على التحكم في الانجاب والمشاركة في الحياة الاجتماعية والعامة وفي سوق الشغل. غير أن وصول المرأة إلى ما يعرف بسن اليأس أي انقطاع الحيض يجعلها تواجه التمييز وعدم المساواة وحتى التعرض إلى العنف المرتبط بالنوع الاجتماعي. فمازالت المرأة العربية تعرف أساسا من خلال قدرتها على الانجاب والإغراء، وبفقدان هذه القدرة يصبح التوقف عن الحيض بالنسبة لها “موتا اجتماعيا”.
و حسب نفس الدراسة، تعتبر تجربة البلوغ عند فئة المراهقات فترة صعبة حيث تتعرض فيها الفتيات لصعوبات كثيرة بسبب عدم تهيئتها وتزويدها بمعلومات كافية حول التغيرات التي يتعرض لها الجسد في مرحلة البلوغ وغياب تربية جنسية وإنجابية وعدم تطور الحقوق الاساسية الخاصة بالحياة الجنسية والانجابية في المجتمعات العربية.
تلعب الأم دورا محوريا في هذه المرحلة من حياة البنت، حيث تكون هي عادة أول من يتلقى خبر بلوغ الفتاة. وتتمحور التوجيهات خصوصا حول الجوانب المتصلة بطرق النظافة والتصرف سواء على مستوى الواجبات الدينية أو التعامل مع الفضاء الخارجي وخاصة مع الذكور. واتفقت معظم المراهقات على أنّ فترة الحيض تمثل مرحلة عدم استقرار نفسي، تتراوح المشاعر المصاحبة لها بين الانزعاج والخوف والفرح. غير أنها ارتبطت عندهن بالأساس بمشاعر الانزعاج بسبب الآلام الجسدية والتأزم والاضطراب في الحالة النفسية كالرغبة في العزلة والانطواء.
تقول الدراسة بأن سن البلوغ هو لحظة حاسمة في حياة المرأة حيث ان المجتمع يقف بين المرأة وجسدها، ويفرض عليها سلوكيات وأدوارا محددة. ولكن مقارنة مع أمهاتهن، تعيش المراهقات العربيات اليوم مرحلة البلوغ والحيض بشعور أقل بالقلق، لأنهن أكثر تعليما وأكثر معرفة بأجسادهن وتتوفر لديهن مصادر أكثر تنوعا للحصول على المعلومات وعلى تربية جنسية علمية. رغم ذلك، فإن تأثير النظرة السلبية السائدة نحو المرأة الحائض سواء في المحيطين بها أو المرأة ذاتها، جعل الفتاة تلجأ إلى اخفاء موضوع الحيض في بعض الاوساط حتى عن أمها. فأغلبية النساء بشكل عام سواء في الريف أو الحضر لم يلقين الدعم النفسي أو المادي المناسب في هذه المرحلة الخاصة جدا وخصوصا من قبل الأمهات.
يستنتج التقرير بأن هذه التنشئة الاجتماعية القائمة على بناء الفروقات بين ما هو ذكوري وما هو أنثوي تجبر المراهقة على التقيد بجملة من المحظورات والواجبات، تقابلها تطلعات إلى آفاق مستقبلية ومكافآت اجتماعية من قبل الكبار تدفعهن إلى نسيان حالة التفرقة والتمييز بينهن وبين الذكور. فتجربة البلوغ التي انطلقت كـ”ظاهرة” بيولوجية انتهت إلى اتخاذها شكل “ثقافة اجتماعية” ذات أبعاد رمزية، فتسن معها “ضوابط اجتماعية” تتعلق أساسا بالرقابة والمسؤولية، وتسجل بذلك التفاعل القائم بين ما هو بيولوجي وما هو اجتماعي ثقافي.
عادت بي الذكريات وأنا أطالع الدراسة إلى تجربتي الخاصة مع البلوغ، حيث كانت تجربة محددة في علاقتي بجسدي وبمحيطي الاجتماعي والثقافي. أذكر بأن البلوغ مثّل بالنسبة لي انتقالا حادا ومباغتا من مرحلة الطفولة، التي كانت تتميز بالتلقائية وانعدام القيود والقدرة على التعامل بحرية مع الفضاء الخارجي إلى مرحلة “عالم الكبار” وما يحيط بها من ضوابط اجتماعية.
فرغم أن أمي حدثتني مرارا عن الموضوع، ورغم أن الكثير من صديقاتي حدثنني عن تجاربهن، مما جعلني أتشوق لخوض التجربة التي ستسمح لي بدخول عالم النساء، الغامض والمثير، إلا أن الأمر لم يكن ممتعا بالمرة بالنسبة لي.
أذكر بأني كنت أركض كعادتي مع أبناء الحي في إحدى الليالي الصيفية، عندما نادتني أمي فجأة. خلتها ستطلب مني خدمة سريعة فطلبت من بقية الأطفال أن يتوقفوا عن اللعب حتى عودتي. غير أني لم أعد أبدا إلى اللعب معهم منذ ذلك الحين…
طلبت مني أمي أن أرافقها إلى داخل البيت وقالت لي بلهجة جمعت بين اللطف والهدوء والصرامة بأن عليّ التوقف عن اللعب مع الأطفال من هنا فصاعدا، فقد كبرت وأصبحت صبية عليها أن تلتزم بـ”الرزانة” (الهدوء والوقار) في سلوكها كأي فتاة محترمة.
كنت أبلغ من العمر 13 عاما حينها. أذكر بأني ثرت ورفعت صوتي محتجة على فرمان أمي، الذي كان سيحول بيني وبين عالم كامل من المتعة كنت لاأزال أرغب في الاستزادة منه.
صحيح أني كنت أحتج كثيرا وأعبّر عن أفكاري بصوت مرتفع، ولكني كنت أفتقد للجرأة التي تجعلني أتمرد حقا على هذه الضوابط الاجتماعية.
كرهت البلوغ ولم أتقبل الطبيعة البيولوجية لجسدي مما زاد في معاناتي مع الحيض كل شهر. فبعد أن خلته علامة على النضج ستسمح لي بولوج عالم الكبار مع المحافظة على مكاسب الطفولة، لم أجن منه سوى القيود الاجتماعية والمتاعب الجسدية بسبب الآلام والتقلصات المصاحبة لكل دورة، فضلا عن الاضطرابات الهرمونية والتقلبات المزاجية.
صحيح أني اصبحت اليوم أجيد التعامل بشكل أفضل مع هذه المرحلة من كل شهر، حيث أصبحت أحرص على تناول المكملات الغذائية التي تمنح جسدي بعض القوة التي تسمح له بمواجهة أفضل لمتاعب الدورة، كما اصبحت حريصة على ممارسة الرياضة واتباع بعض العادات الصحية، إلا أني لازلت أنزعج كلما علمت بقدومها، فقد ارتبطت في ذهني بالألم والانزعاج وتقييد الحرية.
أخذتني الدراسة كذلك إلى مرحلة أخرى من دورة حياة النساء لم أبلغها بعد، وهي فترة بعد انقطاع الحيض. تتميز هذه المرحلة ببعض القلق والتخوف من المستقبل مما يؤثر سلبا على حياتهن النفسية والصحية خلال هذه المرحلة. حيث تكرس القوالب الجاهزة حول مرحلة انقطاع الحيض فكرة أن هذه المرحلة تمثل فترة تفقد خلالها المرأة جزءا كبيرا من قيمتها الاجتماعية، لأنها تفقد القدرة على الإنجاب في مجتمعات تعتبر أن قيمة المرأة تكمن أساسا في خصوبتها. كما تتغير انتظارات المجتمع من المرأة بتغير مراحل دورة الحياة، فإن كان منتظرا منها خلال مرحلة البلوغ والمراهقة الانصياع والطاعة، ففي سن انقطاع الحيض، تصبح الانتظارات منحصرة في إنكار انوثتها وحياتها الجنسية، وفرض أنماط من العبادات ودفعها نحو تقديم خدمات للآخرين ورعاية الابناء والاحفاد.
يقول التقرير بأن الوظيفة الانجابية لاتزال تحتل مكانة هامة في حياة النساء، حيث يبقى دائما مطلوبا من المرأة أن تتماشى مع الصورة النموذجية للأنوثة الخصبة. كما يبيّن أن التحولات الفيزيولوجية التي يعرفها جسد المرأة تترجم إلى اختلافات اجتماعية، وذلك عبر تدخل نظام اجتماعي يمنح جسد المرأة ثلاثة ادوار، دورا إنجابيا (الولادة، التربية، العناية) ودورا انتاجيا (العمل والمساهمة في الدورة الاقتصادية) ودورا جنسيا يمكّن الرجل من تملك جسد المرأة والتحكم فيه على فترات قد تمتد طيلة دورة الحياة. كما أن مكانة وهوية المرأة تبنى في الدول الثلاث موضوع الدراسة على امتداد دورة الحياة، حيث تبرز مرحلة البلوغ ومرحلة انقطاع الحيض كمؤشرات بيولوجية للزمن ومحطات عبور هامة للتنقل من مكانة اجتماعية إلى أخرى. حيث تبرز ممارسة العنف الرمزي خلال فترة انقطاع الحيض كأبرز أشكال العنف الممارس ضد النساء والمتمثل خاصة في عدم تقدير المرأة والحط من مكانتها وإجبارها في العديد من الأوساط على إلغاء أنوثتها.
ورغم ما تعيشه بعض النساء خلال هذه الفترة من صعوبات، إلا أننا وجدنا فئات أخرى تعيش هذه المرحلة بأكثر ايجابية، حيث ساهم التقدم في مجال التعليم والصحة في رفع وعيهنّ من ناحية وفي إطالة معدل أمل الحياة لديهن من ناحية أخرى. كما ساهم استخدام وسائل التنظيم الأسري في تقليص عدد الولادات والتباعد بينها مما منح المرأة إمكانية مواصلة نشاطها الاجتماعي والاقتصادي والعيش لذاتها لفترة أطول.
إن الجهل بخصائص الجسد الانثوي وغياب الثقافة الجنسية العلمية، يفسر عدم استعداد أو قدرة الفتيات على مواجهة مختلف مراحل حياتهن كنساء سواء عند البلوغ او انقطاع الحيض، إذ تستبطن النساء منذ مراحل الطفولة المبكرة صورة عن الذكورة والأنوثة، حيث يتم الربط بين الأنوثة وبين الضعف والهشاشة التّي تتركّز أساسا في جسدها، وهو ما يتطلب عملا خصوصيا لحماية المرأة من هذا الجانب.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 18، أوت 2022، ص. ص. 10-11.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf18.tounesaf.org