مسلسل “الحسن والحسين”: الجرأة في التصوير والقصور في التصوّر
| صاحبت مسلسل “الحسن والحسين” الّذي قام بإخراجه عبد الباري أبو الخير ضجّة كبيرة سبقت عرضه، وذلك بسبب تصويره لعدد من الصحابة الأجلاء وعلى رأسهم طبعا الحسن والحسين إضافة إلى بعض الصحابة المبشّرين بالجنّة، وهو ما دفع الأزهر إلى الاحتجاج عليه وكذلك بعض الهيئات الشيعيّة. ورغم ذلك، تمّ إتمام تصوير المسلسل بعد الحصول على ثلاثين فتوى (فيما قيل) تجيز ذلك.
هذه الجرأة غير المسبوقة في تجسيد الصحابة دغدغت فضولي لمشاهدة هذا العمل. ولكنّ ظنّي خاب منذ الحلقة الأولى، الّتي كشفت عن “الاتجاه العام” الدرامي للمسلسل. والحقيقة أنّني لم أعد إلى مشاهدته إلا لماما بعد ذلك ونتفا من حلقات متفرّقة، وبالتالي لا يمكنني تقديم رؤية شاملة عن كلّ تفاصيل العمل، ولكن من الممكن التعرّض إلى الانطباع الحاصل بعد “تذوّق” عدّة مشاهد منه.
لئن كسب المسلسل شهرته من جرأته في تجسيد الصحابة، فإنّ هذه الجرأة كانت منقوصة. فالخلفاء الراشدون كانوا خارج دائرة التصوير، عكس بقيّة العشرة المبشّرين بالجنّة كالزبير بن العوّام وطلحة بن عبيد الله. وتمّ الاكتفاء في المشاهد الّتي تضمّ الخليفة عثمان بن عفّان مثلا بتصويره من الخلف وهو يلقي كلماته. فإذا كان عدم تصوير بعض الصحابة راجعا إلى علوّ منزلتهم في الإسلام، فكان من المفترض أن يسري ذلك على كلّ العشرة المبشّرين بالجنّة دون استثناء. و إذا تمّ تجاوز الرؤية الانتقائيّة في اختيار من سيقع تصويرهم، فلا معنى لاستثناء الخلفاء الراشدين من ذلك، اللهمّ إن كان منصب الخلافة يمنح أصحابه قداسة خاصة.
وفي الواقع، فإنّ الرؤية التقديسيّة طغت على العمل رغم التجاوز الجزئي لقضيّة التجسيد. فكأنّ جميع الصحابة كانوا منزّهين عن جميع أغراض النفوس. فعلى سبيل المثال، تمّ إهمال النوازع الشخصيّة والقبليّة الكامنة وراء تطلّع بعض الصحابة إلى منصب الخلافة، وتمّ تقديم الفتنة الكبرى على أنّها مؤامرة من شخصيّة ذات أصل يهوديّ يدعى عبد الله بن سبأ ومن تبعه، وهذه الشخصيّة متنازع بشدّة في وجودها التاريخي. وبرّر عدم الدفاع عن عثمان (الّذي نزّه تقريبا عن الأخطاء الّتي أدّت إلى مقتله)، بأنّه هو من طلب عدم قتال معارضيه، وهو أمر وإن كان واردا في بعض المصادر التاريخيّة، فإنّه لا يمكن أن يكون الحجّة الوحيدة الّتي أدّت إلى التقاعس عن نصرته. أمّا خروج طلحة والزبير إلى البصرة ناكثين ببيعة أمير المؤمنين عليّ، فإنّ ذلك كان بغية الإصلاح بين المؤمنين !!!
وربّما كان من الممكن إيجاد عذر في تنزيه من بشّرهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنّة، ولكنّ هذه النظرة التقديسيّة امتدّت لتشمل كذلك معاوية بن أبي سفيان. هذا “الطليق إبن الطليق” أصبح في المسلسل من كبار الصحابة، وبرّر من زيّن للحسن التنازل عن الخلافة موقفه بأنّ معاوية “هو من هو” بين الصحابة وأنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام ائتمنه على الوحي، في حين أنّه أنّه لم تثبت يقينا كتابته للوحي بل المعروف أنّه كتب للرسول إلى الملوك. وصار من كان يقول “إنّ لله جنودا من عسل” (لأنّه كان يضع لخصومه السياسيين السمّ في العسل) حاكما “ديمقراطيّا”، لا يبرم أمرا دون شورى، بل وصار استخلافه لإبنه يزيد من بعده، وهي الحادثة الّتي قلبت إلى الأبد الخلافة إلى ملك عضوض، إلى اختيار حكيم لم يراع فيه صاحبه إلا مصلحة المسلمين ولم يره إلا درء للفتنة من بعده !!!! وتمّ إغفال مكره لإيهام أهل المدينة بأنّ الحسين وإبن الزبير وإبن عمر وعبد الرحمان بن أبي بكر قد بايعوا ليزيد. بل وبلغ الأمر في تنزيه معاوية حدّ تحريف المشهور من الوقائع التاريخيّة، فعندما قام يزيد بن المقنّع وقال:” هذا أمير المؤمنين ، وأشار إلى معاوية ، فإن هلك فهذا ، وأشار إلى يزيد ، ومن أبى فهذا ، وأشار إلى سيفه” لم يقل له معاوية المسلسل كما قال معاوية التاريخ “اجلس فأنت سيّد الخطباء” كما هو معروف (وأكثر من معروف) بل وبّخه وأنّبه وصرّح بأنّه لا يكره أحد على شيء وأنّ كل إمرئ حرّ فيما يراه لنفسه !!!
وإذا كان هذا التحريف مقصودا، فإنّه كانت هناك مجانبة للوقائع التاريخيّة في مواضع أخرى لا عن قصد، بل عن إهمال حسب ما يبدو، وهو ما كان يمكن اجتنابه بسهولة لو وقعت العودة إلى أيّ من المراجع. وعلى سبيل المثال، صوّر الأحنف بن قيس على أنّه سليم العينين في حين أنّه كان أعور.
لقد اختار منجزو هذا العمل، على جرأتهم (النسبيّة) في تصوير الصحابة، تبنيّ تصوّر “وفاقي” للتاريخ يغيب عنه الطرح النقدي ويغرق في تقديس الصحابة، كبارهم وصغارهم. وغاب المنظور الإبداعيّ وغلّب السرد التمجيدي الّذي لا يتّخذ موقفا من التاريخ، بل يكتفي بتناول وقائعه في أقلّ رواياته إثارة للجدل. وهذا القصور عن اتخاذ موقف لا يقتصر على هذا المسلسل، بل هو سمة مشتركة بين أغلب أعمال السير والتاريخ، حيث يغيب تناول الأحداث والأشخاص من زاوية مخالفة للمألوف ممّا يجعل هذه الأعمال لا تصوّرا إبداعيّا، بل تاريخا ممسوخا.