في المسرح الرحباني: “المحطة”…تخوم الحلم والواقع
|بقلم: حمزة عمر
لعلّ أكثر ما تحفظه الذاكرة عن مسرحيّة “المحطّة” للأخوين رحباني، التي أخرجها برج فازليان وعرضت لأوّل مرّة بمسرح البيكاديلي ببيروت سنة 1973، أغانيها التي ذاعت وانتشرت بشكل واسع: ليالي الشمال الحزينة، كان الزمان وكان، يا رئيس البلدية، رجعت الشتوية، إيماني ساطع، وخاصة “سألوني الناس”، التي كانت أوّل أغنية يلحّنها زياد رحباني، وهو في سنّ السابعة عشرة، لفيروز، وهو ما كان بداية تعامل سيتّسع وتتغيّر وجهته الفنيّة مع مرور الزمن.
أرّخت هذه الأغنية لحدث كان له بالغ الأثر على المسيرة الفنيّة للرحابنة، فهي تحيّة إلى عاصي رحباني الذي تعرّض في سبتمبر من تلك السنة إلى نزيف داخلي بالدماغ، واعتقد أغلب أطبّائه أنّ لا أمل له في الشفاء، غير أنّه وبعد أن خضع إلى عملية جراحية بإشراف الطبيب الفرنسي كلود غورو، تعافى بل وقاد أركسترا المسرحية أشهرا قليلة بعد الحادثة. على أنّ ما مرّ به أثّر على قدراته الفنيّة، من ذلك أنّه أصبح فيما بعد غير قادر على كتابة النوتة الموسيقية، معتمدا في ذلك اعتمادا كاملا على أخيه منصور.
ولئن كان الأخوان رحباني حالمين على الدوام، متعاليين على الواقع، فإنّهما في مسرحيّة المحطّة، توصّلا إلى مزيج فريد بين الواقع والحلم ممّا يجدر معه تصنيف المسرحية ضمن “الواقعية الساحرة”. فرغم أنّ العناصر المكوّنة لإطار المسرحيّة واقعية، فإنّ جميع الأحداث تتمحور حول فكرة غير معقولة بالمرّة، وإن كان البعد العجائبي لا يتّضح بالفعل إلّا قرب النهاية.
تبدأ المسرحيّة بمشهد فلّاح وزوجته يزرعان حقلهما بالبطاطا، لمّا تأتي فتاة مجهولة تدعى وردة لتخبرهما أنّ هناك محطة مطمورة تحت حقلهما وأنّ قطار الشمال يوشك على الوصول إليها. يقابلانها بدهشة وريبة، وتنشر الزوجة، الخائفة من تأثير سحر هذه الغريبة على زوجها، الخبر في المدينة، فيهرع رئيس البلدية والشرطي وأستاذ المدرسة إلى هناك للاستفسار. ترفع الإشاعة سعر الأراضي، فيتبنّاها المستفيدون من ذلك، بل ويدشّن رئيس البلدية المحطة رسميا. تمرّ الأيّام والشهور، وتبدأ الشكوك في التسرّب إلى النفوس، وتصل ذروتها قرب النهاية، لمّا يقع اتّخاذ قرار إلقاء القبض على وردة. وفجأة، وأمام دهشة الجميع، يصل القطار، ويسافر جميع المنتظرين ما خلا وردة، التي لم تعثر على تذكرة.
تبدو الملامح العامة للمسرحية واضحة، عن الحلم والإيمان به إلى النهاية رغم جميع العوائق. لكن قوّة المسرحيّة هي في التفاصيل التي يغزلها الرحابنة حول هذه القصّة، ولعلّنا لا نبالغ إذ قلنا أنّ المحطّة تمثّل ذروة البناء الدرامي في مسرح الرحابنة. عندما تعلن وردة عن حكاية المحطّة، لا تجد تصديقا من أحد. لكن بعد فترة فصيرة، يبدأ الجميع في الحسابات: كيف يمكن الاستفادة من هذه القصّة؟ ملّاك الأراضي يساندون الحكاية بقوّة…سعدو المزارع يقتطع تذكرة ويقول: أنا من يجب أن أصدّق، فأراضيّ ارتفعت أسعارها…رئيس البلدية يقول بصراحة: إذا كانت القضية تخدمني سياسيّا، يجب أن أصدّق…وأظرف الراكبين على الحلم كان “الحرامي”…كان ينوي سرقة حقيبة وردة، لكن وجد لديها أكثر من الحقيبة…وجد لديها حلما بمحطّة…فعاد وهو يلبس بدلة وأخذ يبيع للمسافرين تذاكر مزوّرة. كاد يكشفه الشرطيّ منذ البداية، لولا أنّ وردة أيّدت قصّته. اندهش من ذلك، وقال لها فيما بعد: لكنّك تعرفين أنّ القطار لن يأتي. فأجابته في بساطة: “جايي، جايي…الانتظار خلق المحطة، وشوق السفر جاب الترين”.
غير أنّ هذا الإيمان الظاهر الذي تبديه وردة لايترجم كلّ ما يعتمل في أعماقها. في موقف غير مألوف بالمرّة في مسرح الرحابنة، تدخل وردة في حوار مع نفسها يكشف عن تمزّقها بين الحلم والواقع. وردة الواقع، بصوتها المرتفع الغاضب، ووردة الحلم بصوتها الهادئ الواثق…لا يقنع أحدهما الآخر في نهاية الحوار، لكن سير المسرحية يدلّنا على انتصار الحلم. إنّ محاولات وردة الواقع إثناء وردة الحلم على المضيّ قدما، بما تعكسه من تردّد واهتزاز للثقة، فريدة في بناء شخصيّة البطلة في المسرح الرحباني، لا نكاد نعثر على مثيل لها في بقيّة المسرحيات. تتخلّص شخصيّة البطلة في المحطّة، بفضل هذا الحوار، من بساطتها ويمازجها شيء من التركيب، وهو ما سيستمرّ لاحقا مع مسرحيّة “لولو” (1974) و”ميس الريم” (1975)، قبل أن يتمّ الرجوع إلى البساطة في مسرحية “بترا” (1977)، أين لا تتردّد الملكة، رغم شدّة أساها، في اتّخاذ قرار التضحية بابنتها.
هذا التعقيد لا يقتصر فقط على وردة، بل يشمل كذلك بالخصوص شخصيتي الحرامي وزوجة سعدو. يبتهج الحرامي في البداية بما حقّقه من مكاسب بفضل إشاعة المحطّة، غير أنّه يضيق ذرعا فيما بعد بـ”سجنه”، مثل الموظفين، في غرفة التذاكر ويحنّ، ويبلغ حنينه درجة الشعر، إلى الأيّام التي كان فيها فارد الجناحين، يحيا على حافة الخطر، بل وتجول بخاطره فكرة قتل وردة التي كانت السبب في “سجنه رغم أنّه لا ينكر محبّته إيّاها. أمّا زوجة سعدو، فما يحرّكها هو رغبتها في تملّك زوجها. هي تتوق إلى السفر وتغيير الأجواء، لكنّها في نفس الوقت تنقم على وردة “سرقة” زوجها منها، وتتآمر ضدّها.
وما خلا هذه الشخصيات المتمزّقة بين الحلم والواقع، ينقسم البقيّة إلى مؤمنين بالحلم، وراكبين عليه، ومتشكّكين فيه. يعبّر مقطع “قالوا في محطّة” عن فرحة الحالمين بالسفر إلى الشمال الرغيد، بمختلف أصنافهم (العربجي، المغترب…)، بهذه الفرصة التي أتيحت لهم. رئيس البلدية تأرجح بين المتشكّك في البداية، إلى الراكب على الحلم فيما بعد لمّا أراد استثمار الحلم سياسيا، ثمّ عاد إلى التشكّك بعد أن أثقلت المحطّة ميزانية البلدية. أمّا أستاذ المدرسة، فكان من المتشكّكين الخلص، بل أنّ وردة نفسها لم تحاول إقناعه بالمرّة، وقالت له في سخريّة ” ظليتك تدرس حساب، وتدرّس حساب، حتى صرت معركج متل جدول الضرب”…لعلّ الغرق في الدقائق النظرية يمنع من الاستسلام للحلم !
وفي رسم ملامح هذه الشخصيات، لا يكون النقد الموجّه إلى الظواهر الاجتماعية والسياسية مبطّنا إلّا قليلا، بل هو في أغلبه أقرب إلى التصريح الساذج، كما عندما يوازي “الحرامي” بين اللصوص والسياسيين، أو عندما يتحدّث الشحّاذ عن تفشّي ظاهرة الخيانة الزوجيّة. وتبلغ السخريّة مستوى عاليا لمّا يعقد مجلس البلدية جلسة في غاية الرسميّة لاستحضار الجان، أو بالأحرى مجلس بلديّة الجان، قصد استفتائهم في شأن المحطّة! والحقيقة أنّ الطابع الساخر هو أحد السمات البارزة للمسرحية منذ بدايتها، تتجّلى خاصة من خلال تعدّد الشخصيات الفكاهيّة: الحرامي، الشحّاذ، وخاصة شخصية “سبع” تاجر الغنم في بعدها الأقرب للتهريج والتي قام بأدائها فيلمون وهبي في آخر ظهور له في مسرحيات الرحابنة.
ولم تكتفي المحطّة بكونها ذروة البناء الدرامي في مسرح الرحابنة، بل لعلّها كذلك ذروة البناء اللحني. ويتجلّى ذلك خاصة من خلال تتالي الحوارات المغنّاة التي تبلغ في تناغمها وسلاسة المرور من سياق إلى آخر أوجها مع سلسة الحوارات التي تتلو المقدّمة الثانية ثمّ تستمرّ لمدّة ثماني دقائق تقريبا يكون النفس فيها أقرب إلى الأوبرالي، وهو ما قلّ نظيره في مسرحيات الرحابنة، إلّا إذا استثنينا ربّما مقطع “ع بكرا بكّير” في مسرحية ميس الريم. ورغم هذا التطوّر، واصل الرحابنة اعتماد المسرحيّة كذريعة لفيروز لتغنّي فيما ليست له أيّ علاقة بالأحداث، وإن كانا تخفّفا من ذلك إلى حدّ كبير، إذ اقتصر الأمر على مقطع تدشين المحطّة وما تلاه، ولعلّ في نوعيّة الأغاني المقدّمة هناك ما يغفر للعملاقين هذا التجاوز.
تترك النهاية مجالا للتساؤل، عن الجانبين الفني والرمزي. أمّا عن الجانب الفنّي، فقد كان من المفروض أن تختتم المسرحية بأغنية “مرق السفر”، غير أنّه وقع التخلّي عنها وأعيد أداء أغنية “إيماني ساطع”. قد يكون ذلك لما تتميّز به الأولى من أسى على ضياع السفر على من حلمت به، في مقابل ارتقاء الثانية إلى مرتبة الترتيلة الإيمانية الحقيقية. أمّا عن الجانب الرمزي، فإنّا لا نستطيع منع أنفسنا من إسقاط المسرحيّة على الواقع: أيّ حلم بنى عليه الرحابنة قصّة المسرحية؟ في تلك الفترة، لم يزل هناك للأحلام سوق رائج. أ هو حلم القوميّة العربية التي رحل زعيمها منذ سنوات قليلة بعد أن بذره ولم يحصده؟ أ هو حلم العودة الذي كان قد بلغ منعرج النكسة؟ أ هو حلم بلبنان “أخضر حلو” وهو الذي كان يعيش وقتها بوادر الحرب الأهلية؟ أم هو حلم غير ذلك؟ أم تُراه كلّ ذلك…