لأنّي امرأة
|[et_pb_section admin_label=”section” fullwidth=”off” specialty=”on”][et_pb_column type=”3_4″ specialty_columns=”3″][et_pb_row_inner admin_label=”row_inner”][et_pb_column_inner type=”4_4″ saved_specialty_column_type=”3_4″][et_pb_text admin_label=”النص”]
بقلم: ريم العيفة
كلما إرتديت كل خلاخيلي ولبست أجمل ما في خزانتي وتزينت بعطر خفيف وكحل طفيف، متهيئةً لإستقبال يوم جديد من الحياة، سعيدة بوجودي، متعايشة مع أنوثتي، راضية بصدري المكتنز وأردافي الممتلئة شحما ولحما.. سألوني ماذا هناك ولمن أتجمل ولماذا وكأن وجودي على قيد الحياة يوما آخر لا يستحق إستقبالي له بفرح ورضا..
كلما فردت أكتافي ومشيت مرفوعة الرأس متثببت من كل الوجوه الجديدة التي تعترضني، مليئة بشهوة الإطلاع وحب كل مجهول، إتهموني بكل نوايا الفجور والمتاجرة بكل تفصيل جميل من أنوثتي..
تتجول عيونهم بين خصري وأردافي وتتجول عيوني بين تقاسيم وجوههم.. ينظرون إلي بشهوة جنسية وأنظر إليهم بشهوة معرفية لكنهم يصرون على شتمي لجرأتي، يصرون على نعتي بأبشع النعوت…
لأني إمرأة…
كان لقائي به في أحد اللقاءات الإجتماعية، التي أحضرها كالعادة غصبا عني لرغبة أهلي بذلك، لعرضي كسلعة لكل راغب مشتر، وترن جملة أمي في عقلي عن الزواج التقليدي “إلي يخطبك عزك” جملة مليئة بموروث كامل من تقاليدنا الغبية.. لم أقدر يوما على مناقشتها فيها رغم إمتعاضي منها ووقعها السيء على عقلي.. كيف يعزني وهو لا يعرفني، كيف يكون قد أعزني بطلب يدي للزواج لحساباته الإجتماعية والمادية الخاصة.. كيف يكون قد أعزني وقد إختارني فقط لأني أناسب متطلبات ظروفه الحياتية..
كان لقائنا الأول غريبا كغربة إعجابه بي.. تبادلنا النظرات وحين أحسست أنه يتفحصني واصلت النظر إليه محاولة فهم تفاصيله وطبع نسخة عنها كما أفعل دائما مع كل الوجوه الجديدة ولم أفعل كما تفعل جميعهن، تدعي الحشمة والحياء وتنزل عينها وتشيح بيهما نحو الأرض.. كيف يمكنني أن أتعرف على الأشخاص هكذا وكيف يمكنني أن أعشق وأحب بدون أن أنظر للرجل في عينيه ومن ثمة في عقله وقلبه… لم أكن من الفتيات الجميلات أو المتجملات ولم أقل كلمة تبرر إعجابه بي وطلبه للقاء آخر وهذا هو سبب قبولي لطلبه بلقاء خاص يجمعنا نتمكن فيه من الحديث دون أن نفكر في كل تلك العيون التي تراقبنا.. كنت تريد أن تعرف سر نظراتي الجريئة وأنوثتي المختلفة وأردت أن أعرف سر اهتمامك بي.. هكذا كان لقاءنا الثاني..
كانوا كثر من طلبوا موعدا لقهوة معي لمعرفة ما وراء كلماتي، ليستطيعوا أن يقرأوا ما بين سطوري وربما ليصبحوا هم السطور لكني كنت أفضل معهم أن أبقى في عالم الكلمات والقيم اللامحدودة وأن لا أسجن في صورة يكونونها من رشفاتي السريعة المتلهفة للقهوة أو من جلستي الغريبة التي لا أفكر فيها باللائق بقدر ما أفكر بالمريح… لكن هو، لم يقرأ لي كلمة ولم يسمع مني فكرة تثير فيه شوقا لمعرفتي. طلب أن نتقابل في مقهى منزو قليل الزوار وطلبتُ أن نتقابل في مقهى بمدينة الألعاب حيث تعج بالعائلات والأطفال. كان ذلك إعلان مني لحبي للعلنية وتقديس مني للصدق هكذا كانت رسائلي المشفرة لك، لعلك تفهم بعض من جنوني.
و كان اللقاء كما أردت…
تعمدت أن لا أتزين وأن لا أكون في أبهى حللي. إرتديت فستانًا بنفسجيا مخلوطا بلون رمادي بارد يوحي بأني لا أهتم أبدا بمظهري ولبسي وارتدى هو أفضل ما لديه، كان من الواضح أنه يريد أن يترك صورة جميلة عندي، لكنه فعل العكس… كم أغاظني ذلك القميص المكوي وحذائه من الجلد الغالي ورائحة عطره الواضحة.. كنت من عشاق روائح الناس الطبيعية حتى حين تصبح قوية ويسمونها بالعرق وبعضهم يشمئز منها… تلك الرائحة التي تذكرني بعرق جدي الفلاح في أيام الحصاد وشمسها الحارقة وتذكّرني برائحة أبي قبل الحمام بعد يوم عمل مجهد ليوفر لنا لقمة مشبعة وعيش كريم..
هكذا كنت واضحة صادقة خالية من كل زيف، واثقة وقوية وكان متأنقا متألقا مخادعا مرائيا… هكذا أحبّني وهكذا بدأ يخرج من عقلي وبالتالي من قلبي ودائرة إعجابي.
إتخذنا مكانا هادئا في المقهى لكنه مرئي كان لا ينفك ينظر حوله خائفا من الناس التي تراه ولا يراهم. كان يريد أن يكشف كل الوجوه التي تحاول أن تراقبنا. وكنت أستثمر وقتي في جمع الملاحظات عنه من خلال تصرفاته وردود فعله. لم أكن مرتاحةً كثيرا لكن شيء ما جعلني أرغب في لقاءه مرات ومرات، لغز ما جعلني أرغب في رؤيته مرات أخرى، ربّما ما يحضرني لقدري وينصب لي فخاخ الوقوع في أكبر مآسي حياتي.
كان يوما ربيعيا مشمسا تلقيت فيها دعوة منه لاحتساء فنجان قهوة مع عائلته المتمثلة في أبيه الذي إعتكف لتربيته بعد وفاة والدته ورفض الزواج رغم كل الضغوطات التي سلطت عليه لكي لا يعيش وحيدا ويفني شبابه لأجل فتاه الذي سيأتي يوما ويتركه بالضرورة لأجل إحداهن (إحداهن التي من المتوقع جدا أن أكون أنا، أنا التي كان دائما يحدثني بأهمية أبيه في حياته محاولا تحضيري لذلك القدر الذي سنكون فيه أنا وهو وأبيه أسرة صغيرة ودافئة كما كانت)
جلسنا نحتسي القهوة في فناء المنزل تحت شجرة التوت الكبيرة بعد أن رحب بي أبوه العم صالح ترحيبا لا يمكن أن أقول عنه سوى أنه فوق المتوقع.. أخذت أترشف القهوة بهدوء مستمعة لحديثه الممتع مطرقة مستمتعة بثقافته العالية وثورية أفكاره التي يبدو أنها لا تنقل بالوراثة لذلك لم أجد منها في إبنه شيئا، وكعادتي كنت أكره القهوة المنسكبة على جانب الفنجان الذي أشرب منه فأعمد أحيانا لمسحه بعفوية. لاحظ العم صالح ذلك واستغربه جدا لذلك وجّه إهتمامه وتركيزه من سرد الحكايات التارخية المهمة وإسقاطها على واقعنا السياسي وتفسيره إليّ فسألني عن سبب ما أفعله معتقدا أني لا أستحسن القهوة أو شيئا كذلك:
– ألم ترقكِ القهوة يا إبنتي؟؟
– آه، لا لا.. لقد أعجبتني وهي كما أحبها مرة وثقيلة..
حينها تدخل إبنه قائلا مع إبتسامة عريضة أمسك بيها ضحكة طويلة:
– أكيد أنك تستغرب لماذا تمسح جانب الفنجان، إنها فقط معتادة على ذلك
قال العم صالح مستغربا:
– لكن لماذا؟؟
فسكت إبنه لأنه لا يعرف لماذا ولم يهتم أبدا لذلك كما أنه لم يهتم أبدا لتفاصيلي الصغيرة وحتى الغريبة منها لأنه كما أرى لديه أب غريب أيضا يجعله لا يستغرب شيئا وبتالي لا يتساءل عن شيء من غرابتي، غير عابئ لفهمي، فرددت أنا عن نفسي بسرعة لأبدد إستغراب هذا الرجل الغريب الذي ربما سيزدري فعلتي ويحكم عليّ حكما خاطئا..
– لقد تعودت على فعل ذلك، لدي نوع من الهوس بالترتيب وقطرات القهوة السائلة على جانب الفنجان تثير جنوني، آسفة إن كان تصرفي أثار اشمئزازك..
لكن العم صالح ابتسم ابتسامة دافئة تنم عن الرضاء على إجابتي واستحسانه لما قلته..
العم صالح هو مربّ تقاعد منذ سنة، تفرغ خلالها للكتب والكتابة وهو على درجة عالية من الثقافة، نظرته ثاقبة أحس من خلالها أنه يتجول في ثنايا عقلي بسهولة ولم تترك السنين أثرا كبيرا عليه فيمكن أن تتكهن من خلال مظهره أنه في الأربعين من عمره في حين أنه تجاوز الخمسين بسبعة ربما لأنه دفن زوجته مبكرا وإرتاح من نكد النساء الناتج عن قهر المجتمع لهن، كبنات جيلها جميعا.. لم أشهد أبدا في حياتي رجلا في سنه لديه نفس الأفكار المتقدمة المعاصرة، لم أشهد يوما في مثل ثقافته ومعرفته الواسعة، بالإضافة إلى أنه قام طوال حياته بجمع مكتبة ثرية وواسعة متضمنة كثيرا من الكتب النادرة وهذا ما جعل منزله ملاذا لي بحضور ابنه وغيابه حتى أن علاقتي تحولت من إرتباط بابنه كصديقة مقربة إلى إرتباطي بالمنزل عامة ومكتبة العم صالح خاصة. حتى العم صالح كان في حد ذاته معرفة يمكنني أن أنهل منها…
العم صالح الذي ما كان ينفك ينادي ببنيتي ويداعبني دائما، فكان يسقيني من حنانه كأني الإبنة التي لم يحصل عليها. وهكذا تطورت علاقتي بالمنزل إلى علاقتي بصاحب المنزل الذي كان أنيسي في غربتي الفكرية بحكم أننا نتشارك الكثير من الأفكار رغم أن معرفتي لا تقارن أصلا بمعرفته…
العم صالح،
أصبح الحضن الذي أركض إليه في لحظات ضعفي والعقل الذي أركن إليه في لحظات ضياعي والقلب الذي أسكن إليه لحظات ألمي…
قوة ما تجمع روحينا أمام عظمة الوجود، قوة نسميها أبوة ولم نشكّ يوما في هذه التسمية، فلم يهمني ويهمه سوى أننا نرتاح في السكون إلى رفقة بعضنا البعض والهرب من ضوضاء المدينة إلى سكون الكتب والمعرفة. لكن هذا لم يدم طويلا حتى حدث ما حدث… في أحد أمسياتنا الجميلة التي نهرب فيها أنا والعم صالح من بؤس العالم الذي يحاصرنا، ثار خلالها إبنه علينا متهما إيانا بعلاقة أخرى غير الأبوة وقوده الغيرة، إتهمنا بأننا على علاقة حب وتحجج بأن هذا باد على محيينا وكثرة لقاءاتنا وخاصة أباه الذي تغير في الفترة الأخيرة فأصبح كثير الشرود والتفكير ويتهمه بإبتسامات بلهاء لا تفارقه في شروده، كان ذلك الموقف من أكثر المواقف مذلة ومهانة مررت بها في حياتي فتركت منزلهم يومها مغتاظةً، مهانة ودون أن أنبس ببنة شفة… رحلت عاقدة العزم على هجر ذلك المنزل إلى الأبد.. فالعودة كانت من المستحيلات التي تأباها عليّ كرامتي ويحرّمها عليّ كبريائي…
يا لفظاعة ما حصل… لقد اتهمني بأني على علاقة حب بسي صالح الذي أدعوه أبي الروحي، الرجل الذي رأيت فيه الروح الوحيدة التي قدرت على احتوائي واحتضاني.. العم صالح هي الروح التي سكنتها وسكنتني.. إنه الأب الحقيقي بمفهوم الاحتواء الذي لم أعرفه أبدا، إنني اليوم أحرم منه بسبب غيرة غبية…
مكثت أيامًا في منزلي متأثرة بهول المذلة التي تعرضت إليها يحبطني الشوق عن أي عمل وحتى عن مفارقة الفراش.. ألزمتني كلمات ابن العم صالح الفراش وأمرضتني واجهة خلال هذه الأيام نفسي وعمدت لترتيب الأشياء في ذهني وتحليل وفهم ما حصل وسبب هوجة الإبن علينا، واجهت فيها مشاعري محاولة تسمية الأشياء بمسمياتها وكلما بدأت تتضح أمامي كلما زاد فهمي لما حصل وزاد مرضي هل يعقل أن يكون ما بيني وبين العم صالح حبا، أه مازلت أقول العم صالح..
أنا أشتاقه وبشدة..
يؤلمني فراقه وكأني تركت بعضي لديه..
أحدهم يدق باب الغرفة..
– من؟؟
يأتيني صوت أمي مهمها فأردف بسرعة..
– أمي لا أريد أن آكل ولا أن أشرب ولا أن أقابل أحد.. أتركني لأرتاح..
– لكن يا بنيتي أتى ضيف مهم لزيارتك ويصر على ذلك..
– من؟؟
– إنه السيد صالح يا حبيبتي وهو برفقتي الآن ويستأذنك للدخول..
إرتبكت كثيرا كان برفقتها وسمع رغبتي في الإنزواء لكنه مصر على مقابلتي.. أسرعت نحو المرآة لترتيب مظهري قليلا.. وفتحت الباب بسرعة مستقبلة إياه مشفقة على نفسي من ثقل حجم الإشتياق الذي تعاظم داخلي مانعا عني الراحة ومن فرط إحترامي للسيد صالح الذي لا يصح أن أتركه منتظرا كل هذا الوقت.. أردت أن اعتذر له:
– آسفة لأني تركتك تنتظر لم أكن أتوقع زيارتك أبدا.
يرد صالح مع إبتسامة رضا ونظرات شفقة فيها الكثير من التأسف:
– أنا أعذرك وأفهمك
– حسنا يا أمي هلا أحضرت للعم صالح قهوته ؟
ردت أمي بالإيجاب وذهبت مسرعة لتحضير ضيافة العم صالح وكثير من السعادة تعلوا محياها معتقدةً أنه ربما جاء واسطة ليجمع بيني وبين إبنه برباط رسمي.
برحيل أمي لم أتمالك نفسي ولم أستطع أن أكبح جماح شوقي وإرتميت على صدره معترفة بإشتياقي وقد تسربت بعض دموعي الحارقة من خلف القميص الصيفي إلى جلده لكنه لم يتأثر. ظل محافظا على بروده وثباته وصمته وهذا ليس غريبا على السيد صالح ولم أستغربه كثيرا، قطع عليّ لحظتي تلك بعد أن أبعدني عن صدره بيديه لتقابل عيني عينيه:
– لقد جئت اليوم تحملني أيادي عاطفتي ومشاعري.. لا أدري كيف حصل لكنه حصل.. وقد ولدت فينا في غفلة منا معجزة رائعة بروعة ما تكتمه من آلام ستنتج عن حرمة لقائنا وإجتماعنا تحت تلك المعجزة ومعها أمام الشرائع الإجتماعية الفاسدة سيتهمونني بالشذوذ ويتهمونك بالعهر والبحث عن مصلحة ما لا يرونها حتى… وفي أفضل الأحوال سيتهمونك بالغباء ونعلق مضغة في أفواههم ليوم غير معلوم.. إني جئت أناشدك أن لا ترتبطي بإبني لأنه يعتزم ذلك فلن أقدر أن أراك في أحضانه… سيمزق ذلك فؤادي ويسحق قلبي ويعلق روحي على مناجل التعذيب الأبدية.. إرأفي بقلب رجل كبير أعيته الحياة وجمد برد العمر كل مظاهر الحياة فيه ولا تقبلي به وسيكون لك على الأكيد من هو أفضل منه…
هنا قطعت عليه كلامه بحنق كبير وبكبرياء واضح:
– كيف تسمح لنفسك أن تتدخل في حياتي وتحدثني بما تحدثني الآن..
فطأطأ رأسه وقد حلت كلماتي على قلبه كالصاعقة ورأيت دمعة محبوسة في أحداقه تجمدها محاولة طويلة منه للثبات والوقوف منتصب القامة على حافة جرحه فعرفت فداحة ما تفوهت به وأشفقت على قلبه وتألمت لألمه الذي دعاه لطلب ما طلبه فإستدركت:
– لن أرتبط بإبنك حتى لو لم تطلب مني لأنك تعرف أني لا أحبه وتعرف كما أعرف قداسة إرتباط الحب بالزواج عندي…
رأيت بعض الراحة قد إرتسمت على وجهه لكن نفس الدمعة المحبوسة ظلت تسكن نظرته.. فعدت للحديث محاولة التماسك والصمود أمام حضنه الدافئ المغري وكتم شوقي وتلجيم حبي برباط قوي من العقل:
– أتدري ماذا أيضا… إني.. إني.. أحبك.. أحبك ولكن.
تتزاحم التصوارت والكلمات والأفكار و الهواجس والتخيلات، مساحات ومساحات من خلايا المخ تشتعل وتتفاعل بعد كلمة “لكن”
كل منها يريد أن يتصدر أول المحرمات وأول الممنوعات..
فتظل “لكن” وحيدة منفردة لا فكرة بعدها..
أحبك ولكن..
– …و ها أنا أسمي الأشياء بمسمياتها بكل صدق وصراحة كما علمتني ذات يوم وكما لم تفعل أن أنت اليوم.. إني أحبك ولا أدري كيف ولماذا وأعرف أنك تشارطني هذا الإحساس وهذا الشوق المدمي..
و هنا لم استطع أن أمنع دمعي من الصمود وإنهرت باكية فسمح له كبرياءه أن يدع دمعته التي صمّدها كثيرا خجلا من صورة الرجل القوي الذي حاول رسمها كثيرا لدي لأن في بلدتنا الصغيرة على تلّة العادات والتقاليد الشرقية البائسة دمعة الرجل لا تتعدى اعترافا مخجلا بالضعف.. كم أشفق عليه وعلى نفسي من هول الورطة التي وقعنا فيها وقد كان يصغر أبي بعام واحد ولن يسمح لنا المجتمع بالإلتقاء وإغتنام المعجزة التي نزلت على قلبينا وخصّتها بنا الصدفة دون غيرنا..
عندما فكرت في الجوهرة التي حطّت في أحضاننا ولم نقدر على إلتقاطها لشدة إلتهابها. ندبت حظي ولعنت قدري وإغرورقت عيناي حزنا وهممت أن أعدل ظلم الصدف والظروف، هممت أن أفتح أمامه أبواب الأمل في اللقاء والإجتماع رغم كل ما سيجره علينا من عناء…. هممت أن أقنعه بأني سأبيع كل الدنيا وأرفس كل أحكام المجتمع لأكون معه لكن أمي دخلت حاملة طبق الحلويات والقهوة مبتسمةً بشوشة متأملة الخير من الزيارة، ليتها كانت تعرف ماذا كنت أحس وماذا كنت أعيش ربما لتشفق على إبنتها من هول ما أصابتها به يد السماء.. مسحت بسرعة أثار الدمع عن وجهي وتظاهرت بالتماسك وكذلك فعل صالح حبيب قلبي وقال:
– ما كان يجب أن تكلفي نفسك فليست بغريب بالإضافة أني قد أتتمت الحديث مع إبنتك الفاضلة وها أنا ذاهب..
إلتفت نحوي ورماني بنظرة محملة بالكثير من الرسائل التي سأظل أفك رموزها إلي لحدي وأردف:
– أرجو أن تفكري في ما قلته لك وأتمنى أن يوفقنا الله إلى ما يحب ويرضى…
ثم إلتفت إلى أمي مع إبتسامة رضاء متكلفة وأضاف:
– تشكراتي سيدتي على إستقبالي وحسن إستضافتي.. إلى اللقاء..
رغم إصرار أمي على بقاءه على الأقل ليشرب قهوته ثم يرحل رفض بإصرار..
بعد رحيله أصرت أمي على معرفة ما جاء لأجله فقلت أنه يريدني أن أقبل بطلب إبنه لي للزواج فهو يعرف إصراري على الرفض ومازلت رافضة وسأظل وترجيتها أن لا تزيد الأمر سوء بتدخلها فلم تفعل كي لا تزيد ألمي الذي كان باديا جدا على محياي وتركتني في غرفتي للألم يمزقني ولشوق مطول يلوكني وسخط كبير على الحياة التي صيرتني لمثل هذا الألم الذي هو فوق طاقتي على التحمل والصبر..
لماذا نجتمع إذا كنا لن نلتقي؟؟
لماذا تحضر إذا كنت سيد الغياب؟؟؟
لماذا أرتب حياتي على وقع ساعتك إذا كنت مع الفوضى أحباب؟؟
هكذا همست لأعمق أسرار الوجود وإنصهرنا على عتابات اللقاء الشبيه بوجع الفراق، وأتذكر كلمات درويش توقظ فيّ حقيقة الواقع وتبرز لي حدة سكاكينه “لم نفترق، لكننا لن نلتقي أبدا”..
كم تظاهرت بالغباء لأحصن إيماني وأنفخ في أملي ملهبة عشقي للحياة.. كم تنازلت وقنعت، كم أحببت وتمنّعت، كم عشت في حياتي أنصاف تجارب وكم وقفت بساق حافية على حد سكين يقسمني نصفين وأنا صامتة، ليتني حينها بكيت وإنتحبت، ليتني إنتفضت وثورت على الألم ورغم التمنيات مازالت تحكمني أنصاف المواقف لقاء بطعم الفراق وإنصهار بطعم الموت وتعانق بطعم الدماء، تسيل من جرح التمني، ليتنا في عالم غير العالم وتحت سماء غير السماء..
و بينما أنا وسط تلك الفوضى يأتيني ذلك السؤال ليهدي قلبي القليل من السلوى، ماذا لو جئت الحياة ورحلتِ ولم تذوقي حتى ذلك اللقاء المطعم بالفراق ماذا لو لم تشهدي الدليل القاطع على تكامل الأرواح وحقيقة إنقسامها في هذا العالم..
كل هذا والحقيقة لا تتغير “لن نفترق لكننا لن نلتقي أبدا”..
اليوم تتشتت مفاهيمي تتبعثر وتتكون على تضاريس ذلك السر من أسرار الوجود فيتغير معنى الوطن وتذوب أوجاع الغربة، إيماني يتعاظم أمامي ليفهمني كنه الوجود ويوسع قلبي ليسامح كل الجلادين والظالمين ويغفر كل زلات الإنسان بدءا من بائعة الهوى تلك التي أحبت رجلا من الأشراف فسرقته من بيته وحرمت إمرأة أخرى نظيرة لوجعها من قلب دافئ وجسد ملتهب وتلك الفتاة الصغيرة التي عشقت أستاذها الذي يكبرها بسنين فأضاعت العلم لأجل الحب وأنتهي بكل تلك النساء اللواتي إشترين فرح قلوبهنّ بوجع نساء مثلهن، أغفر اليوم لجميع من خان وأوجع وجرح وهجر وبنى سعادته على تعاسة غيره بإسم أنبل أسرار الوجود…
فوضى عارمة في عقلي وروح مشتتة بين الفرح والبكاء حائرة في التعرف على مصدر كل تلك الكمية من أحمر الألوان ومصدر سيلانها، مجزرة أم أنه الربيع يدق أبواب شتائنا ويسيل الأنهار المتجمدة ويحطم كل الفروقات والطبقات بين الإنسان والأخيه، بين الروح وساكنها، بين ساكن القصر واليتيم الذي ينام تحت السماء متلحفا الأرض دثارًا قانعًا بما ليده ثريا بما في قلبه من ألم وكآبه تدنيه من جوهر الحياة وتزوجه من الحقيقة التي تتقرب منه شيئا فشيئا بتعريها أمامه إلى أن تسلمه ذاتها ليتزاوجا ويتلقحا دانيًا من الكمال والخلود، كم هو غني بفقره وكم هو ساكن القصور فقير بماله.. وكم أنا غنية بحرفي ووجعي وتجربتي وذاكرتي وكم هم واهمون وأغبياء بطلب النسيان وفناء العمر وراء بهرجة الأضواء ولمعان الذهب..
ظللت على قيد تلك الفوضى والوجع إلى أن إقترب فجر اليوم الموالي فهمست لنفسي:
“نفسي حبيبتي هيا إلى النوم، في صباح اليوم الجديد عرّفي وغربلي ونظمي ربما تكونين أكثر قدرة على ذلك”
تطل عليّ شمس النهار الجديد وتدغدغني أول خيوط الشمس رغم أني نمت متأخرة وتهيأني لضرورة تقبل وجعي الجديد وكآبتي الطارئة، مع دمعة شوق محبوسة في الأحداق أتعانق مع حقيقة وجودي وأنصهر معها.. بكل سعادة أقول إنه الألم… وأمضي وحيدة كما كنت دائما مع عاهة خطيرة في القلب تسمى الفراق وشلل بالغ في الروح نتيجة حب خارج القانون أو أنه حب قانوني سوي في مجتمع منحرف النوايا والتفكير والأحكام.. وأظل كل ليلة ألعن كل الشرائع ويزيد سخطي على مجتمع سلبني حلمي وحبي.. على مجتمع سلبني الحياة منذ عرفت كنهها ونشدت جوهرها بالحرية،
فقط لأني إمرأة …
[/et_pb_text][/et_pb_column_inner][/et_pb_row_inner][/et_pb_column][et_pb_column type=”1_4″][et_pb_sidebar admin_label=”Sidebar” orientation=”right” background_layout=”light” area=”sidebar-1″ remove_border=”off”] [/et_pb_sidebar][/et_pb_column][/et_pb_section]