ذاكرة امرأة… أو لا تعتذر عمّا فعلت…
|[et_pb_section admin_label=”section” fullwidth=”off” specialty=”on”][et_pb_column type=”3_4″ specialty_columns=”3″][et_pb_row_inner admin_label=”row_inner”][et_pb_column_inner type=”4_4″ saved_specialty_column_type=”3_4″][et_pb_text admin_label=”النص”]
بقلم: أمل المكّي
ذاكرة المرء صديقه الأوفى أو عدوّه الألدّ… فوحدها تمتلك مفتاح خلوّ باله أو انشغاله…ولأنّ ذاكرتي تمتلكني ولا أمتلكها، كثيرا ما دفعت بي في غياهب التأمّل والتفكّر وأقضّت مضجعي بالمحاسبة والتدقيق وتطفّلت عليّ في أشدّ لحظات ممارستي للحياة حميمية… فأنا ان كتبت فانّما لأرقن ما تمليه عليّ ذاكرتي لا ما يمليه عليّ القرطاس والقلم… واليوم تصرّ عليّ ذاكرتي أن أكتب حول حدث يعود الى صائفة 2008، ذلك الصيف المفعم بالشمس والضيق والجور، كسماء تخلّى عنها ربّها فعاثت فيها مخلوقاته فسادا… ولولا أنّ ذاكرتي عنيدة عصيّة على الرفض لما كنت كتبت عن ذلك الصيف الذي لا ريب نسيه الجلاّدون..لكنّ ذاكرتي لم تسقطه بعد من ذاكرتها…
بمناسبة الاحتفال بختم الدستور الجديد، أقامت رئاسة الجمهورية منذ أيام، حفلا كرّمت فيه النجباء من التلاميذ وكانت احدى التلميذات المكرّمات والتي اسمها “وصال النهيدي”، بنتا من الحامّة رفعت إسم مدينتها عاليا … رأيت صورة “وصال” الصغيرة على صفحة حامّية على الفايسبوك، وسعدت لها…لكنّ صيف 2008 قفز في ذاكرتي واحتجّ وصاح أن :” لقد ان الأوان لكي تنفضي عنّي تراب الزمن وتحكي حكايتي…سئمت مرقدي هنا وسط ذكرياتك المنسيّة.”
وهل بيد الكاتب حيلة أمام جبروت ذاكرته الحبلى بالأحزان؟
في أحد أيام جويلية من عام 2008، كان الجوّ حارّا في مدينتي وساخنا في منزل عائلتي بالحامة… عندما جاء ذلك الاتّصال. لم أكن في البيت، فتلقّته والدتي وأعلمتني بفحواه حال عودتي… لم يكن المتصّل سوى السيد “ثابتي” مدير المعهد الثانوي “محمد عليّ” الذي كنت أدرس فيه حتى ذلك الحين وفي احدى قاعاته اجتزت امتحان البكالوريا لذلك العام… كانت المكالمة تتعلّق بشروط قال المدير أنه تبلّغ بها بدوره من قبل الادارة الجهوية للتعليم بقابس وأنّه على “أمل المكي” الالتزام بها عند تسلّمها جائزة الولاية في اليوم الجهوي للعلم.
كانت والدتي المسكينة تبلّغني الشروط المعنية وتعاين في الوقت ذاته ملامح الصدمة التي ارتسمت على وجهي… السيد المدير حفظه الله، أبلغ أمّي أنه عليّ ارتداء سروال من الجينز يوم الحفلة بدل التنانير الطويلة التي اعتدت ارتداءها في ذلك الوقت…وأنه عليّ أن لا أضع الخمار بالطريقة التي تظهره على أنّه “حجاب طائفي” بل يجب أن ألبس قميصا عالي الرقبة وأرفع الخمار بحيث لا يغطّي إلا الشعر والأذنين ولا يتدلّى على الرقبة والصدر… بعبارة أخرى، كانت المكالمة تقول:” ايجا هزّ جايزتك أما بشروطنا.”
كاد رأسي الصغير ينفجر ساعتها ولم أتمالك نفسي ووجدتني أصرخ :”مانيش ماشية ويخلّيوها عندهم الجايزة..” كان من غير الممكن بالنسبة لفتاة ترعرعت على أنغام موسيقى الرفض لمرسيل خليفة وجوليا بطرس، ونشأت على التوق الى الحرية في أغاني ماجدة الرومي وفيروز، وتعلّمت حبّ الشمس ثمّ قراءة الكتب في أكثر روايات المبدعين العرب والأجانب تحفيزا على معاقرة الحياة تمرّدا، أن تقبل بشروط مهينة و مجحفة تضعها بين كمّاشتي التنازل للإدارة الجائرة وقسوة التخلّي عن الحق في الاحتفال بالتفوّق… في سنّ الثامنة عشر، وتحت شمس الحامّة الغاضبة لسبب لا يعلمه غير الله، اخترت أن أتخلّى عن الجائزة وأحافظ على كرامتي وأخبرت والدتي ووالدي بعدم رغبتي في الذهاب الى الحفلة “المشروطة”…
لكنّ ما قصم ظهري في تلك اللحظة هو موقف والديّ اللّذين أكّدا لي أنه في حال عدم ذهابي لتسلّم جائزتي فسيتمّ حرماني من الذهاب الى الجامعة…والداي اللّذان عارضا تحجّبي منذ البداية، كانا يدقّان المسمار الأخير في نعش كرامتي التي أهدرتها تلك المكالمة اللعينة…
كنت أعرف والدتي… امرأة قدّت من نار ونور وجبلت على الصبر والعناد وحباها الله بكثير من القدرة على التحمّل والإقناع… وكنت أدرك أنها لن تنفّذ بأي حال من الأحوال تهديدها بحرماني من الجامعة، لكنّها كانت ستمنحني صيفا طويلا من التذمّر والتأفف والتذكير في كل ثانية بحماقتي التي ارتكبتها …
حاولت كثيرا إقناع والديّ بأنه من المهين أن أقبل بمساومتي على جائزة استحققتها بفضل كدّي وجهدي وأنه كان من الأجدر بإدارة معهدي أن تدفع عني هذا الظلم، أنا التي منحت المعهد الترتيب الوطني الثاني في الجمهورية في امتحان البكالوريا، وأنه كان من الأجدر أيضا بالإدارة الجهوية للتعليم أن تكرّمني لمنحي الولاية ذلك الترتيب لا أن تهينني باشتراط شكل لباس وهيأة معيّنين على حضوري…
صمّ والداي أذنيهما عن سماع حججي واحتجاجي، وأعلنا في حركة ديكتاتورية غير مسبوقة أنني سأرافقهما الى حفل التكريم في هيئة تستجيب لشروط الادارة الجهوية للتعليم التي بلّغنا ايّاها السيد مدير المعهد… وكان لهما ذلك….
في اليوم الجهوي للعلم وفي حفل تكريم المتفوقين كان تكريمي مميّزا عن سائر التلاميذ المكرّمين…
وصلنا دقائق قليلة بعد بداية الحفل، واتّخذنا لنا مقاعد وسط الحضور وبقينا ننتظر الاعلان عن اسم “أمل المكي”…وطال انتظارنا… تسلمّ الجميع جوائزهم من تلاميذ الصف الابتدائي والاعدادي والثانوي ومن طلبة الجامعة ومن خرّيجي مراكز التكوين وبدأت تباشير نهاية الاحتفال تلوح… وحده اسمي لم تصدح به حنجرة منشّط الحفلة… الكثير ممّن تمّ تكريمهم أخذوا في المغادرة ولم يتبقّ غير القليل من التلاميذ والأولياء وكثير من موظّفي الادارة وطاقم التربية والتعليم الذين لا بدّ أن يظهروا في كلّ صورة تجمعهم بالوزيرة التي أشرفت على الحفل والتي نسيت إسمها… همست لأبي أن “هيا بنا نغادر”….كانت الجائزة الكبيرة المغلّفة باللون الرمادي اللمّاع والوحيدة المتبقّية على طاولة التكريم، تغمز لي وتغازلني في كيد نسويّ شرير… عرفت أنها لي…فلم يتبقّ غيري ولم يبق على الطاولة غيرها…كنا وحدنا، ثنائي التلميذة المكرّمة والجائزة الذي لم تكتمل فيه المعادلة… عندما خلا المكان من الأولياء وأبنائهم أو كاد، كان الغيظ قد بلغ بوالديّ مبلغه…فهرع إلى موظّف في الادارة الجهوية للتعليم يطالبه بتفسير لعدم المناداة على إسمي لتسلّم الجائزة …كان ردّ الموظّف الذي يعرف والدي جيّدا بحكم الزمالة، ردّا جهنّميا :” سامحني…ما ريناكمش”…
ضحكت في نقمة وقد تكشّفت أمامي الصورة في كامل ملامحها السادية…ثم تسارعت الأحداث …راح والدي يتحدّث الى جميع من يعرفهم في الادارة وراحت والدتي تقرّع منشّط الحفل وتهدّده بأنها ستتوجّه إلى الوزيرة وتخبرها بما حصل…كان لذلك التهديد وقع السحر…فسرعان ما حمل المنشط المصدح و”ذكر” إسمي وسلّمني الجائزة…لكن لم يكن هناك أحد من الحضور ليشهد تكريمي فأقراني جميعهم غادروا ولم يتبقّ غير مجموعة من الموظّفين والمعلّمين والأساتذة مجتمعين حول شخص الوزيرة طامعين في صورة تذكارية معها…لم يرني أحد أحتضن جائزتي الكبيرة ولم يسمع أحد اسمي…كان تكريما سريعا، خاطفا لم يعلق في ذهن أحد سوى في ذاكرتي اللعينة وفي ذاكرة والديّ اللّذين أدركا من يومها أنّه من حقّي أن أقرّر ماذا أفعل وماذا ألبس وكيف أحيا وكيف أقول “لا” حفظا لكرامتي….
كان ذلك حدثا صغيرا ومحزنا لم يتكرّر معي فيما بعد… ففي صائفة 2011، كنت مدعوّة لحضور حفل تكريم المتفوّقين في اليوم الوطني للعلم بصفتي صاحبة الترتيب الأوّل على مستوى الجمهورية في شهادة الاجازة الاساسية اختصاص لغات… سلّمني يومها “فؤاد المبزّع” الجائزة دون أن يعلّق على حجابي أو ثوبي الطويل ودون أن تتفاداني كاميرا التلفزة الوطنية ودون أن يسقطني منشّط الحفل من قائمة المكرّمين… تلك إحدى بركات ثورة جانفي 2011 التي لولاها لكانت الادارة التونسية تواصل اليوم فرض شروط مضحكة مبكية على الفتيات النجيبات اللواتي اخترن وضع الحجاب…
“وصال النهيدي” حبيبتي الحامّية الصغيرة وغير المحجّبة لم تعش هذا الموقف ولن تعيشه كما لن يعيشه أحد بعد اليوم… وهذا وحده يسعدني ويملؤني بهجة… أمّا عن مدير معهدي آنذاك ومدير الادارة الجهوية للتعليم بقابس وجميع من شاركوا في سرقة فرحتي بالتكريم في 2008 وفي اغتيال فخر والديّ بابنتهما المتميّزة، فأقول لهم قول الشاعر الفلسطيني الرائع محمود درويش :”لا تعتذروا عمّا فعلتم”…
[/et_pb_text][/et_pb_column_inner][/et_pb_row_inner][/et_pb_column][et_pb_column type=”1_4″][et_pb_sidebar admin_label=”Sidebar” orientation=”right” background_layout=”light” area=”sidebar-1″ remove_border=”off”] [/et_pb_sidebar][/et_pb_column][/et_pb_section]