المحكمة الجنائية الدولية وجرائم الاحتلال الصهيوني: صحوة الضمير المرتقبة

بقلم: خليل القادري

لم تتشكل محاكم خاصة للنظر في الجرائم الدولية الا بصفة استثنائية، من ذلك محكمتا نورنبرغ وطوكيو، ثم عرف القانون الجنائي الدولي ركودا الى حين تشكيل محاكم دولية جنائية خاصة كمحكمة رواندا 1994 ومحكمة يوغسلافيا 1994 وظهرت بالتتالي: محاكم تيمور الشرقية، سيراليون، كمبوديا، محكمة لبنان الخاصة، ثم توجت بتأسيس المحكمة الجنائية الدولية المنبثقة عن معاهدة روما 1998 والمتزامنة مع سعي المجتمع الدولي الى تقنين الجرائم الدولية سعيا لتكريس حقوق الانسان من تعسف القضاء الدولي لا سيما الانتقادات التي وجهت الى محكمتي نورنبرغ وطوكيو[1].

لقد اثير جدل حول وجود القانون الجنائي الدولي ووجود جرائم دولية، فهناك من اعتبر القانون الجنائي الدولي قانونا عرفيا قياسا على القانون الدولي العام وبصفته أصلا له، وبل فيهم من ذهب الى اعتبار ان الجريمة الدولية غير موجودة في نصوص مكتوبة ويمكن الاهتداء اليها عن طريق استقراء ما تواتر عليه العرف الدولي[2].

لقد جاءت معاهدة روما 1998 المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية تتويجا لجهود الأمم المتحدة في تقنين الجرائم الماسة بسلم وأمن البشرية وتتالي الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الانسان وسعيا لتبلور مادة القانون الجنائي الدولي على غرار القانون الجنائي الوطني. فبعد محاولات لجنة القانون الدولي حول خلق محكمة جنائية دولية ولحاجة البشرية الى جهاز قضائي دولي دائم نظرا للجرائم الفظيعة التي ترتكب في أنحاء متفرقة من العالم بما يمكن من تجاوز عدالة المنتصرين وعدالة المكيالين، جاءت الاستجابة بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1996 احداث لجنة تحضيرية لبعث هذه المحكمة،  فانتظم مؤتمر الأمم المتحدة الديبلوماسي للمفوضين في روما من 15 جويلية الى 17 جويلية 1998 لهذا الغرض فصوتت 120 دولة لصالح نظام روما المتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية مقابل رفض سبع دول أهمها الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل والصين والهند مقابل امتناع 21 دولة. ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في 1 جويلية 2002 حيث أصبحت المحكمة مختصة بالنظر في الجرائم الدولية بذلك تكون المحكمة الجنائية الدولية اول منظمة ذات اختصاص قضائي جنائي دولي، بذلك أضحت المحكمة الجنائية الدولية مكملة للاختصاصات القضائية الوطنية وفق ما تضبطه المادة الأولى من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية[3] .

 من بين القضايا المطروحة للنظر من طرف المحكمة الجنائية الدولية بصفتها مختصة بالنظر في الجرائم الدولية وفق ما يضبطه اختصاصها جرائم الاحتلال الصهيوني على الأراضي الفلسطينية ولقد تجددت الدعوة في مناسبات متعددة لمساءلته جزائيا.

إنّ ما يقترفه الكيان الصهيوني جرائم دولية بنص القانون الدولي ومنها جرائم العدوان والاحتلال والتهجير وحتى استهداف المدنيين والعزل والأطفال.

وقد أثار هذا الموضوع جدلا بين الفقهاء بين من يعتبر ان عدم انضمام الكيان الصهيوني لاتفاقية روما 1998 المتعلقة بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يجسد عائقا أمام تتبعه وقيام مسؤولية جزائية ضده تمكن من تتبع قادته، وهناك من اعتبر أنّ الممارسات الاجرامية للكيان الصهيوني يمكن متابعتها امام انظار المحكمة الجنائية الدولية والتي تنظر في الجرائم الدولية ضمن نطاق اختصاصها.

ان القيمة العملية للموضوع هو اثبات عدم فاعلية القانون الدولي الحالي وعدم كماله بسبب سياسة المعايير الدولية المزدوجة تجاه جرائم الكيان الصهيوني، لكن مع قبول المحكمة الجنائية الدولية النظر في جرائم الاحتلال الصهيوني فانه يمكن ان يؤسس لعدالة جنائية دولية لا تساوي بين الضحايا والجلاد ولا تعلو عليها ارادات الدول النافذة.

مثّل الرد الصهيوني على هجمات السابع من أكتوبر 2023 تعسّفا في استخدام القوة قياسا بالحروب السابقة إلى حدّ ارتكاب جرائم حرب حسب القانون الدولي الجنائي، وهو ما مثّل فرصة لمحاسبة قادته وعدم افلاتهم من العقاب، فكان ذلك فتحا لصفحة جديدة في العدالة الدولية، والتي دوما ما كانت تتنكر للحق الفلسطيني المشروع في تقرير مصيره، ودوما ما كانت تغض البصر عن جرائم الاحتلال، خاصة مع خطوة دولة جنوب افريقيا بمعية دول أخرى الدافعة المتمثلة في إثارة دعوى قضائية امام المحكمة الجنائية الدولية ضد الكيان وقبول المحكمة النظر في تلك الطلبات منسجمة مع ما تضبطه معاهدة روما، فشكلت تلك الخطوة صحوة ضمير مرتقبة يمكن أن تتحول الى إجراءات فعلية تتيح محاسبة الكيان جنائيا.

 

 1- سوابق المحكمة الجنائية الدولية في التعاطي مع الجرائم الإسرائيلية

يقوم التقاضي في المادة الجنائية إمّا بناء على طلب من الدولة العضو المتضررة أو من خلال تعهد المحكمة من تلقاء نفسها فيما يخص اختصاصها أو من خلال دول أعضاء، وهو ما قامت به فلسطين في عدّة مناسبات سابقا (أ) ثم تستجيب المحكمة لتلك الطلبات وفق ما يضبطه اختصاصها بالمعاهدة المتعلقة بنظامها الأساسي (ب).

أ – الطلبات الفلسطينية السابقة للمحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلّق بجرائم الاحتلال الصهيوني

لقد أثارت الدولة الفلسطينية أولى مطالبها أمام المحكمة الجنائية الدولية في ديسمبر 2009، حيث طلبت من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مباشرة التحقيق في الوضع القائم بعد نهاية حرب غزة 2008 -2009 وبوصف قواعد القانون الجنائي الدولي تكفل مسائلة قادة الاحتلال الصهيوني[4].  ومنطلقة من مبادئ حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ويبين ضرورة وجاهة نظر الدافع لمطالبة المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في جرائم الاحتلال الصهيوني لتوفر أدلة دامغة. أقر المدعي العام المدعي للمحكمة إمكانية فتح تحقيق في جرائم قادة الاحتلال وان بإمكان المحكمة أن تتعهد من تلقاء نفسها، خاصة وأن مجلس حقوق الانسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة أرسل لجنة تقصي حقائق بخصوص الوضع في قطاع غزة، حيث يمكّن هذا التقرير المحكمة من مواجهة افلات قادة الاحتلال من العقاب. تزامن ذلك مع طلب دولة فلسطين العضوية الكاملة بهيئة الأمم المتحدة في 2011، ثم قبولها كدولة عضو في منظمة اليونسكو في شهر أكتوبر من نفس السنة[5].

 تجددت المطالب الفلسطينية في 2015 حيث أودعت فلسطين وثيقة انضمامها للمحكمة الجنائية الدولية لدى الأمين العام للأمم المتحدة، لتصبح رسميا طرفا في نظام روما الأساسي، وأصبح النظام ساري المفعول بالنسبة لدولة فلسطين اعتبارا من الأول من شهر أفريل من العام ذاته. وبذلك تكون فلسطين قبلت باختصاص المحكمة على الجرائم المرتكبة في أراضيها منذ 13 جوان 2014، وتأكيدا لولاية المحكمة على فلسطين فقد أصدرت دائرتها التنفيذية في عام 2021 قرارا بالاختصاص الإقليمي للمحكمة على الأراضي المحتلة منذ العام 1967، وهي قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، مما يعني سريان التحقيق ضد إسرائيل في كافة الانتهاكات التي ترتكبها في تلك المناطق بغض النظر عن عدم انضمام إسرائيل إلى نظام روما[6].

بالعودة الى نظام معاهدة روما، تنص المادة الخامسة منها أنّ للمحكمة أن تمارس اختصاصها فيما يتعلق بجريمة مشار إليها في المادة 5. وتنصّ المادة 14 أنّه “يجوز لدولة طرف أن تحيل إلى المدعي العام أية حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت وأن تطلب إلى المدعي العام التحقيق في الحالة بغرض البت فيما إذا كان يتعين توجيه الاتهام لشخص معين أو أكثر بارتكاب تلك الجرائم”.

ان ممارسات الكيان الصهيوني المتكررة بحق الشعب الفلسطيني مجرمة دوليا ومندرجة ضمن نطاق الجرائم الدولية والتي للمحكمة الجنائية الدولية مرجع النظر الحكمي فيها والذي يقوم على أشد الجرائم خطورة على المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التالية: جريمة الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، جريمة العدوان.

 جرائم الإبادة الجماعية

لم يكن مصطلح “جرائم  الإبادة الجماعية” موجودًا قبل عام 1944، خاصة وأن له مدلولا خاصا، حيث أنه يشير إلى جرائم القتل الجماعي المرتكبة بحق مجموعات معينة من البشر بقصد تدمير وجودهم كليا، هو مفهوم يتعلق بحقوق الأفراد  [7]. تعني جريمة الإبادة الجماعية أي فعل من الأفعال التي ترتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها تلك إهلاكاً كلياً أو جزئياً: ونقلت معاهدة روما الخاصة بجرائم نفس التعريف المعتمد في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في 9 ديسمبر 1948 حيث ضبطت المادة السادسة جرائم الإبادة الجماعية لتشمل الجرائم التالية : قتل أفراد الجماعة، إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة، إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً، نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.

الجرائم ضد الإنسانية

سبق ان ضمنت هذه الجرائم بالمادة السادسة من ميثاق معاهدة نورنبرغ 1945 لمحاكمة مجرمي الحرب في دول المحور الأروبية وتكرر بمحكمة طوكيو 1946 والمحاكم الجنائية الدولية الخاصة برواندا ويوغسلافيا بالإضافة الى تضمينهم جرائم أخرى مثل الاغتصاب والبغاء الجبري والتعذيب والسجن والإبعاد[8].

 وقد ضمنت الجرائم ضد الإنسانية بالجرائم الدولية مرجع نظر المحكمة الجنائية الدولية التي ترتب مسؤولية جنائية دولية بالمادة السابعة من معاهدة روما 1998 وهي أي فعل من الأفعال المحظورة المنصوص عليها في نظام روما، إذا ارتكب بشكل منظم وممنهج ضد مجموعة من السكان المدنيين، مثل القتل العمد والإبادة والاغتصاب والإبعاد والنقل القسري والتفرقة العنصرية والاسترقاق. مع اشتراط الركن القصدي التمثل في عبارة العلم.

جرائم العدوان

يعني «العمل العدواني» استعمال القوة المسلحة من جانب دولة ما ضد سيادة دولة أخرى أو سلامتها الإقليمية أو استقلالها السياسي، أو بأي طريقة أخرى تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة. وتنطبق صفة العمل العدواني على أي عمل من الأعمال التالية، سواء بإعلان حرب أو بدونه، وذلك وفقًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3314 (د-29) المؤرَّخ 14 ديسمبر 1974: قيام القوات المسلحة لدولة ما بغزو إقليم دولة أخرى أو الهجوم عليه، أو أي احتلال عسكري ولو كان مؤقتًا ينجم عن مثل هذا الغزو أو الهجوم، أو أي ضم لإقليم دولة أخرى أو لجزء منه باستعمال القوة، او قيام القوات المسلحة لدولة ما بقصف إقليم دولة أخرى بالقنابل، أو استعمال دولة ما أية أسلحة ضد إقليم دولة أخرى.

جرائم الحرب

وتعني كل الخروقات المرتكبة بحق اتفاقية جنيف لسنة 1949، وانتهاك قوانين الحرب في نزاع مسلح دولي أو داخلي.

نصت عليها المادة الخامسة من معاهدة روما، وكان قد سبق ان تعريفها في اتفاقية باريس1856 الخاصة بمعاملة المحاربين في الحروب البحرية واتفاقية جنيف 1864 الخاصة بتحسين حالة الجرحى في ميدان القتال واتفاقية لاهاي الأولى 1899 الخاصة بأحكام الحرب البرية ثم تلتها اتفاقيات برتوكول جنيف 1925 بتحريم استخدام الغازات السامة واتفاقية جنيف 1929 الخاصة بمعاملة الاسرى والمرضى والجرحى ثم اعتمدتها اتفاقية جنيف الأربع لعام 1949 ثم ادمج معها بروتوكولان إضافيين في 1977 بعنوان حماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية[9] وتكرر تعريفها في المحاكم الجنائية الدولية الخاصة بجرائم بميثاق المحكمة العسكرية بنورنبرغ واقتصرت فقط على الجرائم المرتكبة زمن الحرب فقط اما الميثاق الخاص بالمحكمة الجنائية الخاصة برواندا ويوغسلافيا فقد وسعت مفهوم جريمة الحرب ليشمل الجرائم التي ترتكب خارج النزاعات المسلحة الاهلية والدولية حتى خارج زمن الحرب، وحذا حذوها نظام روما في المادة الثامنة [10].

 

ب – تعاط بالاستجابة دون فاعلية للمحكمة الجنائية الدولية مع المطالب الفلسطينية

رفضت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة فتح تحقيقات في الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية عام 2010 في ثلاث مناسبات [11]. خاصة لما اثير الطلب لأول مرة أمام المحكمة الجنائية الدولية سنة 2009.

تم السماح لدولة فلسطين بالانضمام إلى نظام معاهدة روما في عام 2015، وهو نفس العام الّذي بدأ خلاله التحقيق الأولي. باعتبار عدم انضمام إسرائيل إلى نظام روما، قالت إسرائيل أن المحكمة ليس لها سلطة قضائية لأن دولة فلسطين ليست دولة ذات سيادة[12].

دوما ما كان عدم انضمام إسرائيل لتلك المعاهدة عائقا أمام فتح تحرك قانوني قضائي ضدها، لكن بدأ تحقيق المدعي العام بشأن الحالة في فلسطين في 3 مارس 2021 الذي يشمل السلوك الذي قد يرقى إلى مستوى الجرائم المنصوص عليها في نظام روما الأساسي والتي تم ارتكابها منذ 13 جوان 2014 في غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وفقا للمحكمة [13]، لكن دون قرارات فعلية ملموسة.

 

2- المحكمة الجنائية الدولية تنظر في إمكانية مسؤولية جزائية للكيان الصهيوني.

تمثلت الخطوة المهمة التي قبلت بموجبها محكمة الجنائية الدولية النظر في إثارة بعض الدول الأعضاء المنخرطين في نظامها الأساسي دعوى ضد الكيان الصهيوني بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 خطوة نحو صحوة الضمير المرتقبة )أ)، لكن بقيت خطوات محتشمة في محل انتظار تفعليها لا سيما انها احتوت على  نقائص وعوائق تحول دون مسائلة جنائية فعلية للكيان الصهيوني )ب ).

أ – استجابة المحكمة بالنظر في جرائم الاحتلال بموجب طلب دول أعضاء في المحكمة.

تحركت المحكمة الجنائية الدولية لمساءلة إسرائيل بعد ممارسة الكيان الصهيوني لجرائم عديدة مندرجة ضمن مرجع نظرها عند إثارة دولة جنوب افريقيا دعوى ضد الكيان الصهيوني أمام أنظار محكمة العدل الدولية المتعلقة بتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة[14].

 استجابة لتلك المطالب أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان أن مكتبه تلقى إحالة من خمس دول هي :جنوب أفريقيا، بنغلاديش، بوليفيا، جزر القمر، وجيبوتي- بشأن الوضع في دولة فلسطين. في خطوة غير مسبوقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما أعلن المدعي العام أيضا سعيه للحصول على أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت [15].

وقد وجه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية عددا من التهم إلى كل من نتنياهو وغالانت التي تعتبر بمثابة جرائم حرب لكن في المقابل، أصدرت المحكمة في وقت لاحق قرارا بالتأجيل[16] .

أكّدت لجنة تحقيق دولية تابعة للأمم المتحدة في شهر يونيو 2024 أنّ إسرائيل ارتكبت جرائم ضد الإنسانية في الحرب على غزة “مثل الإبادة” وذكرت اللجنة في عرض سيقدم أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الأسبوع المقبل أنه “تم استهداف رجال وصبيان فلسطينيين عبر جرائم ضد الإنسانية، مثل الإبادة والاضطهاد، بالإضافة الى جرائم القتل والنقل القسري والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية أو القاسية” [17].

ب نقائص خطوة المحكمة الجنائية الدولية تجاه إسرائيل.

إن المتأمل في بيان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية سيلحظ بكونه يساوي من حيث الإدانة بين الضحية والجلاد ويتنكر لحق الشعوب في تقريرها مصيرها وممارستها لحق الكفاح المسلح، فقد كان لافتا عدم اتهام المدعي العام للمحكمة الجنائية القادة الإسرائيليين بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، غير أنه استعاض عن ذلك باتهامهم بارتكاب جريمة الإبادة والقتل ضمن الجرائم ضد الإنسانية، وفي هذا السياق تندرج حالات الوفاة الناجمة عن سياسة التجويع [18].

من اللافت للنظر أيضا أن قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية لم يكتف فقط بإدانة الاحتلال الإسرائيلي بل أدان المقاومة الفلسطينية متنكرا لحقها المشروع في ممارسة الكفاح بصفته احد أوجه تقرير المصير، حيث يمنح حق الكفاح المسلح لحركات التحرر الوطني باعتباره وثيق الصلة بأهمّ مبادئ القانون الدولي وهو حق تقرير المصير لاستعادة القطر او الأقاليم المحتلة، وذلك من خلال مشروعية استخدام القوة المسلحة مقابل الالتزام بقوانين وقواعد الحرب وأعرافها .وتعرف حركات التحرر الوطني طبقا لذلك على أنها حركات وطنية اجتماعية ذات تنظيم محكم مناهض للاستعمار بشكل أشكاله جاءت كرد فعلي طبيعي على المحتل الغاشم هادفة الى تحقيق استقلال اوطانها وحرية شعوبها. [19]

يكتسي حق الكفاح المسلح الفلسطيني ردا مشروعا على احتلال لبلد كامل السيادة او بلد يمتلك شرعية تاريخية سيادية على ارضه وبفعل الاحتلال أصبح منتقص السيادة ويمكن تعريف الاحتلال على انه فرض دولة سيطرتها بالقوة على دولة اخرى مما يفقد الاخيرة سيادتها وشخصيتها الدولية وهي مقترنة بالرد على الظاهرة الاستعمارية. وقد قضت محكمة العدل الدولية، في قضية “برشلونة تراكشن”، بأن رفض دولة ما تطبيق مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها لصالح الشعب الذي تحكمه يعد خرقاً لحق هذا الشعب وحق كل أعضاء المجموعة الدولية، ويحق بالتالي للشعب والمجموعة الدولية كذلك التحرك لوضع حد لخرق مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. [20]

 وقد أكدت الشرعية الدولية في مناسبات عديدة أحقية الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره. ولقد أصدرت حركة المقاومة الإسلامية حماس كتابا بعد أحداث السابع من أكتوبر بعنوان “لماذا طوفان الأقصى؟ هذه روايتنا “، بينت عبره أنها هاجمت مواقع للاحتلال الصهيوني في مستوطنات تقع بغلاف غزة مكان الهجوم، واكدت التزامها بعدم استهداف المدنيين الإسرائيليين[21].

إنّ نقائص تعاطي المحكمة الجنائية الدولية مع الملف الفلسطيني يطرح نقاط أخرى متعلقة بمدى نجاعة نظام  روما الأساسي في تكريس عدالة جنائية فعلية تنتصر للمضطهدين ولا تشجع الجناة على الإفلات من العقاب. تبعا لذلك تطرح مسالة عدم انضمام الكيان الصهيوني لنظام روما الأساسي  الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية يشكل عائقا أمام تتبعه جنائيا، بالإضافة الى دور الولايات المتحدة الامريكية الحامي له، وحتى ان كان الكيان الصهيوني قد ينضم الى تلك المعاهدة فطالما أنه محمي من بعض الدول النافذة في صناعة القرار العالمي المالكة لحق النقص في مجلس الأمن، فقد صرّح وزير خارجية الولايات المتحدة السابق مايك بومبيو، بكونه يعارض بشدة هذا وأي عمل آخر يهدف إلى استهداف إسرائيل بشكل غير عادل، في حين ذكرت ألمانيا أنها تثق في المحكمة وتريد تجنب تسييس القضية، في المقابل أعلنت المجر أنها تتفق مع حجج إسرائيل حول الاختصاص القضائي. [22]

ولعل هذه الحالة، مع تأجيل المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرتي اعتقال بحق قادة الكيان، تحيل على سوابق أخرى تجسد ازدواجية المعايير لدى القضاء الدولي كعدم مقاضاة المسؤولين الحكوميين والعسكريين البريطانيين عن جرائم حرب ارتكبوها إبان الاحتلال الأمريكي في العراق، وجدير بالذكر أن بريطانيا من أوائل الدول التي صادقت على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وفضلا عن تعديل قانونها الداخلي حتى يكون مطابقا للنظام الأساسي للمحكمة. وقد تقدم المحامي الفرنسي جاك فيرغاس بدعوى ضد المملكة البريطانية المتحدة وجهها الى المدعي العام متهما إياها بارتكاب جرائم حرب في العراق وهي قادرة على النظر في تلك الجرائم بموجب اختصاصها حتى ان لم يوجه لها طلب. وفي المقابل رفضت بريطانيا متابعة قادتها الحكوميين والعسكريين من قبل المحاكم البريطانية أو من محكمة العدل الدولية بكون حربها في العراق كانت حرب دفاعية، والحال انها جريمة عدوان وجريمة حرب. [23]

تطرح تلك السابقة إمكانية قيام حلول بديلة، مثل مقاضاة الكيان الصهيوني أمام محاكم ذات اختصاص عالمي على غرار المحاكم البلجيكية، إذا فشلت المحكمة الجنائية الدولية في تتبع المجرمين الإسرائيليين على ما اقترفوه من جرائم دولية تدخل في دائرة اختصاصها، لاسيما ان الجرائم الجنائية الدولية لا تسقط بالتقادم.

 

خاتمة

لقد مارست الدولة الفلسطينية حقها الشرعي في التقاضي امام المحكمة الجنائية الدولية وخاصة لما انضمت لنظام روما الأساسي المنظم لمرجع نظرها لكن دون جدوى تذكر ، ولكن مع تحرك دول عديدة مصادقة على هذا النظام بطلب مؤاخذة الكيان جنائيا امام انظارها، وخاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 في قطاع غزة، أين استأنف الكيان الصهيوني جرائمه بحق الشعب الفلسطيني والتي مازالت مستمرة الى اليوم، استجابت المحكمة الجنائية الدولية وقامت بفتح تحقيق ضد قادة الكيان وهو ما يمثّل بوادر لصحوة في تعاملها مع القضيّة الفلسطينية، إلا أن خطواتها ظلت محتشمة، مما يفتح التساؤل حول واقع فاعلية العدالة الجنائية الدولية اليوم وآفاقها في الانتصار للمضطهدين وملاحقة المجرمين ووضع حد لعربدة الكيان الصهيوني.

 

 

الهوامش

  1. إبراهيم ملاوي وعبد اللطيف دحية، الجريمة الدولية والقضاء الجنائي الدولي، مركز البحوث والدراسات حول الجزائر والعالم، ط ،1 الجزائر، 2016 ص. ص. 7-8.
  2. عدلي عصمت وطارق الدسوقي إبراهيم، حقوق الانسان بين التشريع والتطبيق ، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2008.
  3. عبد المجيد العبدلي قانون العلاقات الدولية، مجمع الأطرش للكتاب المختص، ط 5، تونس 2014، ص. ص. 307-308.
  4. مؤسسة ’الحق’ والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ورقة موقف حول نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على الوضع في فلسطين، اوت 2013 .
  5. Dan Williams, « Israel defies UN after vote on Palestine with plans for 3,000 new homes in the West Bank »، 01 December 2012 https://www.independent.co.uk/.
  6. وائل المصري، الجنائية الدولية:.قراءة قانونية في إعلان كريم خان ضد إسرائيل وحماس،21 ماي 2024، https://www.aljazeera.net/
  7. موسوعة الهولوكست، ماهي جريمة الإبادة الجماعية، https://encyclopedia.ushmm.org/.
  8. عبد المجيد العبدلي، مرجع سابق، ص 213.
  9. الشيخة حسام علي عبد الخالق، المسؤولية والعقاب على جرائم الحرب مع دراسة تطبيقية على جرائم الحرب في البوسنة والهرسك، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية 2004، ص 12.
  10. عبد المجيد العبدلي، مرجع سابق ،ص 233
  11. “بيان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاطو بنسودا، بخصوص التحقيق في الحالة في فلسطين”، 3 مارس 2021، موقع المحكمة الجنائية الدولية، https://www.icc-cpi.int/fr/.
  12. نفسه.
  13. “خمس دول تحيل الوضع في فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية”، 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 السلم والأمن، موقع الأمم المتحدة https://news.un.org/ar/.
  14. “محكمة العدل الدولية تقر تدابير مؤقتة إضافية في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بخصوص غزة”، 28 مارس 2024 https://news.un.org/ar/
  15. ” خمس دول تحيل الوضع في فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية”، مرجع سابق.
  16. ” الجنائية الدولية تؤجل إصدار مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت”،24 جويلية 2024، https://www.aljazeera.net/
  17. “لجنة تحقيق أممية تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في غزة”، 12 جوان 2024، https://www.aljazeera.net/
  18. وائل المصري، مرجع سابق.
  19. مبروك جنيدي، “حركات التحرر الوطني في ظل القانون الدولي العام”، مجلة العلوم الاجتماعية، المجلد 8 ،عدد 15، 2018، ص 323.
  20. ضحى وضاح الشافعي، “شرعية المقاومة المسلحة الفلسطينية وقانونيتها الدولية*،15 سبتمبر 2018 ،مركز سيتا https://sitainstitute.co/
  21. المكتب الإعلامي لحركة حماس، لماذا طوفان الأقصى؟ هذه روايتنا، ص 7.
  22. “الدول الغربية تنتقد مساواة الضحية بالجلاد في قرار “الجنائية””، 21 ماي 2024https://www.skynewsarabia.com/
  23. إبراهيم ملاوي وعبد اللطيف دحية، مرجع سابق، ص. ص. 188 -190.

نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 36، خريف 2024.

للاطّلاع على كامل العدد: tiny.cc/hourouf36

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights