حرب غزّة في ظلّ مفهوم “السياسة الكبرى” لنيتشه

بقلم: مريم مقعدي

يبدو أن ما يحدث اليوم من حروب إبادة وتنكيل ضد غزة وفلسطين، هو الوجه الأشد كارثية لاندثار كل القيم الكونية التي دعا إليها اغلب الفلاسفة الغربيين في العصر الحديث منذ ديكارت حتى يومنا هذا، ذلك أن ما يجري اليوم من فظاعات لا إنسانية في غزة وفي فلسطين قد فاقت عديد الكوارث التي تواترت على البشرية.

تجاه هذا الواقع اللاانساني الذي عبّر عنه هيدغير، في سياق نقده للحداثة والتنوير، “بالسقوط تجاه هذا الراهن الذي” ينذرنا باللاعالم في كل مرة” علينا أن نتساءل: هل أن الانتماء أقوى من الحقيقة؟ بمعنى، هل أن انتماء فيلسوف ما إلى أفق غربي سيشرّع له التغافل عن الحقيقة ويجعله بالتالي يتنكر لكل القيم الكونية الإنسانية التي تصورت اجتماعا واعترافا ممكنا بين الأنا والآخر؟

و هل علينا- نحن الذين ننتمي إلى “جنوب الحداثة”- اليوم أن نؤسس لـ”فلسفة جغرافية” ،أي تلك التي تعنى برسم الحدود بين ما هو لنا وما ليس لنا؟

يبدو أننا اليوم تبينّا، وبشكل واضح، من خلال آراء بعض المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين كانوا يدافعون بشراسة عن الكوني وعن المواطن العالمي- هابرماس نموذجا- أن الانتماء أهم من الحقيقة، لأنه الأفق الوحيد الذي تتجلى فيه تلك الأخيرة، وأن الوجود الفعلي يكون في صف الأقوى، بغض النظر إن كان هذا الأخير على صواب أم على خطا. فلا معنى للحقيقة وللإنسانية إذن أمام السياسة، ذلك أن تلك “الإنسانية التي تتألم “- حسب عبارة انطونيو نغري، تعد خارجة عن كل مقاييس الإنسانية، بل على حد عبارة والتر منيولو (أحد كبار أقطاب الفكر الديكولونيالي) الطريفة التي ضمّنها في مقاله “العصيان المعرفي، التفكير المستقل والحرية الديكولونيالية” هي تعد خارج “نادي الكائنات الإنسانية الحقيقية، المعرفة على أساس المعرفة البيضاء والتاريخ الأبيض“، وعن كل لوائح حقوق الإنسان التي رسمتها القوى الغربية.

إن ما حدث هو ارتطام العالم الحالي بخريطة سلبية، أين وجدنا أنفسنا في نوع من العطالة أمام كل الحقائق التقليدية ولا سيما تلك التي تتعلق بمبدأ حقوق الإنسان وقيم العيش المشترك. فحتى فكرة “المواطن الكوني” أو “المواطن العالمي” الذي يتجاوز كل الانتماءات الضيقة، قد أضحت فكرة جوفاء فارغة من كل معنى. وحده نيتشه كان استثناء في التنبؤ المثير بانهيار مكانة أوروبا مستقبلا وصعود أمريكا نظرا للسياسة الكبرى التي تسلكها. ماذا يعني نيتشه بالسياسة الكبرى ؟ وما رهاناتها ؟

يوجه نيتشه اهتماما مزدوجا لمفهوم ” السياسة الكبرى”، فهو من جهة ينقد في كتابه “إنسان مفرط في إنسانيته” الاستعمالات الخاطئة لهذا المفهوم ولا سيما ينقد هذا المفهوم في الاستعمالات المسيحية.

و من جهة أخرى ينقلب إلى منظّر لهذا المفهوم، فيكون مفهوم السياسة الكبرى بذلك نمطا مستقبليا من السياسة يوجه رهانه نحو القادم ويتجاوز كل أشكال”السياسة الصغرى” التي قادت في ظل ما يعرف بالحداثة السياسية إلى انتشار الديمقراطية والاشتراكية وخاصة نموذج “الدولة الأمة”  في القرن الثامن عشر.

يقول نيتشه صراحة: “إني لا أعاني أي صعوبة في أن أكون أوروبيا صالحا… أنا الذي يمثل آخر الألمان المناقضين للسياسة.”إن مفهوم ” المواطن الصالح” الذي أمل نيتشه في ظهوره، ليس المواطن المستكين المتشبع بقيم الديمقراطية أو الاشتراكية، وإنما هو إن شئنا القول “الإنسان الأسمى” الذي يسعى إلى تجاوز أنقاض الديمقراطية، باعتبار أن الإنسان الديمقراطي يمثل نموذجا “للإنسان الأخير” عند نيتشه.. انه تصور استشرافي لنوع خاص من نماذج المواطنة الممكنة.. إنه “المواطن الكوسموبوليتاني“، ليس بالشكل الذي نظّر له الرواقيين أو كانط، وإنما هو شكل خاص من الإنسان السياسي الأرقى. فحتى مشروع كانط حول “السلم الدائمة” التي رفضت كل أشكال الصراع والنزاعات، اعتبرها نيتشه وعد شيخوخة هادئة، مثالية لا تحدث في نفوسنا إلا الخوف وتجعلنا نخشى الحرب والصراع، اللذين يعتبرهما نيتشه آلية ضرورة للاستمرار.

 يمكن أن نقول في نوع من القلق إذن أن نيتشه بتنظيره للوحدة الأوروبية عبر مفهوم “السياسة الكبرى”، الذي لن يتحقق إلا على أنقاض كل القيم الكونية التي لا تختلف في نظر نيتشه عن الأخلاق المسيحية الضعيفة، قد فتح الطريق أمام السياسات الغربية لفعل الهيمنة والصراع المتواصل، وبالتالي فان ما يعيشه الشعب الفلسطيني اليوم من حروب إبادة وقصف وتهجير كان نتيجة إيمان القوى المهيمنة بحقها المشروع في التوسع وإن كان ذلك على حساب الإنساني وكل ما نظرت إليه من قيم كونية مثالية.

إن شعوبا مثل الشعوب الغربية التي عانت تاريخا طويلا من الاضطهاد والمعارك والصراعات إن كان ذلك على المستوى السياسي أو حتى على المستوى الديني (الحروب بين الكاثوليك والبروتستنت مثلا)، استبطنت بشكل من الأشكال فكرة أنها “الضحية الوحيدة”، وأنها يجب أن تخرج من تلك الصفة عبر فكرة التقدم التي نظر لها اغلب الفلاسفة الغربيين. ثم إن لفظة التقدم هذا لا تعني في حقيقة الأمر مفهوم “الإبداع” مثلما عبرت عن ذلك الفلسفة الرومانسية (هيغل،هيدغير…)، وإنما هو لفظ تنويري بامتياز، أي انه وليد فلسفة الأنوار، التي ما لبثت أن تحولت بدورها في القرن التاسع عشر إلى ” استعمار” سياسي ومعرفي وثقافي… . وبهذا المعنى يمكن أن نقول انه لا توجد فلسفة أو تصور بريء للعالم- باعتباره رمزا معبرا عن وحدة الإنسانية- وإنما كل فلسفة تعد منخرطة بشكل من الإشكال في “آلة تحدد البلدان وفقا لجغرافيتها”. إذ هناك أيضا قرارات صنعها الإنسان الأوروبي وصدّقها حول نفسه وحول الطبيعة وحول الآخر الذي يمثل بالنسبة إليه بمثابة “التابع” فقط. هنا يمكن أن نتساءل: هل من حق التابع أن ينتج الحقيقة؟ أم انه مقصي من “سياسة الحقيقة” حتى وإن كانت هذه الأخيرة تدور حول نفسه؟ هل من حق الشعب الفلسطيني اليوم أن يصدح عاليا ويؤسس لنمط وجود مستقل؟

   قد تكون هذه الإجابة غارقة في الطوباوية- خاصة من قبل الذين يعتبرون أن الأفق الغربي هو الأفق الوحيد الجدير بالانتماء باعتباره أفق التطور والتحضر…- ولكن أظن أن المواطن الفلسطيني اليوم بعد أدرك مكر العقل الغربي ليس لديه ما يخسره فهو إما أن يموت شجاعا مقداما وإما أن يواصل وجوده بنفس ذلك الحس…

نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 34، ربيع 2024.

للاطّلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf34

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights