العدالة وإشكالياتها رهان الجامعة الصيفية في دورتها الرابعة

بقلم: محمّد حدّاد

للعدالة زوايا نظر عديدة… هذا ما اكتشفناه في الدورة الرابعة الجامعية الصيفية التي نظمتها جمعية تونس الفتاة بالاشتراك مع منظمة كونراد أديناور والتي التأمت في جزيرة جربة من 19 الى 22 جويلية الفارط وذلك تحت عنوان إشكاليات العدالة في تونس. عرفت هذه الدورة مشاركة 22 شابا وشابة من باحثين أكاديميين وناشطين في المجتمع المدني منهم 4 متحصلين على شهادة الدكتوراه إضافة الى 8 طلبة في مرحلة الدكتوراه و5 متحصلين على الشهادة الماجستير و4 طلبة في مرحلة الماجستير إضافة الى مشاركة متحصلة على الاجازة. أما من ناحية الاختصاصات، فقد شهدت هذه النسخة ثراء من ناحية التخصصات العلمية حيث نجد 5 من المشاركين في تخصص القانون و5 في علم الاجتماع و3 في علوم الاتصال و3 في مجال الفلسفة واثنين في اختصاص التاريخ ومشاركة وحيدة في اختصاص العربية ومثلها في اختصاص الإلكترونيك إضافة إلى مشارك مزدوج الاختصاص يجمع بين الهندسة الكهربائية والفلسفة.

العدالة مطلب جماعي بطرق مختلفة

انقسمت هذه النسخة إلي سبع جلسات؛ حاول من خلالها المشاركين تفكيك مفهوم العدالة، حيث تطرقت الجلسة الاولى حول المفاهيم التي ترتبط بالعدالة، فكان المصافحة الاولى مع مداخلة فلسفية تحمل عنوان “العدالة الاجتماعية او في العدالة باعتبارها إنصافا“، حيث كان التركيز على جون راولز الذي يعتبر آخر منظري مفهوم العدالة باعتبارها تقوم على عقد اجتماعي افتراضي يتماشى مع المجتمعات الديمقراطية والتي تكتسب أهميتها بعيدا عن كل الأخلاق النفعية. أما المداخلة الثانية والتي كانت تحت عنوان “تمثلات غياب العدالة: الهجرة غير النظامية نموذجا“، ففضلا عن طابعها الفلسفي، فقد دفعتنا إلى التساؤل حول الثورة التونسية ومدى تحقيقها لمطلب العدالة، باعتبارها الصيغة المشتركة التي تربط الجميع من أجل التعايش السلمي وتحقيق للمساواة إضافة إلى التبعات الخطيرة التي تنجر حول غياب العدالة من خلال مثال الهجرة غير النظامية، التي تمثّل رد فعل عن ارتسام اللاعدالة داخل المجتمع التونسي والمجتمعات التي تعرف غياب هذا المفهوم ممارسة ووعيا. لذلك حاولت المداخلة التي حملت عنوان “الوعي بغياب العدالة وردات فعل المجتمعات عليه” رصد مدى وعي مختلف المجتمعات والفئات بغياب العدالة على مستوى البلدان والقانون والمؤسسات الدولية، مع التركيز على الدولة التونسية كنموذج حاولت من خلاله كذلك رصد مدى إيمان الناس بتكافؤ الفرص الاقتصادية، والأحقية في الممارسة السياسية والوصول إلى مناصب عليا في الدولة. فردات الفعل المنظمة أو غير المنظمة، وكل مظاهر الاحتجاج ليست غير دليل على وعي المجتمعات على تغلغل اللاعدالة داخل الأنظمة السياسية الحاكمة. 

الوعي بوجود اللاعدالة، جعلنا ننتقل مباشرة إلى البحث عن العدالة في مختلف المجالات، وأوّلها “العدالة الاجتماعية” محور الجلسة الثانية التي شملت ثلاث مداخلات. كانت الأولى بعنوان “تونس والعدالة الاجتماعيّة” وتركزت حول سياسات الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بمحطاتها السياسية الهامة، والتي كرست تنامي اللاعدالة وإقصاء عدة فئات من المجتمع من الدورة الانتاجية ممّا أدّى بها إلى مزيد من الفقر والبطالة والاحتقار الاجتماعي. تلك تقريبا هي نفس النقاط التي تطرقت لها المداخلة الثانية والتي كان تحت عنوان “العدالة الاجتماعية محور التنمية الجهوية“، مع التركيز خاصة على دور السلطة التنفيذية والتشريعية الحاسم والمحوري في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية في المناطق الداخلية خاصة أما المداخلة الأخيرة فلم تخرج عن محور الجلسة لكن مع التركيز على دور الشباب في تحقيق العدالة وانتظاراتها منها على عدة مستويات كما هو مبين من عنوان المداخلة: “تمثلات الشباب التونسي لسياسات العدالة الاجتماعية في تونس: اي ضمانات للحقوق الاقتصادية والاجتماعية؟“.

أما الجلسة الثالثة، فقد كانت تحت عنوان “العدالة في المنظومة القانونية والقضائية”، حيث تم التركيز على ارتسام العدالة داخل المدونة القانونية والقضائية من خلال ثلاث مداخلات، حيث حملت الاولى في طيتها البحث في “منظومة الإجراءات الجزائية وتحقيق العدالة” من خلال التركيز حول مدى سعي هذه المنظومة إلى تحقيق المعادلة بين التصدي للجريمة وضمان الحقوق والحريات، ومدى نجاحها خاصة في تحقيق العدالة الناجزة. أما المداخلة الثانية فكانت تحت عنوان “العدالة الدستورية في تونس بين الموجود والمنشود” حيث ركز الباحث حول الاشكالات القانونية والسياسية من جرّاء عدم إرساء المحكمة الدستورية. أمّا العدالة الانتقالية، فقد كانت محور المداخلة الثالثة التي حملت عنوان “العدالة الانتقالية في تونس: مسار منقوص أم أداة لتصفية حسابات سياسية؟“، وحاول من خلالها الباحث تبيان الانحرافات التي شهدتها العدالة الانتقالية جراء التجاذبات السياسية بين مختلف مكونات المشهد السياسي والذي جعل من مسارها غير مكتمل فلم تقد إلى تأسيس تونس الجديدة.

أما الجلسة الختامية من اليوم الثاني، فقد حملت في مختلف مداخلتها طابعا تربويا، كما يبين ذلك عنوانها: “العدالة في منظومة التربية والتعليم” التي شملت ثلاث مداخلات. انطلقت الأولى التي كانت تحت عنوان “تحليل استكشافي للتفاوتات المكانية بين الرجال والنساء من حيث معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة في تونس” من دراسة معدلات معرفة القراءة والكتابة بين الذكور والإناث في تونس مع استعمال التحليل تقنيات رسم الخرائط من أجل تحليل التفاوتات الجغرافية التي تكشف عن غياب العدالة في هذا المجال. أما المداخلة الثانية التي كانت تحت عنوان “مصعد معطل: العدالة الاجتماعية وأثرها على النظام التعليمي“، فقد حاولت من خلالها الباحثة التركيز على مواطن وتجليات اللامساواة داخل مؤسسات الدولة وسياستها ثقافية كانت أم تعليمية، والتركيز خاصة على النظام التعليمي كمثال على تكريس إعادة الإنتاج وعدم تكافؤ الفرص إذ لم يعد بذلك التعليم قناة من قنوات الصعود الاجتماعي. وركّزت المداخلة الختامية والتي كانت تحت عنوان “العدالة الاكاديمية في ظل براديغم الاعتراف؛ الدكاترة الباحثين المعطلين نموذجا” على وضعية الدكاترة الباحثين وتحليلها من زاوية العدالة. إذ حاول من خلالها الباحث تسليط الضوء على معاناة الدكاترة الباحثين داخل وخارج الوسط الأكاديمي وكفاحهم من أجل الاعتراف الأكاديمي منذ اندلاع الثورة، مع تركيزه على براديغم الاعتراف لدى الفيلسوف أكسيل هونث.

في اليوم الثالث، التأمت ثلاث جلسات. كانت الأولى تحت عنوان “التفاوت التنموي والاقتصادي ومحاولات معالجته” واشتملت على أربع مداخلات. البداية كانت مع مدخل تاريخي تحت عنوان “الجذور التاريخية للتفاوت في التنمية الجهوية” أبرز مواطن اختلال التوازن الإقليمي على مستوى العدالة التنموية وربطها بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وذلك في مختلف الحقب التاريخية، بداية بالعهد القرطاجي، مرورا بالعهد الروماني ومرحلة القطيعة في العصور الوسطى، وصولا إلى الحقبة الاستعمارية وبروز الاختلال بين الشمال والجنوب. هذا الاختلال جعل عدّة فئات تعيش حالة من الهشاشة والذي نجد ملامحه في المداخلة الثانية والتي كانت تحت عنوان “اللاّعدالة والهامش: غُبن مرّتين!” اقترح الباحث منظورا تجاوزيا لما سماه “سردية مسكنة الهامش” مصرّا على تحميله المسؤولية في هامشيته في مقابل عدم شيطنة المركز . ويبيّن “الغبن المضاعف” في حضور “خائب” للمركز أو حينما يكون “غائبا” كلية في أداء واجبه تجاه الهامش (المجالي). وهنا تتأكد ضرورة تعريف الهامش في علاقة (اشتباك) بالمركز. أما المداخلة الثالثة حول “الجباية التونسية: صعودِ طبقاتٍ وأُفولِ أخرى” فقد ركزت على الاجراءات التي تهتم بالضرائب ودورها في تعميق اللاعدالة والالتجاء للتهرب الضريبي، فالإنصاف الجبائي حسب الباحثة يمكن أن يحسن مستويات العيش لدى مختلف الفئات. أما المداخلة الأخيرة الموسومة بـ “المرسوم عدد 13 المؤرخ في 20 مارس 2022 المتعلق بالصلح الجزائي وتوظيف عائداته“، فقد حاول من خلالها الباحث الإجابة على تلاؤم هذا المرسوم مع منظومة العدالة في تونس، مرتكزا في ذلك على النقائص التي تتخلل مختلف فصوله ومع التركيز على الفصل السادس منه، والذي يعتبره الباحث يتعارض مع مبدأ التأويل الضيق ومع قوانين اخرى مثل قانون مكافحة الفساد وقانون تبييض الأموال.

أما الجلسة الثانية من اليوم الثالث الموسومة بـ “التعبيرات عن غياب العدالة”، فقد ضمّت مداخلتين. حملت الأولى عنوان “الصحافة الاستقصائية في تونس ودورها اليوم في إرساء العدالة“، باعتبار الدور المهم الذي تلعبه الصحافة الاستقصائية في كشف الفساد ومراقبة التجاوزات وتعزيز الشفافية، رغم العراقيل التي اعترضتها وأبرزها محاولات تكبيل حرية التعبير. أما المداخلة الثانية، فكانت ذات طابع فلسفي فني تحت عنوان “ارتسام اللاعدالة في الفنون المعاصرة في تونس“، حاولت من خلالها الباحثة الدفاع عن الصورة كفن من الفنون التي تحاول إيصال صوت المهمشين في المناطق الريفية وخصوصا التعبير عن الصعوبة التي يجدها التلاميذ الصغار للوصول إلى مقاعد الدراسة. 

اختتم اليوم الثالث بجلسة ثالثة تحت عنوان “من أوجه اللامساواة في تونس”، ظل فيها طابع التنوع جليّا في زاويا النظر إلى مفهوم العدالة. كانت البداية بمداخلة بعنوان “المرأة التونسية وفكرة العدالة من مجلة الأحوال الشخصية إلى اليوم” تصف مراحل كفاح المرأة التونسية ضد الظلم والاستبداد وضد التمييز بين الجنسين منذ الاستعمار إلى الان. وقد حاولت الباحثة تسليط الضوء على وضعية المرأة اليوم ومدى تعرضها لانتهاكات عدة من عنف واستغلال وتهميش والنظرة المجتمعية رغم المكاسب التشريعية وأبرزها مجلة الاحول الشخصية. أما المداخلة الثانية المعنونة “الجذور الاجتماعية لعدم المساواة في الصحة في تونس“، فقد انتقل بنا الباحث من خلالها إلى مفهوم العدالة في مجال الصحة معدّدا مظاهر ارتسام اللاعدالة داخل المنشآت الصحية ولعل ما عايشناه طيلة فترة جائحة كورونا خير دليل على ذلك. أثرى الباحث مداخلته بعدّة أرقام وإحصائيات مؤكّدا على ضرورة معالجة المحددات الاجتماعية للصحة باعتبارها امرًا ضروريًا لتحقيق الإنصاف في هذا المجال. أما المداخلة الاخيرة فكان محورها “الحركات الاجتماعية والعدالة البيئية“، وذلك بالتركيز على الوضعية الكارثية التي تشهدها ولاية قابس خاصة من خلال المضار الناتجة عن وجود المجمع الكيميائي بالجهة وانعكاساتها على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما نتجت عنه عدة تحركات اجتماعية مطالبة بالعيش الكريم والعدالة البيئية.

خاتمة

ربّما يشكّل غياب العدالة بكل أنواعها نقطة التقى حولها المشاركون من مختلف زاويا النظر الّتي اتّخذوها مدخلا لمعالجة هذه الإشكاليات. يجعلنا ذلك نتساءل حول دور الحكام في تحقيق العدالة داخل المجتمع وهو حاولت مداخلة في الجلسة الافتتاحية بعنوان “المُستبدّ العادل بين النّظريّة والتّطبيق” الإجابة عنه. فهل أن العدالة تستوجب صفات معيّنة لدى الحكام والطبقة السياسية لا يمكنهم في غيابها تحقيقها؟

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 29، أوت 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf29

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights