إلى أي مدى كان كانط فيلسوفا حديثا؟

بقلم: مريم مقعدي

كان كانط من فلاسفة العصر الحديث الأكثر عبقرية، وأكثرهم التزاما خاصة في فلسفته الأخلاقية التي ترفع دائما رهان “الواجب من أجل الواجب ” أو “الأخلاق كغاية في ذاتها”. قال عنه أحد طلابه إثر وفاته “كان موته مجرد توقفا عن الحياة، لا فعلا عنيفا للطبيعة”. تجعل فلسفة كانط الأخلاق متجردة وخالية من كل هدف نفعي براغماتي وبالتالي ترفع رهان الأخلاق باعتبارها غاية ذاتها. حتى السعادة أقصاها كانط من أن تكون الغاية القصوى للأخلاق. وإذا كان الفيلسوف اليوناني يعتبر “الخير الأسمى” أو السعادة هي الغاية القصوى من وجوده، ومسلمة متماهية مع كينونته، إلى الحد الذي لم يكن فيه قادرا على أن يكون حزينا تعيسا باعتبار أن الفلسفة هي الطريق الوحيدة المؤدية للسعادة (خاصة مع أرسطو)، فإنّ كانط عكس التقليد اليوناني، وأصبح يقدم نفسه بطريقة جردت مسالة السعادة من دورها المركزي، إلى الحد الذي بدا فيه وكأنه غير معنيا بمشكل السعادة . إذ يقول ” ليست الأخلاق بالمعنى الصحيح العلم الذي يعلمنا كيف نجعل أنفسنا سعداء، بل كيف علينا أن نجعل أنفسنا جديرين بالسعادة”. وعلينا أن نسأل هنا : لماذا كل هذا الصمت والتواري ( من وراء ) أمام مسالة السعادة بشكل خاص وأمام مشكل الأخلاق بشكل عام  ؟ لماذا يقدم كانط نفسه وكأنه غير معني بالسعادة، إلى الحد الذي جرد فيه الأخلاق من مسلماتها التي قام عليها كل التقليد اليوناني ؟

   إن القارئ لفلسفة كانط الأخلاقية بعين نقدية، سيجد أن تصوره للسعادة وللأخلاق بشكل عام قد ارتبط بنفس الأساس الذي يؤسس عليه إشكالية الدين ألا وهو فكرة ” الأمر القطعي”، إلا أنه في حالة الأخلاق أمر قطعي إنساني، أما في الدين فهو أمر قطعي إلهي. ماذا يمكن أن يحدث إذن عندما نضيف الدين إلى قلب التفكير الفلسفي والأخلاقي؟ عند ذلك إذن تدخل مسالة الرجاء، أي الرجاء في أن نحظى ذات يوم بالسعادة، بالقدر الذي كنا حريصين فيه على ألا نكون غير جديرين بها. وفي هذا الإطار يذهب فتحي المسكيني في كتابه “الكوجيتو المجروح” إلى اعتبار السعادة التي يتحدث عنها كانط “سعادة كئيبة ” لأنها مازالت تحت أفق الإله. وعندما تدخل الفلسفة في أفق الإله يصبح الفيلسوف غير ممكن.

 إن كانط بهذا المعنى لم يكن حديثا بالقدر التي نتصوره، وإنما كان بصدد الخروج من هيمنة الكنيسة في العصر الوسيط، لأنه لم يستطع التحرر من أفق الدين المسيحي، وفي المقابل كان مجرد امتداد له. وفي هذا الموضع يحق لنا أن نسأل مجددا: إلى أي مدى كان كانط فيلسوفا حديثا؟

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 28، جويلية 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf28

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights