قلق فرويد على الحضارة… هل هو سؤال راهن؟

بقلم: فهمي رمضاني

ما تعيشه البشرية راهنا من خيبات وويلات وحروب وفظائع نجد صداه في كتاب قصير صدر في ثلاثينات القرن الماضي لكنه لا يزال صالحا إلى اليوم ألا وهو كتاب “قلق في الحضارة” لعالم النفس النمساوي سيجموند فرويد ( 1856- 1939) وهو كتاب شهير طبّق فيه فرويد  نظريات علمية على الظواهر الحضارية المختلفة كالزواج واختراع الآلات وافتقاد السعادة ويعد هذا الكتاب تواصلا مع كتابه “مستقبل الوهم” الذي طبّق فيه نفس الخطة على الدين وتبرز في هذا العمل الروح النقدية الدقيقة لفرويد فهو يعيد النظر في كل بديهيات الحضارة متبعا منهج ديكارت الفلسفي في الشك.

 يؤكد فرويد في هذا الكتاب على أن الإنسان عدواني بطبيعته كما بدا فيه متشائما فيما يتعلق بمصير البشرية ووقف بوضوح ضد فكرة أن الانسان خيّر بطبيعته وأن المجتمع هو الذي يفسده. بل بالعكس رأى فرويد أن هذا الإنسان ومنذ بدايات التاريخ كان يولد بكمية من العنف وبغريزة حيوانية تجعل منه ذئبا لأخيه الإنسان.

يعتبر فرويد كذلك الإنسان من أكثر الكائنات الحاملة في داخلها لدوافع عدوانية وبواعث تدميرية ويستشهد في ذلك بالحرب العالمية الأولى التي كانت من أكثر الحروب المدمرة التي عرفتها البشرية إلى حد تلك اللحظة وقد شارك في تلك الحرب ولداه. ويبدو أن التاريخ لم يكذبه إذ سرعان ما اندلعت الحرب العالمية الثانية والتي ألحقت بالإنسانية دمار غير مسبوق فتهاوت عديد السرديات التي انبنى عليها التاريخ كفكرة التقدم والإيمان بالإنسان ويرى فرويد أن العكس قد حصل، حيث ظهرت النازية والفاشية وتحولت الاشتراكية إلى كابوس ستاليني وتحولت الرأسمالية التي وعدت بالرفاه إلى أزمة عالمية.

يحلل كذلك فرويد تطور الحضارة حيث اعتبر أن هذا التطور يرتكز على التخلي عن الدوافع الغريزية الفردية أو على تساميها والارتقاء بأهدافها بحيث تلعب دورا مهما في الحياة المتحضرة لكن الإنسان المعاصر يعيش عدة تمزقات فمن جهة تفرض علينا الحضارة التخلي عن غرائزنا والانا الأعلى يسيطر علينا ويقمع رغباتنا العدوانية. لذلك يشعر الإنسان المعاصر بنوع من القلق الدائم والشعور بالذنب ويعتبر فرويد أن الشعور بالذنب هو السبب الرئيسي لتطور الحضارة إذ يقول ” ما نسميه بحضارتنا هو الذي ينبغي أن نحمله بحد كبير تبعية بؤسنا ” فالسيطرة على الطبيعة ليست الشرط الوحيد للسعادة فقد جلبت لنا هذه السيطرة كل البؤس والدمار حسب فرويد.

لذلك يدعو فرويد إلى ضرورة أن تجند الحضارة كل ما في متناولها كي تحد من العدوانية البشرية وتعمل على تحقيق التوازن وتقلص من عقدة الشعور بالذنب.

يبقى هذا الكتاب نقدا للحضارة الإنسانية وإعلاء للمبدأ الفرويدي الذي يدعو ألا تعلو سلطة فوق سلطة العقل وذلك من خلال طرح السؤال: لماذا لا يحظى الانسان بالسعادة التي ينشدها مهما بلغه من كمال؟

 وعلى الرغم من أهمية ما تم طرحه من أفكار في هذا الكتاب فإن القراءة التي قدمها فرويد للحضارة الإنسانية بقيت خاضعة للتصور الفرويدي للتحليل النفسي ولم تخرج عنه لتستأنس بمقولات ورؤى أخرى، هذا بالإضافة إلى تركيزه على صراع الأنا الأعلى واللاوعي الدائم في تاريخ الحضارة ليؤكد في النهاية أن الحضارة ” لا تهذب ولا تمدن إلا من خلال تغذية القلق والشعور بالذنب” وهي قراءة إقصائية متأثرة بسياق ظرفية ما بين الحربين العالميتين ولا يمكن تعميمها على التاريخ الإنساني.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد27، جوان 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf27

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights