قراءة في رواية “تغريبة القافر”*: ثنائية الموت والحياة
|بقلم: عبير الكوكي
يأتينا زهران القاسمي في رواية “تغريبة القافر“ بأنباء القرى، أحاديثهم، شخصياتهم الفريدة، ويطلعنا على أسرارهم في مائتين وثمانية وعشرين صفحة عشنا خلالها رحلة القافر الذي أراد أن يحمّلها معنى الحياة التي تنطوي على الموت دائما.
في قرية منسية يسمّونها المسفاة، يولد طفل من رحم المعاناة لا يشبه كل الأطفال. تبدأ الرواية بتلازم بين ثنائية الموت والحياة. تغرق الأم في البئر لكن جنينها يقاوم وتسري فيه الحياة التي فارقتها الأمّ. تحدث هذه الحادثة الغريبة الصدمة في بداية الرواية وهي التي تشكّل السردية الروائية فكأن كل ما يدور في الرواية له ارتباط وثيق بحادثة البداية، يقودنا زهران القاسمي إلى خبايا بلدة المسفاة ويشاركنا أسرارها، ونبدأ مع بطله القافر سالم ابن عبد الله الرحلة، بولادة طفل مختلف في قرية نائية داخل مجتمع محلي منغلق على نفسه، طفل يسمع أصوات الطبيعة ويقتفي أثرها، أثر حفيف أوراق الشجر، صوت رفرفة الفراش، دبيب النمل، والصوت الذي تبعه صوت انهمار الماء في جوف الأرض، رمزية الحياة.
على امتداد أحداث الرواية يشق القافر طريقه محاولا الاندماج داخل مجتمعا لا يقبل الاختلاف، ما معنى أن تكون مختلفا داخل مجتمع قروي تسوده الأعراف والخرافات؟
حاول زهران الإجابة على هذا السؤال من خلال السردية التي طرحها. تتفشى الخرافة في الطبقات الفقيرة كوسيلة لتخفيف الآلام من خلال الأوهام وللتعبير غير الواعي عن العجز، ولغياب التصدي العقلاني لأزمات الحياة وهو ما نلاحظه في “تغريبة القافر”، لذلك اعتبروا أن ولادة طفل من جوف ميتة هو نذير شؤم وهو ما دفعهم لوصمه بـ”ولد الغريقة”. نكتشف الظلم الذي عاشه سالم الطفل المعجزة وسعيه لإثبات نفسه، وهو المرفوض الموصوم بالساحر والمجنون والمنبوذ من أقرانه المنفي في عزلته لا يؤنسه إلا صوت الهدير وأصوات الأكوان الأخرى وكأنه خارج عالم البشر. رحلة القافر لم تكن إلا بحثا عن المعنى لحياته التي صورها زهران في البداية خالية من كل شيء :من العاطفة من المال ومن السلطة. إنه الضعيف المهزوم العاجز. ثم يحوّل الجفاف القافر إلى الشخصية المنقذة وهو ما يجعله يعثر على المعنى. من خلال نجاحه في إنقاذ القرية، وقدرته الفريدة على تتبع أثر الماء واكتشاف “الفلج”، يتمكن من اكتساب لقب “القافر” وكأن زهران يريد أن ينتصر لبطله وكأنه يعوضه عن المرارة التي عاشها والسخرية والظلم والنبذ من خلا منحه قيمة كان مجردا منها. فالموهبة التي كانت سبب شقائه تغدو الان سبب تقدير الناس له. حول حكاية القافر تظهر العديد من الشخصيات التي تشبهه في منفاه: “الوعري” مثلا وغيره، كما تدخل العديد من القضايا في تشكيل بنية الأحداث: التلاعب بالدين، استغلال النفوذ، البلاد الجاحدة، وهو ما يتجلى في وصية أبيه عند انهيار سقف الفلج “باه بلادك ما بلاد، البلاد الي تاكل أموالك بلاد فاجرة، البلاد بو تستغلك وتاخذك تمرة وبعدين ترميك فلحة ما بلاد، باه سالم دور على بلاد غيرها، البلاد بو تنكر جميلك ما تستحق تعيش فيها ساعة”. ثم تعود الحكاية لتنتهي بذلك الصراع الثنائي بين الموت والحياة حتّى يولد المعنى والإنسان الأعلى، فالألم هو معيار الإنسانية وبمقدار قدرة الإنسان على التحمل تقاس انسانيته على رأي نيتشه.
*تغريبة القافر: رواية لزهران القاسمي، صادرة عن دار رشم للنشر والتوزيع في 2022
نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 25، أفريل 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf25