عيد المرأة الفلسطينية
|بقلم: سمية رطبي
يا لها من مفارقة غريبة تثير الحُمقَ والجنون ! ففي الوقت الذي تتواترُ فيه الاحتفالات السنوية بِعيدِ المرأة وترتفع الشعارات المنتصرة لحريتها وكرامتها والمساواة التي تنعم بها، تُقــتَـلُ آلافُ النساء بالموازاة مع ذلك بالقنابل، وتحت الأنقاض، وجوعا، ومرضا بسبب شروط الحرب التي لا وصف لها بالكلمات، والبنية الاجتماعية المختلّة حيثُ لا وجود إلا للمخيمات الغائصةِ في الوحل والمياهِ العكرةِ في فصل الشتاء والصقيع.
دعوني أهنئ نساءَ العالم في كل بقاع الأرض، وأهنئ المسؤولات منهن في مجلس الأمن الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، والمشتغلات في السياسة، بعيدهن الأممي السنوي، عيدٌ يتزامن مع مقتل عشرين ألفا وأكثر من نساء فلسطين. إنه لرقم مشرف ومرضٍ لنساء الشعب المحتل لأن يحتفلوا !
احتفلوا وتقاسموا أشهى الحلْويات، وتذوَّقوا ألذَّ المشروبات، وتبادلوا أبهى الهدياتِ، وارقصوا على أرقّ الأنغام، بينما النساء في غزةَ طعامهن “خبيزةً” ـ إن وُجِدتْ ـ يتجرعن العلقم، ويتبادلن التعازي المختلطة بالتهاني، وهن يرتعدن خوفا وتأهباً تحت القصف واستمرار العدوان.
فليحتفلُ العالم قاطبة بينما على أرض فيه، تتناثرُ جثث المقهورات والثكالى والمرضعات والصبايا اللواتي لم يشهدن من العيش سوى ما يسمح به الحصار والميزُ العنصريُّ الناجمان عن وضعية الاحتلال. ولْـيَـتَـرَنَّم هذا العالم المقسومُ بين ظالم طاغٍ ومظلوم طُمِست صورتُهُ، وكُتمت أصواتهُ خلف الجدران، حيث نساءٌ أسيرات معذباتٌ باكيات منتحبات.
أين قيم الكرامة والحرية إذن ؟ قيم الحب والإخاء؟ بل أين قيمة الحياة، قيمة العيش؟
لقد اندثرت قيم العالم القديم بهمجيته وبربريته ونمت قيم جديدة تعيد للإنسان حقه وكرامته، قيم تعطي للمرأة مكانتها التي تستحق في المجتمع… هذا ما جعلونا نعتقده بعد الحرب العالمية الثانية. وساهمت التقنية في ترسيخ وإثبات ما زُعِمَ؛ لكن كان يجب أن تمر أكثر من سبعة عقود لندرك أن هذه الشعارات زائفة واهية. إنها لا تفعل شيئا أكثر من تسليع المرأة وجعلها العملة السائدة في سوق التقنية الجديد. إنها مجرد قيم واهية تفصل فصلا عنصريا بين المرأة في الغرب والمرأة في الشرق. إنها قيم النفاق والتمييز العنصري الذي يسري على الرجال كما يسري على النساء.
إن هذه القيم الفردانية المتوحشة التي جعلت المرأة تحنط جسدها في الصور ووراء الاصباغ، لم يكن بمقدورها أن تتعرَّى إلا بعد السابع من أكتوبر حين كشفت المرأة الفلسطينية عن القيم الحقة التي كدنا ننساها لفرط التقليد.
فإذا كان وعي المرأة العربية قد استلب، كما استلب وعي الرجل العربي جراء القيم الكونية الزائفة التي تفرض نفسها فرضا من طرف مصانع الرأسمالية التي لا تهدأ، فذابت وتماهت مع رغبة لا تشبع في الاستهلاك، فإن قيم المرأة الفلسطينية الأصيلة ما تزال منتصبة بشموخها وتحدِّيها. تلك المنظومة الغنية النبيلة العصية على فهمنا، طويلةٌ متعرجة على أن ندركها دفعة واحدة، وما تزال نساءُ العربِ والعالم قاطبة بحاجة لأن تجلسن بتواضع من أجل أن يتتلمذن على يد هذه المربية الاستثنائية. إنها المرأة الملتصقةُ بأرضها، والغاصة بكلتا يديها في ترابها، لأنها تؤمن بأن هذا التراب هو حقها، ولا يستطيع أي كائن مهما عظمت قوته أن يفرقها عنها، فإما أن تعيش فيها بأمان، أو أن تلتحم أشلائُها بكائناتها العضوية تحتها بسلام أبدي.
أي قيمة أسمى من قيم حب الأرض التي تجعل الثكلى تعود للأنقاض، وتتعطر بالشمس فوق ركام بيتها الصغير؟ وأي قيمة أجلى من أن تمسك الفنانة الفلسطينية ما تبقى من فرشاتها، وما استطاعت الحصول عليه من طلاء، لترسم أفخم اللوحات على الجدران المتهدمة؟ إنها الطبيبة المحترفة التي تركض تحت القصف لتسعف مريضا يعاني، وهي كذلك تلك الصحفية المدثَّرُ صَدرها بدرعٍ واقٍ من الرصاص، مسلحةً بميكروفون ودفتر وقلم، مهمتها نقل ما يجري على أرضها من فظاعات، والتعريف بما يخوضُه شَعبُها من نضالٍ وما يطالَهُ من عدوان واضعةً نفسها أمام النيران التي لا تترَدَّدُ في استهدافها، أي امرأة غير المرأة الفلسطينيةِ تستطيع أن تفعل ذلك؟ إنهن نساء غزة الحوامل اللواتي يضعن وسط الخراب بين خيار الموت أو إعمار الأرض بالرجال.
فالمرأة الفلسطينية وحدها تتزوج وسط الركامِ والعويلِ منذرة بإعادة التشييد والبناء، وبانتصار غريزة الحياة، رغم عداء المعتدين، لأنها تؤمن بالمعنى المجرد للحب، الخالي من المظاهر الاجتماعية ومن الزيف المادي. هي وحدها تنثر البهجةَ والسرور في الأهالي المنكوبين، والأطفال العراة الجائعين وهي تزف لحبيبها في وطنها الذي ليس لديها وطن سواه. ففي فلسطين وحدها تولد المرأة امرأةً فتُصيِّرُها ظروف الاحتلال مُقَاوِمةً وأماً للشَّهيداتِ والشُّهداء.
فإن تهاوت قيمُ الرجلِ العربي وقيمُ المرأةِ العربية، ففلسطينُ ما تزال حاضرة لتذكرنا جميعا بأسمى قيم التضامن والتآزر والتضحية والحب، وأهم شيء معنى الوطن الذي لا يحلم مواطنوه بالتخلي عنه من أجل وطن آخر أفضل، بل إنهم ما فتأوا يبكون خشية فراقه، والنازحون في لبنان والأردن ما انتهوا من طلق الزفرات حالمين بالعودة إليه يوما.
وبعد، فهل يليق بالمرأة في العالم العربي والإسلامي أن تحتفل بعيد الحب ـ عيد القديس فالنتاين ـ وعيد المرأة وكل الترهات والقشور التي ترسخت في لاوعيها ووعيها المستلب؟
أما آن لها أن تثور من أجل المرأة مثلها، وأن تنتفض من أجل آلاف النساء اللواتي لَقينَ حتفهن في غزة بين ثكلى وأرملة ومُجهضة ويتيمة؟ ألا تتململ من وسائد الحرير ومضاجع القطن من الخليج إلى الخليج لتقول لا للقتل؟ ألا تتخلى عن شياكتها وإعجابها بنفسها وراء الكاميرات والعدسات، وتخلع كعبها العالي وتصرخ في لبنان والمغرب والأردن ومصر وكل البلاد العربية، لتقول لا للتطبيع لا لقتل المرأة الفلسطينية؟ ألا تتنحنح المرأة العربية وراء الميكروفونات لتدين القتل وتَدعُ كل الحرائر للتنديد؟
إنني لا أخاطب الرجل الآن الذي تخلى عن أفكاره الجمة، وغيبت وعيه ألافُ المنومات حتى بدت له العروبة شعارا فارغا ورأى شأن غزة وما جاورها أمر يخص السياسة، وهو لا يفقه في السياسة إذ هو مشغول بتفاهاته التي لا حدود لها، بل أخاطب وجدان المرأةِ المثقفةِ ذات الإحساس المُرهفِ بإنسانية المرأةِ مثلها أن تخلق معادلة أخرى في الشارع العربي، أن تكسب رهانا آخر من رهاناتها، فتخرج وتندد في مناسبة أو دون مناسبة بالتعسف الذي يطال المرأة الفلسطينية، وغيرها من النساء.
نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 35، صيف 2024.
للاطّلاع على كامل العدد: tiny.cc/hourouf35