كيف يكون المعرّى دافئا كلّ هذا الدّفء؟ نكتب شيئا من آني إرنو
|بقلم: زهرة القاضي
يقول مبارك مرابط في مقدّمة “مذكّرات فتاة” الذي ترجمه ” اختارت آني إرنو في كتاباتها الإبداعيّة التّخييل الذاتيّ”. وللقارئ أن يتساءل حول إمكان عقد علاقة بين مصطلح رئيس هو الإبداع وبين جنس مخصوص هو “التّخييل الذاتيّ” خاصّة إذا تمثّلنا ما يقوله أحد النقّاد:” كلّ رائعة أدبيّة تخرق قانون جنس مقرّر”
إنّ التّحديد الأجناسيّ لمشروع آني أرنو يحدّد أفق انتظار القارئ. فهل يجد القارئ نفسه متماهيا مع هذا التّحديد؟ كيف يخرق المنجز الإبداعيّ تحديدات المنجز النّظريّ؟
أؤمن أنّ إثارة مثل هذه الإشكاليّات يكون أهمّ من الأجوبة أحيانا. من البديهيّ أنه لا يمكن تخطّي استعدادات المتلقّي القرائيّة. القارئ في السّيرة مدفوع إلى حقيقة ما حصل للآخرين وهو في الرّواية يستعدّ للتّماهي مع تجربة خياليّة ويقف مع التّخييل الذاتيّ حائرا بين المرجعيّة التي يؤمّنها الاسم العلم المحيل إلى المؤلّف وما يسكن النصّ نفسه من مواطن تشكيك في هذه المرجعيّة. توظّف آني أرنو في كتابها “مذكّرات فتاة” ضمير الغائب “هي” لتحيل إلى نفسها طفلة في المخيّم وتوظّف كذلك ضمير المتكلّم لتحيل إلى نفسها في هذا الزّمن/ زمن الكتابة. دائما ما تطرح الكاتبة زمنين زمن الكتابة وهو الزّمن الحاضر وزمن التّذكّر وهو زمن الماضي، هذا الماضي بتشقّقاته وجروحه وآلامه التي خلّفتها فيها. فيبقى القارئ متأرجحا بين زمنين، ضميرين، شخصيّتين، شخصيّة حاضرة وشخصيّة غائبة. إن تغب الشخصيّة الحاضرة تحضر الشّخصيّة المغيّبة الغائبة، وإن تغب الشّخصيّة الغابرة الماضية، تحضر الشّخصيّة الحالّة في زمن التذكّر. فيبدو مشروع آني إرنو شظايا حضور وشظايا غياب.
أوّل ما يمكن طرحه هنا لم هذا التّوظيف لضمير الغائب؟ لم هذه المراوحة بين ضمير الغائب وضمير المتكلّم؟ أهي تكنّي عن الأزمنة بالضّمائر أم إنّها تعي استحالة التطابق بين صورتها في الماضي وصورتها في الحاضر؟ وتبقى فرضيّة أخرى رهن التساؤل وهي ذات مدار أجناسيّ أساسا. أتعي الكاتبة أنّه لا سبيل مهما حرصت على التّوثيق أن تطابق بين الذات الورقيّة والذّات المرجعيّة؟ أهي تدرك ما قيل من أنّ المؤلّف يتخلّص من سماته المرجعيّة حالما يدخل عالم الكتابة.؟
معظم النقّاد وصفوا لغة الكاتبة بأنّها زجاجيّة وباردة خالية من التفنّن الأسلوبيّ والزّخرف أمّا أنا فأصف لغتها بالدّفء العميم العاري من كلّ تكلّف واصطناع. نجد ما يسمّى عند آني إرنو بمغامرة اللغة. إنّه انتقال من “لغة المغامرة” إلى “مغامرة اللغة”. لا شكّ أنّ كتابها الحدث قد عبّر عن مغامرة الإجهاض وكتابها مذكّرات فتاة قد عبّر عن مغامرة التّجارب الجنسيّة الأولى وكتابها المكان قد عبّر عن مغامرة الغوص على الأب ملامحه وأحواله وأفعاله. كلّ ذاك قد صيغ بلغة متفرّدة صادقة تشعر القارئ بما يشعر به الكاتب. أقول دائما الشّاعر الحقيقيّ هو ما يشعر بما لا يشعر به غيره لكنّه يشعر القارئ بما يشعر به. تلك هي المفارقة الطّريفة التي تعقد فتؤنس.
لا ننكر حرص إرنو المفرط على التّوثيق. إنّها تذكر الشّهر والسّنة واليوم. تأخذ بأيدينا وتتسلّل بنا إلى غرفة جدّتها التي يتسلّل الضّوء من نافذتها عبر الثّقوب المستطيلة. تقول في مؤّلفها “المكان”: “غرفة محرومة من الهواء يدخلها ضوء ضئيل عبر فتحات مستطيلة ليست أوسع ممّا بين قضبان زنزانة”.
كلّ شيء قد خزّن في الذّاكرة فصارت الذّاكرة معين إرنو الأول التي تستفيد منه لتصيّره أدبا. تطمئننا الكاتبة أنها تسرد ما حصل فعلا. لكنّ حدس قارئ فطن قد يقول: ألا يمكن أن يكون كلّ هذا الحرص على التّوثيق إيهاما وتمويها وتظليلا؟
توظّف آني إرنو مصطلح ذاكرة بشدّة. إنّها تلاحق ذاكرتها لترتق تلك الثّغرة. هذه الثّغرة التي تمنح التّطابق التام بين المرجعيّ والأدبيّ. فلو كان العمل توثيقيّا صرفا لما كان إبداعيا. النصّ مصيره أن ينتج الحياة وما الحياة إلا دفق من الإبداع. وها إنّي سأستعير مصطلح روسو لأقول إنّ لغة إرنو هي لغة جديدة. هي لغة التعرّي والتشظّي. لغة الخرق والانكشاف. فكيف يكون المعرّى دافئا كلّ هذا الدّفء؟
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد23، فيفري 2023
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf23