قراءة في كتاب “ولادة الإله: التوراة والمؤرخ” لجون بوتيرو
|بقلم: فهمي رمضاني
يعتبر جون بوتيرو من أوائل علماء تاريخ الأديان الذين اهتموا ببلاد الرافدين خاصة وبالشرق القديم عامة وقد درس اللغات القديمة للشرق كالفينيقية والأشورية كما قام بعدة حفريات أركيولوجية توصل من خلالها إلى كوننا لا يمكننا فهم التوراة بدون العودة إلى الفضاء السامي وإلى الميثولوجيا البابلية وهو ما نجده في كتابه الذي صدر منذ سنة 1986 والموسوم بـ “ولادة الاله: التوراة والمؤرخ “، وهو لا يزال مرجعا مهما إلى اليوم.
يبحث جون بوتيرو في هذا الكتاب عن تاريخ اليهودية والكتاب المقدس متتبعا مسار الفكر الديني التوراتي من مراحله الأولى إلى تبلور المخيال التوحيدي. ويعترف في البداية بأن التوراة ليست إلا صورة مصغرة من ملحمة جلجامش البابلية نظرا لتأثر بلاد كنعان القديمة ثقافيا وحضاريا ببلاد الرافدين فانتقلت الميثيولوجيا الدينية الرافدية إلى النص التوراتي الذي اعتبره بوتيرو في معظمه غير تاريخي لأنه لا يصمد أمام معاول النقد التاريخي الصارم حيث يتعارض مع ما أثبتته الحفريات الأثرية.
ينتقل المؤلف فيما بعد لتتبع تاريخ اليهودية منذ نشأتها إلى تبلورها كدين، حيث يعرض بدايات الشعب اليهودي في التاريخ كقبائل عبرية بدوية تتمايز عن الشعوب الأخرى بخصائص معينة. بيد أن هذا الشعب لم يكن أبدا شعبا عملاقا على حد تعبير بوتيرو مثل الشعوب المجاورة له كالبابليين والأشوريين والمصريين، فهو شعب اعتمد على الحياة الرعوية البدوية ولم ينتج حضارة.
كانت أولى القبائل العبرية متواجدة حسب المؤلف في جنوب بلاد كنعان على مقربة من صحراء النقب حيث سيدفعهم الجفاف وشظف العيش نحو الهجرة والترحال الدائم ومنها الانتقال نحو مصر. خلال هذه المرحلة التي يسميها بوتيرو “بالموسوية” نسبة لموسى، سيتبلور تحالف موسى مع يهوه اله اليهود الذي يسمى بعدة تسميات كيهوه وأدوناي (بمعنى السيد) وألوهيم وإيل. يتمثل هذا التحالف في إعلان الاله يهوه ما يسمى بالوعد أي وعد هذه الجماعة اليهودية الصغيرة بإخراجها من مصر حيث كانت مستعبدة و شعب وإعطائه الأرض التي تفيض لبنا وعسلا كهدية، في مقابل ذلك يلتزم هذا الشعب بطاعة يهوه وتنفيذ تعاليمه.
كان لابد لهذا الشعب المضطهد في مصر من عبقري حسب تعبير بوتيرو ليخلصه من عبوديته فكان موسى وحلفه مع يهوه وهو “مشروع سياسي سيتم بإيحاء ديني وباسم إله جديد”. مثّلت هذه اللحظة الانتقالية مرحلة مهمة في تاريخ اليهودية لأنها ستعلن عن ولادة فكرة العهد أو الميثاق الذي سيتم من خلاله اختيار هذا الشعب كشعب مختار ومقدس ستكون له أرضا هبة من الاله يهوه.
ومع وفاة موسى في حوالي 1250 ق.م حسب الكاتب يكون قد جعل هذا النبي من شعب إسرائيل أمة “كبيرة وعظيمة” وعدها الاله بأرض ببلاد كنعان غير معلومة الحدود الجغرافية. ومع يوشع ثم مع داود فيما بعد سيتحصل هذا الشعب على الأرض الموعودة وسيتم الانتقال من حياة البداوة إلى الحياة الحضرية.
يمثل عصرا داود وسليمان فترة ازدهار ووحدة سياسية ولكن الانحدار سيبدأ مع الانقسامات السياسية من خلال ظهور مملكتين: مملكة إسرائيل في الشمال ومملكة يهوذا في الجنوب، وقد تزامن ذلك مع ظهور البابليين كقوة قادمة من الشرق والتي ستنجح في مهاجمة الممالك اليهودية وإسقاطها. هنا ستكون مرحلة أخرى مهمة في تاريخ اليهودية وهي ما يعرف بالسبي البابلي والتي ستكون منعرجا مهما في التأريخ التوراتي.
يشير المؤلف إلى أن السياق التاريخي الذي تم فيه السبي تميز بتفكك الإمبراطورية الأشورية وبروز البابليين كقوة جديدة في الشرق القديم حيث استطاعوا بالتحالف مع الفرس تدمير العاصمة آشور ونينوى. إثر ذلك، سيطر البابليون على بلاد الرافدين واستطاع الملك الكلداني نبوخذ نصر إخضاع أغلب الممالك ومنهم مملكة يهوذا التي انتقلت من تحت سيادة أشور وأصبحت تحت سيادة بابل.
وقد قام نبوخذ نصر بعدة عمليات عسكرية على مملكة يهوذا حيث سباها أربع مرات متتالية في غضون عشرين عاما وقام الجيش البابلي بتدمير أورشليم سنة 586 قبل الميلاد. وعمد البابليون إلى توطين اليهود الذين سبوهم في مدينة بابل ونيبور وفي أماكن شديدة الخصوبة. وقد سمح البابليون لليهود بممارسة شعائرهم الدينية التي طوروها في السبي كما أنهم نجحوا في الانخراط في ممارسة الأنشطة الزراعية والتجارية والاستفادة من التطور الحضاري في بابل من ثقافة وآداب لكن عانى اليهود حسب بوتيرو من نظرة الشعوب العنصرية لهم باعتبارهم شعوب مهزومة، الأمر الذي أدى إلى تنكر بعض اليهود لديانته وولادة أزمة دينية يهودية. وهو ما جعل الكهنة اليهود يشعرون بقلق شديد تجاه ذوبان الذات والأنا اليهودية في بوتقة الحضارة البابلية الرافدية.
ويمكن القول أن الأسر البابلي كان مرحلة مفصلية في تشكل اليهودية حيث أصبحت الجاليات اليهودية أكثر تقوقعا على نفسها وعلى معتقداتها وحاول اليهود التصدي للكره العميق للشعوب التي اضطهدتهم من خلال الاعتزاز بمعتقداتهم وتراثهم والشروع في تأسيس هوية إثنية متميزة خاصة بهم. وقام بهذا الدور أنبياؤهم مثل حزقيال وإرميا.
حينما احتل الملك الفارسي قورش بابل سمح لليهود بإمكانية العودة إلى أوطانهم، لكن فضّل بعضهم البقاء وشكلوا مجموعات مثّلت أولى الجاليات اليهودية في العالم. ويرى بوتيرو أن هذه المجموعات التي قررت البقاء كانت مسكونة ومنشغلة بالوطن الروحي أورشليم وبالرب وهو ما تجسده بعض النصوص:
“على أنهار بابل
هناك جلسنا فبكينا
عندما تذكرنا صهيون”
انتابت اليهود في تلك الفترة حيرة دينية عميقة نجمت عن الخراب الذي حل بهم وهم شعب الله المختار متساءلين عن سبب هذه المحنة متطلعين لإجابات تفسر لهم هذا العذاب وقد كانت الإجابة عند الأنبياء القدامى والتي تكمن في ضرورة الايمان بعظمة يهوه وبعدالته الإلهية وهو ما أدى إلى عودة الأمل بمستقبل أفضل للتحضير له على الوجه الأفضل.
يعرض المؤلف في الفصول المتبقية من الكتاب نصوصا توراتية تتعلق بنشأة الكون من المنظور اللاهوتي ورواية الخطيئة الأولى مبرزا تأثر هذه النصوص بالميثيولوجيا البابلية وخاصة محلحمة جلجامش.
يعتبر كتاب جون بوتيرو من أهم الكتب التي حاولت إعادة قراءة تاريخ اليهودية قراءة نقدية تستأنس بالمستجدات الأركيولوجية لكن المؤلف لم يقارن بين إسرائيل التوراتية وإسرائيل التاريخية إذ يكتفي فقط بنقد خفيف للنصوص التوراتية دون أن يبين اختلافها العميق مع الأحداث التاريخية. زد إلى ذلك، فإن بوتيرو قد تمسك بالمقاربة التاريخية فقط ولم يستند مثلا إلى المقاربة الألسنية لبيان تطور الأفكار والمفاهيم الدينية اليهودية فهل يمكن مثلا الحديث عن يهودية قبل موسى؟ وكيف تطورت التسميات من عبري إلى يهودي؟ وهل حافظ هذا الشعب عبر التاريخ على نقائه العرقي أم أنه اختلط بالشعوب المحلية في بلاد كنعان وتأثر بهم ثقافيا وحضاريا؟
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد23، فيفري 2023
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf23