الاحتجاج كشكل جمالي في الفضاء العمومي
|بقلم: هيبة مسعودي
إنّ البحث في العلاقة المستجدّة بين الفنّ والسياسة والاحتجاجات وتمثّلها في ضروب من الجمالية التي وجب البحث في أسسها ورسائلها تدعونا إلى الاشتغال على مفهوم ثالث الذي يُعدّ الإطار الأوسع لاحتضان كل منهما. فالتفكير في التواشج العلائقي بين الفنّ والسياسة يمرّ حتما عبر الفضاء العمومي كمفهوم حديث نسبيا، أثار قريحة الباحثين من علماء اجتماع وفلاسفة وعلماء نفس والاستطيقا وغيرهم، فهو حديث من جهة المفهمة conceptuellement ، لكنه لا أحد باستطاعته نفي وجوده الفعلي منذ ظهور الحالات الأولى لأشكال الانتظام المدني وبروز التفكير في الحياة السياسية. فالمدينة الدولة في أثينا مثلا كانت ثاوية على فضاء عمومي المتمثل آنذاك في الساحة العامة ا(لأغورا Agora) باعتبارها مكانا مشتركا وعاما لا يستثني أحدا من الحوارات في الشأن العام كتعبير على الديمقراطية السياسية. وههنا يكون تساؤلنا كيف تطوّر الفضاء العمومي في علاقة بالفنّ والسياسة؟ وهل البحث في الاحتجاج كشكل جمالي اليوم يضعنا ضمن الفضاء العمومي البرجوازي الهابرماسي أم ضمن الفضاء العمومي المعارض؟ وكيف يمكن لنا تأوّل الاحتجاجات الشبابية قبل 25 جويلية في تونس ضمن هذا المبحث الجامع للسياسة والفنّ وعلم الاجتماع؟
ثمة مسلمة يجب البدء منها، إنّ الفضاء العمومي كماهية مكانية إطارية، ينفتح على الجميع دون استثناءات أو اقصاءات مسبقة، يرتبط أساسا بالنظام سياسي بعينه، النظام الديمقراطي. ولمّا كانت الديمقراطية لا تستقر على حال، تشهد تغيرات وتحولات مفهومية وعملية سياسية، فإنّه على الفضاء العمومي تتبع هذا النسق، فلكل حقبة تاريخية ديمقراطيتها، ديمقراطية أثينا لا تشبه ديمقراطية جون جاك روسو، وعليه فإنّ الفضاء العمومي الأثيني لا يشبه الفضاء العمومي لهابرماس أو نانسي فريزر أو لأسكار نيغت. أمّا المشترك بين السياسة والاستطيقا، فقد اشتغل عليه الفيلسوف الفرنسي جاك رنسيار منذ 2000. عودة إلى أثينا والفلسفة الأفلاطونية، يرى رنسيار أنّ الأغورا مثّلت أوّل تجسد لما يُعرف اليومي بالفضاء العمومي ويعيش الأثيني داخله شكل من الاقتسام للفضاء بين السياسي والشاعر أو الخطيب. وحسبه أنّ هذا الفضاء “فضاء مشترك(مأهول) بموهبة الخطاب العمومي[1]” فالأمر حسبه لا يتعلق بتسيس الإستطيقا ولا أستطقة السياسة. فكيف نفهم هذا المشترك؟ وماهي فاعلية الفنّ داخل هذا الفضاء؟
الفضاء العمومي والمشترك بين الاستطيقا والسياسة
استيضاحا للمشترك في المحسوس بين الاستطيقا والسياسة، سعى جاك رنسيار إلى تفكيك هذا الاقتسام والتوزيع للمكان كاتبا “يحدّد توزيع المحسوس إذن مشتركا موزّعا وأنصبة حصريّة في آن واحد.” [2] ممّا يُحيل إلى إعادة رسم جغرافية الأمكنة والتوسيع في دائرة المشترك داخلها ليغدو الفضاء العمومي وجهة حيوية لمجالات متداخلة، أمّا المتلقي فهو الذي يرتشف من كل المجالات في تلقائية الفضاء المنفتح على حيثيات العبور وتفاصيله. إنّ أشكال الفنون المعاصرة في معترك الفضاء العمومي بشوارعه وجدرانه، وأزقته وحدائقه، قد لامست المشترك في المحسوس لتخوض في نوع من الالتحام الذي مزّق ستار الهوّة الفاصلة بين الفنّ والسياسة وألغى المسافات الفاصلة بين العمل الفنّي وواقعه. هذا الالتحام تجاوز للاستيطيقا المنغلقة على ذاتها داخل الفضاء الفنّي المعزول ليكون الفنّ المعاصر تأسيسا “لإستطيقا الانفتاح” التي ترنو إلى البحث عن المشترك في كل تجلياته وهو ما يمكّنها من النمو على شكل جذمور أو ريزيوم حسب عبارة جيل دولوز.
ها هنا، يكون الفنّ في الفضاء العمومي قد أعلن عن سقوط أصنام الوساطة سواء كانت ماديّة مكانيّة أو بشريّة لأنّ المتلقي يحظى بثّقة الواقع والحقيقة الجماليّة المتجسّدة على الجدار، أو في طرقات ومساحات الفضاء العمومي، أو في ممرّ دون وصاية وسائطيّة أو تقاسيم مكانيّة بعينها. إنّ الوقائع الفنيّة تتجه مباشرة إلى المتلقي دونما أيّة وسائط أو بروتكولات مزيّفة قد تشوّه القيم الفنيّة لتخلق تواشج غير مسبوق بين الوقائع الفنيّة المعاصرة وواقعها في أدّق تفاصيله، تواشج فيه التحام بين الواقع الزماني- المكاني والواقع الإستيطيقي، رفضا لكل فصل للفنّ عن واقعه أو فصل للحظة الإبداع الفنّي عن المتلقي. فالمتلقي قد يتحوّل ههنا في لحظة ما إلى عنصر من عناصر الأثر الفنّي كما هو الحال في فنّ الحدث .
المشترك في المحسوس ونشوء الديمقراطية الاستطيقية
ثمّة مع تحقق المشترك بين الفنّي والسياسي، تحقّق لضرب من ضروب الديمقراطيات، ليست سياسية في شيء ولا تحيلنا على أنظمة الحكم وإحراجاتها، إنّها الديمقراطيّة الإستطيقيّة وما ترنو إليه من تحقيق للعدل في تلقي الوقائع الفنيّة إسقاطا لعولبة الفنّ وبيعه للأثرياء المالكين لثمن عرض ما أو قيمة تذكرة لمعرض تشكيلي بورجوازي. فالجداريات والغرافيتي وفنون الشوارع تُسقط عن المتلقي كل أشكال التكاليف المادية النقدية لتمنحه مجانية الفنّ وديمقراطية تلقيه بعدما أصبح في متناول حيّز الإدراك البصري المشترك لجميع الناس.
فأصبحنا نعايش ديمقراطيّة فنيّة فيها الفنّ ملك للجميع يستقبلك من كل صوْب، أينّما ولّيت وجهك في الفضاء العمومي أو عدّلت بوصلة العبور في الحدائق كفنّ الأرض[3] land artوالتنصيبPerfermance . إنّها فنون”الفضاء المشترك”، والديمقراطية الاستطيقية وقد ساهمت في تعديل جغرافيّة مكانية فنية كانت حكرا على الأماكن الرسميّة من قاعات عرض ومسارح، فالوقائع الفنيّة ليست ملكا لأحد أو حكرا على أحد، فقط هي رهينة لتفاصيل العبور والمشترك المروري. ويظل الفضاء العمومي مركزا بصريا قادرا على استقطاب كل الفئات الاجتماعية والاختلافات الذوقيّة التي تجمعها الساحة الثقافيّة عموما.
إنّ فنّ الغرافيتي والكتابة على الجدران كمثال للتعابير الفنيّة الشبابية التي اخترقت الجدران العمومية في تونس لا يتطلبان من إستيطيقا التلقي غير البصر والرؤية، فهما ضربان من ضروب احتلال مرمى الإدراك البصري المشترك محوّلين بذلك الشوارع إلى ورشات إبداعية قوامها الانفتاح، فهي الورشة دون جدران، لأن الجدران لم تبقَ على هذا الاسم، بل تحوّلت إلى محامل فنيّة للديمقراطيّة الإستطيقيّة المعاصرة. إنّ الجدار لم يعد هذا العازل والفاصل بين الفضاءات، بل غدا نوافذ تُفتح على الفنّ المعمّم للوجود والديمقراطيّة الإستيطيقية فنعود بذلك إلى قول جاك رنسيار حول تشكّل المشترك بقوله”يقوم هذا التوزيع للأنصبة وللمواضع على اقتسام للفضاءات، للأزمنة ولأشكال النشاطات التي تحدّد الطريقة التي يُفتح بها المشترك مجالا للاشتراك يكون فيها لهؤلاء ولغيرهم نصيب من هذا التوزيع”[4]
وهكذا نستخلص أنّ الديمقراطيّة الفنية تؤثثها حيثيات العبور ومساواة المرور، ففي ذاك الفضاء العبوري يلتحم الفنّ المعاصر بالديمقراطية الثقافيّة لنشهد أن الفنّ في الشارع أو الفضاء العمومي تمرّد على هذا الاغتيال الممنهج للحرية الإبداعية وللمباشراتيّة في الخلق والتلقي بأن اُلغيت كل وساطة بين العمل الفني وجمهوره ليكون المتلقي في حضرة العمل الفني وربّما عنصرا من عناصر العرض. فهل إيجاد مشترك بين الفنّي والسياسي يبقى في حدود الاقتسام أم قد يتحوّل الفنّ إلى حمّال لدلالات سياسية؟
الوقائع الفنيّة والاشتباك مع السياسي
كتب مارك جيمنيز في الجمالية المعاصرة الاتجاهات والرهانات، وفي معرض تعريفه للفنّ المعاصر ومهمته “يصلح الفنّ المعاصر للصدام والمواجهة[5]” متخليا بذلك عن كل الافتتان والاعجاب المعبّر عن “المتعة الحقيرة” على حدّ عبارة أدرنو فيها يبتعد الفنّ عن واقعه ويتواطؤ ضد الحقيقة، إنّ الفنّ اليوم ينقلب ضد هذه السياسة لينخرط في مسار مغاير، أمّا الفضاء العمومي فاعتبره أوسكار نيغت Oskar Neget تلميذ أدرنو صاحب نظرية جماليات القبح، في تصوّر أكثر حداثة، فضاء معارضا أو فضاء عموميا بروليتاريا، ضدا لفضاء هابرماس البرجوازي “من منطلق أنّ البرجوازية لم تكن وحدها من ساهم بشكل كبير وأساسي في نشأة الفضاء العمومي خاصة في واقع أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر[6]” ههنا نلاحظ ضربا من التنشيط لمفهوم الفضاء العمومي داخل مدرسة فرانكفورت نفسها بين هابرماس والجيل الذي تلاه من الجيل الثاني والثالث، أوسكار نيغت في معرض حديثه عن الفضاء العمومي المعارض يدعو إلى ضرورة “إبداع فضاء عمومي مناسب والذي يمثل حدثا أساسيا، لأنّ لا أحد يستطيع الخروج من الدائرة المغلقة للوضعية الراهنة بالاعتماد على قواه الذاتية. [7]” فنيغت يحوّل المقاومة من المهمة الذاتية إلى الفضاء العمومي المعارض لا بوصفه مكانا للمشترك بين الفنّ والسياسة حال رنسيار وإنّما يجعله مكانا لتحسس الأزمات ومقاومة الانحرافات لأنّ “ما يعتمل داخل الفضاء العمومي البرجوازي، ليست له أيّة علاقة بأشكال المقاومة المباشرة ضد الأزمة الاجتماعية البنيوية، باعتبار أن هذا الفضاء العمومي”الرسمي” يكرر خطاب ورمزيات النظام الاقتصادي.” ههنا نتساءل ما قيمة الفنّ داخل هذا الفضاء المعاصر؟
الفنّ في الفضاء العمومي المعارض
دوّن عمر العلوي في كتابه التفكير والحدود…دراسة في استيطيقا المقاومة ” تأتي المقاومة من الأسفل وتتوزّع استراتيجيّا لتعاصر السلطة وتحايثها. فليست المقاومة صورة معكوسة للسلطة، بل هي مبتكرة ومتحركة ومنتجة، كما أنّها تنتظم كالسلطة، فتتخثر وتترسخ[9]” ههنا تتولد المقاومة داخل الفنّ في حدّ ذاته، الفنّ كشكل من أشكال الفضح للفنّ الذي إختار مهمة التسكين والتكتم للفظائع التي يعيشها الإنسان المعاصر. ههنا كان لابُدّ من انبثاق براديغم فنّي يخالف سياسة الهروب ويتخذ من المواجهة، مواجهة الواقع بقبحه وفظاعته خيارا أساسيا وبالنسبة لأوسكار نيغت “تأسيس فضاء عمومي خالص هو أحد العناصر المحددة للمقاومة ولتنظيم الخيارات[10]” والفنّ قد يكون أحد مكونات هذا الفضاء المعاصر، فضاء على قدر هام من الخطورة في تعارض تام مع السلطة وخياراتها يحرك ويتحرك ويغضب ضد المرحلة
” من البديهي أنّ النقابات، تُمثّل دائما منظمات ضخمة وإطارا مهما، يستطيع هذا الفضاء العمومي المعارض أن ينمو داخلها، من خلال تمثيل فئات اجتماعية مثل الأساتذة، الطلبة وآخرين[11].”
إنّ فيلسوف جماليات القبح، أدرنو قد دوّن في نظرية استطيقية “إنّ لا إنسانية الفنّ ينبغي أنّ تزايد على لا إنسانية العالم، وذلك بإسم ماهو إنساني.” [12] فكيف انبنت هذه الاستراتيجيات للمقاومة داخل الفضاء العمومي في الاحتجاجات؟
الفضاء العمومي وتمازج الجمالي بالاحتجاجي
هذه النظريات الإستطيقية المعاصرة، ليست في معزل عن واقع الفنون المعاصرة وليست كما يتصوّرها البعض غربية لا تلتقي مع واقعنا اليوم، بل أثبت الفضاء العمومي العربي أنّ للتعبيرات الشبابية خاصة الاحتجاجية منها دلالتها القويّة كشكل من أشكال المقاومة في معناها السياسي مثلما قد تمثّلها ميشال فوكو، وحسبه أنه ثمّة علاقة محايثة بين المقاومة والسلطة أي أنّ المقاومة لا تكون إلا معاصرة للسلطة بمعنى نفي كل ضروب القبلية والبعدية. فالمقاومة والسلطة لا يصيران إلا على خط من التوازي لذلك يكتب ميشال فوكو” ليست ثمّة من أسبقية منطقية أو كرونولوجية للمقاومة[13]“ والفنّ في هذه الوضعية الحرجة لامناص له إلا اختراع طرق لمقاومة واقعه السياسي المتردي والتعبير عن مواقف صارمة من حالات الارباك والتذبذب في آليات الحكم، ففي تونس كان الفضاء العمومي محمّلا بالرسائل الاحتجاجية قبل الثورة وبعدها لتتجمّل الفضاءات العمومية بمطالب سياسية وشعارات للمظاهرات الاحتجاجية الشعبية في كل الشوارع الرئيسية للمدن والولايات.
غير أنّه وفي خضم الحراك الاجتماعي بعد الثورة عامّة وفي 2021 خاصة، بدأ الفضاء العمومي يمثّل ثقلا خانقا للحكومات التي حاولت مصادرة حق التظاهر بتعلّات واهية منها انتشار الكوفيد والموجات الوبائية المتلاحقة، ونحن نعلم أنّ السياسي يريد بسط نفوذه على الفضاء العمومي محوا لكل مشترك بينه وبين الجمالي خاصة أنّ الاحتجاجات جعلت من فنون الفضاء العمومي من خطابة وشعر وغرافيتي وفنّ أداء ومشهديات وخاصة الفوتوغرافيا التي أتقنت خلق فضاء إلكتروني عمومي مشترك منخرطة في عمق حفظ اللحظات الواخزة للاإنسانية العنف. فثمة بنكتوم قوي في الفوتوغرافيا على حدّ عبارة رولان بارط في كتابه الغرفة المظلمة حيث يكتب حول هذا المفهوم الفوتوغرافي“توجد الكلمة في اللاتينية لكي تشير إلى هذا الجرح، هذه الوخزة، هذه العلامة التي أحدثتها آلة مدببة… [14]“ وفنون الفضاء العمومي حفظت هذه الوخزة في حاضر المحتجين وذاكرتهم. فلا شيء يحفظه الفنّ المعاصر في الفضاء العمومي يستطيع تزييفه.
ههنا يتشابك الكل في شيء من شدّ العضد حتى بات من الاستحالة الفصل بين الشعارات المطلبية والرسائل الفنيّة لتتكثّف عندنا قناعة أن الاحتجاج فن والفنّ المعاصر ينسلخ عن ماهيته إذ لم يكن احتجاجا وصداما ومواجهة، هكذا لا يكون الإبداع إلا ثوريا والإبداع الحقيقي يتفجّر من الغضب والعصيان وهذا ما تعلمناه من نيتشه القائل على لسان زرادشت” لا تميل نفسي إلا إلى ما كتبه الإنسان بقطرات دمه… أكتب بدمك فتعلم حينئذ أن الدم روح” والشباب المحتج في تلك الآونة وثّق الكتابة بالدّم في معناها الإبداعي لكن بطريقة جمالية كانت غائبة في ما قبل ذلك، إنّها احتجاجات شبابية ماراطونية في جانفي وفيفري 2021 جسّدت ماهية المقاومة بالفنّ بعد قرار غلق شارع لحبيب بورقيبة أمام المتظاهرين تشتيتا لأصواتهم وتمييعا لمطالبهم.
كانت البداية بأن غزت الألوان الشوارع والأمكنة في مسيرة أواخر شهر جانفي” مقاومة مقاومة، لا صلح ولا مساومة” رافقتها سكب لألوان متباينة من أنواع الطلاء مؤكدين أن الاحتجاج عليه أن يكون واقعة فنية جمالية، لأنّ الاحتجاج بالنسبة لهؤلاء الشباب إمكانية من إمكانات الفرح يرافق استطاعتهم ولو يوما واحد استعادة حقهم في التعبير عن رفضهم لتراجع منسوب الديمقراطية في وطن كان رهان ثورته “شغل حرية كرامة وطنية”.
لقد تمّ تأكيد ضرب من استطيقا المقاومة والاحتجاج حيث أنّ لحادثة الألوان في شارع لحبيب بورقيبة نقلة نوعية في أشكال الاحتجاج لتتحوّل المظاهرة في حدّ ذاتها إلى واقعة فنيّة تتلوّن فيها الأجساد والملابس والأرضية وحتى النصب التذكارية والجدران لم تسلم من ذلك. رُبّ تعميم جمالي كأنّ الألوان تحدث لها نظرية فيض أيضا فتصبغ كل المحيط بها وخاصة الذين يمارسون القمع، أليست الألوان في مثل هذه المناسبة قد جعلت من الاحتجاج محملا تطرز فوقه لوحتها التشكيلية المتدفقة رفضا للجمالية الجامدة؟ أو أنّ الاحتجاجات صارت مناسبة للابداع الفنّي؟
هكذا كانت بداية الالتحام بين الوقائع الفنية وأشكال الاحتجاجات والملفت في هذه المسيرات أنّه ثمّة تسلّح بالأقنعة الفنية والأزياء المسرحية، تجد مهرجا ما عاد قادرا على الاضحاك بل أصبحت مهمته الهتاف والإدلاء باستحالة الضحك في ظل حكومات تصادر حقّك في التعبير ، غير أنّه يجب هنا الإشارة إلى أنّ الإكسسوارات الفنية سواء كانت شعرا مستعارا أو أقنعة أو ملابس قد ساهمت في مرحلة الاشتباك أو الاختلاق أو المواجهة مع السلطة في التضليل فوحده الفنّ يمتلك اقتدار الهروب من المراقبة الصارمة لأنّه كما يكتب عمر العلوي ” ثمّة معركة أساسية ستدور رحاها بين أشكال المراقبة والمحاولات المتعددة للإفلات، أي بين بنية صارمة وفعل مقاوم، أو بين سلطة القولبة ولاشكلية المادة[15]“ وكأنّما الشباب المحتج قد تيقّن بوجوب اختراع مشهدية احتجاجية مغايرة تمثله وتوصل للسلطة القمعية أنّنا إزاء جيل جديد لا ترهبه الأساليب التقليدية المهترئة وله من قدرة اختراع حرية رمزية يفترعها من الفنّ ولوقائع الفنية.
خاتمة
لا تُعد الوقائع الفنيّة المعاصرة في منأى عن واقع شديد الخفقان لا يستقر على حال، بل حاولت اختراق الفضاء العمومي لتنخرط بكل ثقلها الجمالي والدلالي في عمق معترك قائم على المقاومة في مستويات عدّة، منها مقاومة مأسسة وتبضيع الفنّ حتى لا يغدو مجرد سلعة تتقاذفها الأسواق الرأسمالية ومحاربة كل أشكال استغلاله كأفيون لطمس الحقائق. ههنا ينبعث الفنّ ليلتحم بالقضايا السياسية والأشكال الاحتجاجية مؤسسا لفنّ يصلح للمقاومة والتمرد ويفتح إمكانيات عميقة على أن يحدث تمازج يستحيل معه الفصل بين الوقائع الفنية والاحتجاجات خاصة منها الشبابية لتُدشن استطيقا الاحتجاج والمقاومة.
الهوامش
- رنسيار، الاشتراك في المحسوس، الاستيطيقا والسياسة، مصدر مذكور سابقا، ص483.
- المصدر نفسه، ص482.
- حركة فنيّة ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الستينات من القرن العشرين، قامت على تصوير المناظر الطبيعية وابتعدت عن المدن. واعتبرت أنّ العمل الفنّي غير قابل للاقتناء والتسويق.
- رنسيار، الاشتراك في المحسوس، الاستيطيقا والسياسة، مصدر مذكور سابقا، ص482.
- مارك جيمنيز، الجمالية المعاصرة الاتجاهات والرهانات، ترجمة كمال بومنير، بيروت، الرباط، الجزائر، منشورات ضفاف، دار الأمان،منشوراتالاختلاف،الطبعة الأولى،2012، ص103.
- رشيد العلوي، “الفضاء العمومي المعارض: نقد أطروحة هابرماس”، مؤمنون بلا حدود،2016.
- أوسكار نيغت، الفضاء العمومي المعارض اليوم، ترجمة محمد العربي العياري، مجلة حكمة،17/05/2022.
- المصدر نفسه.
- عمر العلوي، التفكير والحدود…دراسة في استيطيقا المقاومة، المصدر مذكور سابقا، ص291.
- أوسار نيغت، الفضاء العمومي المعارض اليوم، مذكور سابقا
- المصدر نفسه.
- أدرنو، نظرية استطيقية، ترجمة ناجي العونلي، بيروت، دار الجمل،2017، ص178.
- عمر العلوي، التفكير والحدود…دراسة في استيطيقا المقاومة، مصدر مذكور سابقا، ص294.
- رولان بارت، الغرفة المضيئة، (تأملات في الفوتوغرافيا)، ترجمة هالة نمّر، بيروت، المركز القومي للترجمة، 2010 ص29.
- عمر العلوي، التفكير والحدود…دراسة في استيطيقا المقاومة، مصدر مذكور سابقا،، ص296.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 21، أكتوبر 2022
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf21