الخبر عن مولد حبيب وتسميته وقومه وشيء ممّا حدث سنة ميلاده
|بقلم: حمزة عمر
كان ميلاده يوم خميس، لأربع عشر بقين من رمضان، بقرية يقال لها عين الهنيدة على مسيرة سبعة أيّام من ترشيش، وهي بلد ذو نخيل وعيون جارية يشتغل أغلب أهله بالزراعة والتجارة.
والهنيديون على قلّة عددهم ورقّة حالهم أهل عصبية ونخوة وبأس وشدّة. وقد انتقل كثير منهم إلى ترشيش في أعوام المسغبة فسكنوا حيّا بها يقال له الحيّ الأخضر فغلبوا عليه. وقد اشتغل معظمهم بميناء المدينة لمّا كان بنو عكر يحكمون البلاد فسادوا في العمل هناك، على شدّته، وأصبح لهم شأن وأيّ شأن. فكانوا إذا غضبوا لأمر من الأمور وامتنعوا عن العمل أيّاما، تعطّل الشغل في الميناء بالجملة، وذلك لأمرين: أوّلهما أنّ من الأشغال ما لم يكن يقوم به غيرهم، وثانيهما أنّه لم يكن هناك من جماعة الميناء من لا يخاف بطشهم وسرعة انتقامهم. فلم يكن يتمّ هناك أمر إلّا إذا رضوا.
وكان أحدهم إذا خوصم في أمر في سوق المدينة فاشتدّ عليه صاحبه، صاح: يا لعين الهنيدة! فيجتمع إليه من أهلها ممّن يعرفه ولا يعرفه من ينصره ظالما أو مظلوما دون أن يعرف عن سبب الخصومة شيئا، فيكثر الشجار وقد يُجرح بعض أهل السوق أو ينهب من متاعهم شيء فيضيقون بهم ذرعا. وقد حدّثنا من لا نتّهم أنّه لم يكن هناك بالسوق عسس حتّى كثرت خصومات الهنيديين بها فكاد السوق يتعطّل في بعض الأيّام. فحينها وظّف صاحب الشرطة من حرسه من يسيرون في السوق طول الوقت حتّى يضبطوا أموره ولا يتركوا شجارا يحتدم.
وممّا يروى عن عصبيّة الهنيديين أنّ أحدهم واسمه حامد أودع المخيّس، وهو السجن الّذي بناه بطرس العكري بجوار باب المغرب، في دين وكان هزيلا لا قوّة له، فاستخفّ به المساجين وأكثروا في مضايقته والتعدّي عليه حتّى كاد يهلك. وظلّ صابرا ينتظر الفرج حتّى أتاه من حيث لا يحتسب. فقد كان جالسا في زاوية يأكل كسرة خبز لمّا نشب شجار بين عملاقين أمامه، فظهر أحدهما وكان يدعى محمّدا الأسود على الآخر ظهورا بيّنا حتّى شجّ رأسه وأدمى شفته. ثمّ نظر إليه هازئا وقال: خذها وأنا ابن عين الهنيدة. فما كان من حامد إلّا أن أسرع إليه فقبّل رأسه وقال: جُعلت فداك، أنا ابن بلدتك. فسأله عن أهله ونسبه، فانتسب فعرفه. فقام محمّد الأسود في السجن صائحا: ألا أنّ حامدا صاحبي وابن عمّي فليعرف الجميع قدره. فلم يتعرّض إليه أحد بسوء بعدها، بل صار يشفّع عند الأسود وتحمل إليه اللطائف والهدايا حتّى جمع منها ما قضى به دينه. فلمّا همّ بمغادرة الحبس ودّع صاحبه قائلا: كثّركم الله، يا أهل عين الهنيدة، حتّى في المخيّس. فأرسلها مثلا.
والهنيديون، على بأسهم، أبعد الناس عن الظرف وحسن الخطاب، بل هم أسوأ الناس جوابا.
واسمه في أشهر الأقوال: حبيب، وزعم بعضهم: خُبيب. وذاك بعيد، لا سيّما والعهد لم يطل به ومازالت الناس تروي أخباره ولا أظنّ ذلك إلّا من تصحيف بعض النسّاخ جرى على أفواه بعض من لم تبلغهم أخباره عن طريق الرواية. ويكنّى: أبا الزهراء وكانت كنيته إليه أثيرة. غير أنّه كان يتكنّى وقت الحرب بأبي الحارث. ويروى في تسميته أن قد أراد بعض أهله أن يسمّيه حبيبا وبعضهم معاذا وبعضهم غير ذلك، فاختلفوا. فقالت خالته: هلمّوا نكتب الأسماء جميعا على رقاع وننظر على أيّها تقع يده. ففعلوا وحملوها إليه في مهده، فوقعت يده على الرقعة التي تحمل اسم حبيب. فقال الملأ: قد والله اختار. وكان بذلك يفتخر لمّا أسنّ ويقول: أنا من اخترت اسمي، لم يختره لي أحد.
ويقال أنّه لمّا ولد، حمله جدّه فطاف به أرجاء القرية وهو يرتجز:
ولد فينا سيّد شمردل
أتى بعزّنا فلسنا نخذل
إنّ الغد الوضّاء فيه يؤمل
وكان مولده في سنة شهباء يقال له “سنة الغارة”، وذلك أنّ الحبيب بن عليّ، صاحب ترشيش، وكان شيخا كبيرا عركته السنون مضى عليه زهاء ثلاثين سنة وهو مالك لرقاب أهلها، كان قد أجار قوما من شعب الجبّارين وأسكنهم مكانا بجنوب المدينة يقال له “الحمّام”، فعدا عليهم جمع من بني إسحاق غدرا وغيلة ففتكوا بهم فتكا ذريعا وقتلوا معهم بعض رعيّة ابن علي، فغضب لذلك، ودعا رسول قيصر، وكان له صديقا، فقال له، وهو يرفع إصبعه في وجهه مهدّدا : بلغني أنّكم مالأتم بني إسحاق حتّى فعلوا ما فعلوه، على ما تعلمون من يدي إليكم. وايم الله لئن لم تنتهوا لأخرجنّكم فلا يعود لكم بهذه البلاد ذكر وبعثت إلى صاحب الراية الحمراء فحالفته عليكم ولننظر حينها أيّكما غالب صاحبه. فبلغنا أنّ رسول قيصر كان يرتعد فرقا. وبلغ الأمر قيصر فأرسل إلى الحبيب بن عليّ فاسترضاه وبذل له من الأموال والنفائس حتّى رضي. ولم تكن لترشيش أجناد تقيها سوى لطف الله. قال حبيب: قد أخبرتني أمّي أن كانت الأرض تهتزّ لمقدم بني إسحاق حتّى ظُن الزلزال، وأنا ابن أربعة أشهر يومئذ.
أمّا أهله فهم بنو المختار بن حمدان، وكان المختار سيّدا شريفا مطاعا في قريته. وقد اختلف في شأنهم النسّابة، فقال ابن الكلبيّ: هم من نسل حمدان بن حمدون بن الحارث، من صليبة بني تغلب ملوك الشام. وقال ابن هشام: بل هم من بني عديّ بن كعب رهط عمر بن الخطّاب، فالله أعلم بحقيقة ذلك، وإن كان قول ابن الكلبيّ أرجح عندنا إذ لم تُعرف لبني عديّ بن كعب هجرة إلى هذه البلاد إلّا إن كان بعضهم قدم دون أهله مع أخلاط من القرشيين، وأكثرهم من بني هاشم، فاستوطن بها وتزوّج من أهلها فكثروا بعدها.
وأبوه: هانئ بن مُحمّد بن عمرو بن المختار بن حمدان. كان من فرسان عين الهُنيدة المذكورين وكان على ميسرتهم يوم الشمّاخ، وهو يوم لهم على أجوارهم من قرية الرفيد. وسببه عين ماء كانت بين البلدتين تنازعها القوم، والماء هناك شحيح غال. فركب أهل عين الهُنيدة، ورئيسهم عبد الحميد بن عثمان الحُسيني، وركب أهل الرفيد، ورئيسهم طارق بن الليث الرقمي، فالتقوا بالشمّاخ واشتدّ بينهم القتال حتّى رأى هانئ بن محمّد ثغرة في نظام الرفيدين، فسار برجاله والتفّ على جيشهم من جهة الغرب وقطع عنهم المدد القادم، فوقعوا في حيص بيص، وما لبثوا أن ألقوا السّلم وظفر الهنيديون وصار لهانئ بينهم أطيب الذكر. وكانت تلك آخر المعارك بين البلدتين قبل ستّ سنوات من ميلاد حبيب. والحرب بينهما قديمة، لا يكاد يذكر مبدأها أحد من القوم، وانتهى الأمر بصلح أبرمه شيوخ القريتين على أنّ الشمّاخ آخر أرض عين الهنيدة وينتهي عند وادي الملح، أمّا ما يليه فهو من أرض الرفيد. واتّفق القوم أن يكون بعضهم لبعض ظهيرا متى حارب إحدى القريتين عدوّ قادم من الخارج. وقد أبرم هذا الصلح بدار الطاهر بن علي الرحيبي وكان شريفا مقدّما في البلدتين، ذاك أنّ أباه هُنيديّ وأمّه رفيديّة. ولقّبه البعض بعظيم القريتين، غير أنّه كان يستعيذ من هذه التسمية.
وكان هانئ بن محمّد يقول الشعر، غير أنّه كان مقلّا. وأكثر ما يُذكر عنه أرجاز له وقت الحرب. فمن ذلك قوله يوم الشمّاخ:
ولدت للحرب وللمعالي
فأبشروا في يومكم بالوبال
إنّا إذا نقدم بالعـــوالي
تسقط رعبا قمم الجبــال
وكان صاحب خيل كثيرة، لم تعرف العرب لها مثيلا. جمع بإسطبل داره عشرة أفراس كانت فريدة عصرها. على أنّ أشهرها كان كحيلا، ويقول نسّابة الخيل أنّه من نسل داحس فرس قيس بن زهير، وهو أشهر من أن يذكر. وكان فرسا أدهم، وعلى عظم جثّته، لم يكن يلحق، وقد دخل فيما لا يعدّ من السباقات، ولم يخسر منها أحدا حتى صار المثل يضرب فيه فيقال “أسبق من كحيل”.
وكانت أشهر سباقاته في بلاد الروم. فقد كان هانئ كثير الترحال هناك للتجارة. وصل يوما إلى سوق فرمانية، فأسرج كحيلا قرب أحد أبوابها، فاجتمع عليه الناس يشاهدونه ويعجبون منه. وكان منهم شخص يقال له يوحنا، فلمّا رأى افتتان الناس، قال: لا يغرنّكم ما ترون من مظهره، إن هو إلّا حصان من بلاد العرب، لا يعرف إلّا الشيح والقيصوم، فكيف يباري خيولنا وهي تأكل من العلف أحسنه ولها من الساسة أمهرهم؟ فضحك هانئ وقال: ما ظننت أحدا في الدنيا يشكّ في فضل خيولنا على خيول بقيّة الخلق. وهاهو كحيل أمامك، فأجره مع ما شئت من خيولكم، ولننظر لأيّها يكون السبق. قال بطرس: فإنّ لي فرسا يقال له كاتب لم يُسبق قطّ. فتواعدا على السباق بعد أسبوعين، على أن يكون للرابح جواد الخاسر.
والتقى هانئ ويوحنا بميدان بضواحي فرمانية وحضر السباق جمع عظيم. وكان كاتب جوادا أبلق من خيل الصقالبة الّتي يربّونها في السهول الكبرى غرب البلاد. فلمّا انطلق الفَرَسان، بدا على كحيل تثاقل لم يُعهد منه قطّ حتّى وقف بعد زمان قصير، ذلك أنّ يوحنا كان قد احتال فدسّ من وضع بشرابه ما يثقله ويخدّر أعضاءه. فأسرع هانئ إلى الحلبة ليرى ما شأنه. ولمّا شاهد حاله، علم أنّ ذلك لم يكن إلّا لدسيسة، فغضب ولم يعلم ما العمل وكاتب قد تقدّم تقدّما بيّنا. غير أنّه كان مع هانئ أخوه سُهيل، وكان ممّن لا يُبلغ شأوه في أمور الخيل إذ قضّى شطرا من صباه وشبابه مع بدو هوازن فأخذ عنهم ذلك. أشار سهيل أن يُطعم كحيل حبّات قهوة يمنية ممزوجة بالهال والزعتر، فسارعوا في ذلك. فقام كحيل وكأنّما أنشط من عقال، فأخذ يطوي الأرض طيّا. وكان كاتب قد تجاوزه بنصف ميل، فلحقه والسباق يوشك على النهاية ثمّ سبقه قبلها بخطوات. فهلّل الناس وكبّر من كان هناك من آل المختار وبقي يوحنا واجما وقد علت وجهه البغتة. ثمّ أقبل على هانئ يفتدي كاتبا، حتّى بلغ مائة ألف دينار، إلّا أنّ هانئا أبى وقال: قد علمتُ ما كان من احتيالك، ولولا ذلك لوهبت لك فرسك راضيا مرضيّا، لكنّي الآن لا يرضيني منك إلّا أن تسلّمني إيّاه كما تعاهدنا وكما شهد الشهود. فسلّمه يوحنا صاغرا. فقاد هانئ كاتبا إلى وسط الميدان واستلّ مدية فنحره، وصاح في الناس: هلمّوا المأدبة. فلمّا رأى يوحنا ذلك خرّ مغشيّا عليه، ولم يلبث إلّا بضعة أيّام ثمّ مات كمدا.
نشر هذا النصّ في مجلّة حروف حرّة، العدد 16، جوان 2022، ص. ص. 14-15.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf16.tounesaf.org