نقائض البيتلز: في التهاجي بين بول مكارتني وجون لينون
|بقلم: حمزة عمر
النقائض لغة جمع نقيضة، وهي في الشعر القصيدة ينقض بها الشاعر ما قاله شاعر آخر وعادة ما يكون ذلك على نفس الوزن والقافية. ولعلّ أشهر أمثلة النقائض في التراث العربي تهاجي جرير والفرزدق الّذي استمرّ عقودا، وملأ مئات الصفحات.
غير أنّ هذه النقائض لم تكن قطعا خصوصية ثقافية عربية، إذ نجد لها نظائر في عدّة ثقافات وعدّة عصور. وما ظاهرة “الكلاش” بين مؤدّي الراب في فترتنا الحالية إلّا مثال معاصر على ذلك، ناهيك عن الأنماط الموسيقية الأخرى كالروك والبوب وهما نمطان كان البيتلز من أبرز ممثليهما في فترة الستّينات قبل انفصال المجموعة، واتّخاذ أعضائها الأربعة لمسارات منفصلة.
لم يمرّ هذا الانفصال دون صعوبات. لئن كان بول مكارتني هو من أبرزه إلى العلن عند إصدار ألبومه المنفرد “مكارتني” في أفريل 1970، فقد كان حاصلا بالفعل منذ سبتمبر 1969 عندما أعلم جون لينون رفاقه بمغادرته المجموعة. سبقت ذلك مغادرة رينغو ستار في 1968 وجورج هاريسون في جانفي 1969 وهما وإن كانتا مغادرتين وقتيتين (إذ لم تدوما أكثر من بضعة أيّام)، فإنّهما عبّرتا عن حجم التوتّر المتراكم في المجموعة على مرّ السنوات.
تبع هذا الانفصال صراع مرير في المحاكم، إذ رفع مكارتني قضيّة ضد رفاقه القدامى للتصريح بحلّ البيتلز بصفة قانونية، وهو ما أثار حفيظتهم ضدّه مع تبادلهم للتهم حول المسؤول عن الانفصال. في ديسمبر 1970، أجرى جون لينون حوارا مع مجلّة رولينغ ستون صرّح فيه أنّ البيتلز أسطورة وهو لم يعد يؤمن بالأساطير زاعما أنّ هيمنة مكارتني كانت أهمّ عوامل الانفصال. في المقابل، كانت هناك رؤية شائعة مفادها أنّ يوكو أونو، زوجة لينون الثانية، هي من عكّرت صفو الفريق دافعة إيّاه نحو مصيره المحتوم، ولم يأل مكارتني جهدا في التعريض بالثنائي، حتّى أنّه قام بشراء صفحة كاملة في إحدى الصحف نشر فيها صورته مع زوجته ليندا وهما يرتديان كالمهرّجين وملفوفين في أكياس، في تعريض بمصطلح Bagism (المشتق من لفظ Bag) الّذي روّج له لينون وزوجته في مهاجمتهما للثقافة السطحية.
في أوت 1971، أصدر بول مكارتني أغنيته “الكثير من الناس” (Too many people). ولئن لم تحو الأغنية إشارات واضحة حول المقصود منها، فإنّ سياقها العام كان لا يدع مجالا للشكّ في أنّها موجّهة إلى جون لينون. يمكن اعتبار كلمات الأغنية في مجملها تعدادا لأخطاء لينون إذ تتكرّر عبارة “كان هذا خطأك الأوّل” ونجد قرب النهاية عبارة “كان هذا خطأك الأخير”. لا ترجع هذه الأخطاء إلى شخص المُخاطَب، بل إلى أولئك الّذين أحاطوا به محاولين الحصول على “قطعة من الكعكة” دافعين إيّاه إلى كسر “تميمة حظّه”. ولعلّ أوضح مقطع يشير إلى يوكو قوله “الكثير من الجوعى يفقدون وزنهم”، إذ يبدو أنّها كانت صرّحت للصحافة أنّها كانت بصدد اتّباع حمية غذائية.
يختلط في الأغنية التأسي بالهجاء. ففي الحقيقة، يوحي مكارتني أنّه يأسى لحال صديقه السابق ويحاول نصحه كي ينتبه إلى ما يغرق فيه. كما أنّه ينتقد ميوله الوعظية في وقت نصّب فيه الزوجان لينون نفسيهما كداعيتين للسلام العالمي. إلّا أنّ الأغنية لا تخلو من بعض الاضطراب، فإن كان سياق الاغنية موّجها إلى شخص بعينه، فإنّه لا يبدو أنّ الضمير في عبارة ” الكثير من الناس يبشّرون بالممارسات، لا تدعهم يخبرونك بما تريد أن تكون” يعود على لينون، بل على أفراد جمهوره. كما أنّ الانتقال إلى التغني بالحبّ المعثور عليه في العبارات الختامية لا يخلو من إبهام. فالشائع أنّ المقصودة بذلك هي ليندا مكارتني (وهي تشارك بول في أداء هذه الأغنية)، ولكن ما معنى الإشارة إليها في سياق الأغنية، وكأنّ علاقتها ببول عوّضت علاقته بلينون؟ قد يكون ذلك من باب المفاضلة بين علاقة كلّ منهما بزوجته.
مهما يكن من أمر، فقد لقيت هذه الأغنية عموما قبولا حسنا عند النقّاد، إذ أشاد فنسنت بيريز بينيتيز بتناسقها على نحو يذكّر بأغنية مكارتني Maybe I’m amazed، وصنّفتها رولينغ ستون كثالث أفضل أغانيه في مرحلة ما بعد البيتلز.
لم يتأخّر الردّ كثيرا. بعد شهر تقريبا، أصدر جون لينون اسطوانته “تخيّل” (Imagine) التي احتوت على أغنية عنوانها “كيف تنام؟” (How do you sleep). لم يلجأ المغني الإنجليزي إلى التعريض، بل هاجم رفيقه السابق بشكل مباشر وحاد منتقدا لا فقط قدراته الموسيقية، بل كذلك جوانب شخصيّة من حياته.
تبدأ الأغنية بلغط في الخلفية يذكّر ببداية أغنية “فرقة الرقيب بيبر للقلوب الوحيدة” وهي مفتتح الألبوم الأيقونة الذّي يحمل نفس الاسم والّذي أصدره البيتلز سنة 1967. ويتأكّد هذا الرابط من خلال العبارة الافتتاحية “إذن أخذك الرقيب بيبر على حين غرّة”. يسخر لينون من هجوم مكارتني عليه “الخطأ الوحيد الّذي ارتكبته كان في رأسك” ويرجعه إلى المحيطين بمكارتني (ولعلّ المقصود تحديدا زوجته ليندا) الّذين يقولون له انّه “كان ملكا”. لا يرى لينون داعيا لنجاح مكارتني سوى وسامته وهو ما لن يدوم “سوى عام أو اثنين”، وذلك رغم ضعفه الموسيقي الفادح في نظره إذ يخاطبه قائلا “الصوت الّذي تصدره هو ميوزاك [بمعنى أنّه ليس موسيقى حقيقية] في أذنيّ” ويضيف بنبرة فيها الكثير من التعالي “كان يجب ان تتعلّم شيئا في كلّ هذه السنوات”، محيلا بذلك إلى دوره التاريخي كمؤسس للبيتلز و”زعيم” للفريق خصوصا في السنوات الأولى. كما يؤكّد بشكل تهكّمي أنّ شائعة موت مكارتني (وكانت قد سرت منذ 1967) صحيحة وكأنّه كفنّان انتهى تماما مع البيتلز.
يثبت لينون في هذه الأغنية براعته كأحد أهمّ كتّاب الأغاني في جيله. إنّ عبارة مثل “الشيء الوحيد الّذي فعلته كان أمس، وبعد أن رحلت، لست سوى يوم آخر” التي تتضمّن تلاعبا مميّزا بالألفاظ بين “أمس” (وهو عنوان أغنية كتبها مكارتني مع البيتلز في أوجهم) و”يوم آخر” (أغنية كتبها مكارتني منفردا منذ مدّة قصيرة)، لتكفي لوحدها لتنقض هجاء مكارتني. أمّا من الناحية الموسيقية، تتميّز الأغنية بنسق بطيء عموما يميل إلى الرتابة على نحو يذكّر بأغاني الريغي، مع تصاعد لافت للنغمات مع اللازمة. كما أنّ استعمال الكمنجات أضاف توشية موسيقية تخرج عن المعتاد من بساطة في التوزيع في معظم أغاني لينون، ولعلّه أراد أن يثبت تفوّقه الموسيقي من خلال مثل هذا الاجتهاد ليكسر الرؤية التي تجعل من مكارتني الأعلم بالموسيقى في الفريق القديم.
تتضمّن الأغنية كذلك عزفا منفردا على الغيتار أمّنه جورج هاريسون. ولعلّ انضمامه إلى لينون في معركته ضدّ رفيقهما السابق يمنح الأغنية زخما أكبر. كان رينغو ستار هو العضو الوحيد في البيتلز الّذي لم يدخل في هذه المعركة، ويبدو أنّه حضر إلى إحدى جلسات التسجيل وأبدى انزعاجه من حدّة الكلمات.
لو شئنا أن نفاضل بين الأغنيتين، لجزمنا أنّ أغنية لينون هي الأبلغ هجاء. وفي الحقيقة، يثبت لينون أنّه كلّما وُخز بشكل شخصي، يتدفّق إبداعا (وهو ما نلحظه مع أغنيات كـ”جوليا” و”الله” و”الأم”) على الرغم من الطابع المباشر لمعظم الكلمات. بيد أنّه، وكما أشار بعض النقّاد، رغم تميّز أغنيته موسيقيا، فإنّه لا يمكن أن تُذكر إلّا لحدّة كلماتها، وهو ما يجعلها قصيرة العمر إلى حدّ كبير، حتّى أنّه من غير الممكن أن تفهم بعد زمانها. في حين أنّ أغنية مكارتني كان فيها من العمومية ما يمكّنها من أن تعيش بعد تلك الفترة، وذلك يدخل في باب إتقان الصنعة عند صاحبها الّذي أعاد إصدارها في نسخة آلاتية في 1977 في ألبوم “ثريلنغتون”.
لم يتطوّر التهاجي بعد ذلك، ولم يتحوّل فنّانا البيتلز إلى نظيري الفرزدق وجرير. على العكس من ذلك، تراجع كلاهما عن المواجهة. في أواخر سنة 1971، وفي الألبوم الأوّل لمجموعة “وينغز”، غنّى بول مكارتني “صديقي العزيز” الّتي اعتبرت بمثابة عرض سلام. وفيما بعد، قلّل من أهمية بعض كلمات أغنيته معتبرا إيّاها “غير ضارة بالمرّة”، بل أنّه حتّى “برّأ” يوكو من انفصال البيتلز. أمّا جون لينون، فأكّد في حوار تلفزي انّ مكارتني لم يشعر بالإساءة من أغنيته، وشدّد على ضرورة أن يقع التطرّق إليها فقط كعمل موسيقي. وسرعان ما طويت صفحة النقائض الموسيقية، إحدى صفحات العلاقة شديدة التعقيد بين الثنائي اللدود لينون/مكارتني.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 16، جوان 2022، ص. ص. 12-13.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf16.tounesaf.org