الصومال…” الدولة” التي لا تُحكَم؟
|بقلم: أنيس عكروتي
التاريخ: يوم الثالث من أكتوبر من سنة 1993
المكان: العاصمة الصومالية مقديشو
يومها مُنيت نخبة القوات الخاصة الأمريكية”دلتا فورس” بهزيمة غير متوقّعة بالنظر لكفاءتها القتالية العالية. بعد تحديد الهدف (مبنى يُفترض أن يكون جنرال الحرب المستهدف محمد فرح عيديد بداخله)، نزلت مروحيات أمريكية من طراز” بلاك هوك” و”كوبرا” إلى علو منخفض ( قرابة 40 قدم ) قصد تنفيذ إنزال برّي وتحييد الهدف في أقلّ زمن ممكن.
لكن المهمة لم تكن بهذه السهولة، فقد اتضح أن عيديد لم يكون متواجدا بالمكان (إخفاق استخباراتي) وسقط عشرات الضحايا من المدنيين العزّل جرّاء القصف الأمريكي العنيف والذي تواصل حتى خلال عمليّات الإجلاء.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحدّ، فقد سقطت مروحيتين أمريكيتين وقتل 19 جنديّا (في عمليّة سُميّت بسقوط الصقر الأسود)، تمّ التنكيل بجثثهم وسحلهم في شوارع مقديشو في مشهد سينمائي مخيف، ينبئ بأنّ الصومال لن تُحكَم أبدا!
فشلت “عمليّة إحياء الأمل” فشلا ذريعا وعجّلت بقرار الرئيس الأمريكي بيل كلينتون سحب القوات العسكرية الأمريكية من الصومال بعد أقلّ من عام واحدا.
بعد مرور قرابة 18 شهرا على قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بسحب 750 جنديا من الصومال، أعاد الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن نشر 500 جنديا وذلك تزامنا مع فوز المرشح حسن شيخ محمود بكرسيّ الرئاسة يوم 15 ماي 2022 وهو المدعوم أمريكيا ممّا ساهم في اتخاذ قرار إعادة انتشار القوات الخاصة الأمريكية، وذلك أمام الرئيس السابق محمد فرماجو الذي تُعتبر أثيوبيا من أبرز داعميه.
تاريخيا، المشهد السياسي الصومالي لا يختلف كثيرا عمّا حدث ويحدث في أفغانستان.
شهدت الصومال خلال أواخر ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي حربا أهلية طاحنة أدّت إلى الإطاحة بحكم القائد العسكري سياد بري المدعوم من الاتحاد السوفياتي، تفكّك الجيش وعمّت الفوضى في مشهد شبيه بالصراع بين أمراء الحرب الأفغان إثر انسحاب القوات السوفياتية.
منذ ذلك الوقت والصومال يعيش حالة لا استقرار سياسي وأمني في ظل غياب سلطة مركزية قوية وكثرة المتدخلين الخارجيين وبالتالي تضاد مصالحها (تركيا، إيران، الإمارات، الولايات المتحدة الأمريكية، أثيوبيا…) وهو ما ساهم بشكل كبير في تصاعد نفوذ حركة الشباب الصومالية الموالية للقاعدة، ممّا يعيد إلى الأذهان تكرار تجربة طالبان حين أعادت انتزاع الحكم مستغلة ضعف الحكومات السابقة وتعويلها بشكل مطلق على الدعم العسكري الأمريكي.
في هذا الإطار، رحّب الرئيس الصومالي الجديد بقرار بايدن إعادة نشر مئات الجنود الأمريكيين، ويبدو أنّه يثق في نجاعة هذه القوات على قلة عددها أكثر ممّا يثق في القوّات العسكرية التابعة للاتحاد الافريقي (قرابة 18000 جندي) وهو ما يطرح مجددا مسألة الولاءات الخارجية لـ”أمراء الحرب” الصوماليين..
المدافعون عن هذا الانتشار العسكري الأمريكي يعلّلون ذلك بتزايد مستوى الخطر الذي تشكلّه” حركة الشباب المجاهدين” لا فقط على الأمن الداخلي، بل على أمن القرن الإفريقي وحتّى داخل العمق الأمريكي، ففي سنة 2020 تمّ احباط عملية اختطاف طائرة وتحطمها في عمل مماثل لهجمات الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة، وقد تورّط في هذه العمليّة صوماليون لهم صلة بحركة الشباب.
يذكر أنّ حركة الشباب كثفت مؤخرا من هجماتها مستفيدة من حالة الفوضى وصراع مختلف القوى السياسية الصومالية على الحكم، متكئة كذلك على ايرادات مالية ضخمة تقدّر بأكثر من 200 مليون دولار سنويا.
في المقابل، يجدر التذكير بأنّ الإدارات الأمريكية السابقة قدّمت دعما سخيّا على المستوى المالي والعسكري (تسليحا وتدريبا) للحكومات الأفغانية السابقة وحافظت لمدة طويلة على عشرات آلاف الجنود بقواعدها العسكرية لكن كانت النتيجة انهيار للجيش الأفغاني في ساعات وتسلّم طالبان للسلطة مجدّدا، ومن غير المستبعد أن يحدث الأمر ذاته في الصومال.
جيوسياسيا، تبدو الولايات المتحدة الأمريكية مرغمة على تعزيز حضورها بالصومال ومنطقة القرن الإفريقي عموما نظرا لأهمية المنطقة المجاورة للمحيط الهندي إضافة إلى كونها نقطة ربط مع الجزيرة العربية الغنية بالنفط ووجود مضيق باب المندب الذي تمرّ من خلاله البضائع والأسلحة وناقلات النفط والغاز. كما يمثّل تعزيز حضورها تصديّا للامتداد الصيني ـــ الروسي في المنطقة. فالصين هي أكبر شريك تجاري لإفريقيا، وقد بلغت قيمة التجارة المباشرة بين الطرفين في 2019 أكثر من 200 مليار دولار، وفقا للأرقام الصينية الرسمية.
روسيا كذلك وعلى لسان بوتين تنوي التحوّل بشكل أكبر نحو آسيا وأفريقيا في مواجهة العقوبات الغربية المفروضة عليها.
هنا تبدو الأولويات الأمريكية (خصوصا بعد الانسحاب العسكري من أفغانستان) مشتتة بين الملف الروسي وكبح جماح التنين الصيني في شرق آسيا وخاصة في بحر الصين الجنوبي. لذلك تعتقد الإدارة الأمريكية الحالية في ضرورة التواجد العسكري ولو بصفة عددية محدودة في كلّ المناطق التي تشهد حضورا أجنبيا منافسا.
على المستوى الأمني، لا يبدو أنّ الوجود الأمريكي سواء بصيغته الحالية أو حتى مع رفع عدد القوات العسكرية سيساهم في بسط الأمن وفرض الاستقرار وبالتالي من غير المرجّح أن يتّجه البلد نحو التنمية وتحسين الظروف المعيشية. بل ربّما يصب هذا الأمر في مصلحة حركة الشباب لمزيد التجنيد وتكثيف الهجمات على القوات الأجنبية والمحلية المتعاونة معها تحت إطار” التصدّي للغزاة” خاصة وأنّ الصوماليين عموما لا يحتفظون بذكريات طيبة مع الأمريكيين.
الصوملة، الأفغنة، اليمننة.. تختلف الأماكن وتتشابه الوضعيّات.. كان شعورا ويبدو أنّه يتحوّل شيئا فشيئا إلى قناعة بأنّ هناك دول لا تُحكَم فعلا..ولن تُحكَم..
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 16، جوان 2022، ص. ص. 4-5.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf16.tounesaf.org