كيف أزاحت تونس القيروان؟مقال لدومنيك فالريان*
|ترجمة: فهمي رمضاني
خلال عمليات الانتشار العربي الإسلامي، دُمّرت قرطاج آخر معقل المقاومة البيزنطية للغزو العربي للمرة الثالثة سنة 698 م، ولن تنهض من جديد حتى ولو كانت آثارها مصدر إعجاب الجغرافيين العرب طيلة العُصور الوسطى. أما القيروان التي ستصبح إحدى أهم مراكز الثقافة الإسلامية، فلم تكن آنذاك سوى معسكرا للجيوش. وإلى حدود القرن الحادي عشر ميلادي، كانت تونس الجديدة ثاني مدينة في المنطقة فقط.
منذ 670 م، استقر أسياد البلاد الجدد الذين أخذوا اسم إفريقية (الموروث من إفريقيا الجديدة) في القيروان، تلك المدينة التي تأسست في الجنوب والتي ستقود مصير البلاد لأكثر من أربعمائة عام.
يعود قرار التخلي عن قرطاج وتأسيس عاصمة جديدة جزئيا إلى الرغبة في إحداث قطيعة مع الهيمنة البيزنطية المسيحية. لكن لماذا تمّ اختيار موضع القيروان بعيدا جدا عن البحر؟
بعيدا عن البحر الأبيض المتوسط
قاد العرب غاراتهم الأولى باتجاه بلاد المغرب سنة 647 م، لكن التقدم كان طويلا وصعبا نظرا لبعدهم عن قاعدتهم العسكرية في مصر، لذلك كان عليهم أن يواجهوا مقاومة الجيوش البيزنطية والبربر في معاقلهم الجبلية، الأمر الذي جعل الجيوش العربية تتكبد عدة هزائم أجبرتها على الانسحاب. وقد أعادت الدولة الأموية فيما بعد بمجرد تأسيس خلافتها في دمشق، إطلاق عمليات الانتشار الإسلامي على نطاق واسع. فقد عيّن الخليفة معاوية عقبة بن نافع قائدا للجيش والذي قرر سنة 670 م أن يؤسس معسكرا لإيواء الجيش ومن هنا جاءت تسمية القيروان باعتبارها “معسكرا-حامية”.
لا ريب أن قصة تأسيس القيروان محاطة بالأساطير، إذ يُخيف عقبة الحيوانات البرية ليُؤسس عاصمة ويتلقى في نفس الوقت حلما يُخبره بالاتجاه الذي يجب أن يكون للمسجد. لكن اختيار موقع القيروان لم يكن بسبب الصدفة، إذ تتموقع المدينة بشكل استراتيجي على طريق مرتبط بالشرق لجلب المساعدة والسماح بالانسحاب إذا لزم الأمر. كما يُمكن للمدينة أيضا أن تكون بمثابة قاعدة لاستكمال السيطرة على بلاد المغرب وهو ما تُثبته النصوص مع هزيمة الكاهنة، ملكة الأوراس، التي رفعت في وقت مبكر لواء المقاومة ضد الحكام العرب سنة 690 م لكنها انهزمت في النهاية حوالي سنة 700م.
يتوافق اختيار موقع القيروان أيضا مع سياسة واضحة للقادة المسلمين الذين اختاروا الاستقرار أو العثور على مدن بعيدة عن البحر الأبيض المتوسط كما هو الحال مع دمشق أو القاهرة. يعود ذلك إلى سبب دفاعي في المقام الأول، إذ لا يزال البيزنطيون يهيمنون على البحر ويهددون السواحل على الرغم من تكوّن أسطول إسلامي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الثقل السياسي لم يعد متمحورا حول القسطنطينية في الجانب الآخر من البحر، بل في دمشق ثم بغداد وهما مدينتان يمكن الوصول إليهما عن طريق البر.
الأسباب الأخرى اقتصادية بالأساس، فقد شهد البحر الأبيض المتوسط تراجعا حادا في نشاطه حتى قبل الانتشار العربي وفقد جاذبيته مؤقتا. وتقع جميع عواصم الإسلام الجديدة في الداخل على مفترق طرق التجارة الرئيسية وغالبا ما تكون على اتصال ببيئتين طبيعتين. في هذا الإطار، تستجيب القيروان لهذا النموذج، فهي تقع عند تقاطع طرق الشرق و الغرب التي تؤدي من الشرق إلى بلاد المغرب ثم إلى الأندلس (إسبانيا المسلمة) عبر مضيق جبل طارق والمحور الشمالي الجنوبي الذي يسيطر على شرق إفريقية و هي أيضا عند تقاطع الفضاءات المتوسطية والتليّة مما يجعلها مُهيئة للزراعة الشاسعة ولتربية الماشية ومنفتحة في نفس الوقت على الصحراء في الجنوب.
في 705 م أصبحت القيروان عاصمة إفريقية. وقد غطت المقاطعة الجديدة من الناحية النظرية جميع منطقة بلاد المغرب لكنها اُختزلت منذ منتصف القرن الثامن في إقليم طرابلس وتونس وشرق الجزائر، بينما كانت تقع غربا القوى المنشقة عن الخلافة العباسية في بغداد.
باعتبارها مقر الوالي، شهدت القيروان تطورات سياسية واقتصادية ودينية وفكرية حيث تم توسيع المسجد الذي أسسه عقبة وإعادة بنائه مرات عديدة خلال القرنين الثامن والتاسع، بينما تطورت الأسواق والفنادق (مؤسسات لاستقبال التجار) ويقدر المؤرخ محمد الطالبي أنه في القرن التاسع كان عدد سكان المدينة في حدود مئات الآلاف. أصبحت القيروان المركز الرئيسي لأسلمة المنطقة وتمحور ذلك حول شخصية العالم العظيم سحنون (توفي سنة 854م) مؤلف المدونة وهي مرجع في الفقه المالكي كانت لها قيمة علمية هامة في جميع أنحاء بلاد المغرب.
تونس الجديدة
كانت تونس مجرد مدينة ثانوية على بعد 150 كلم من القيروان. في سنة 699 م قرر الحاكم الأموي حسان بن النعمان فور تدمير قرطاج إنشاء مدينة تونس في موقع مُعمّر منذ العهد البوني على الأقل. وتتمثل مُهمتّها الرئيسية في السيطرة على شمال البلاد والتصدي للهجمات البحرية و بالتالي فهي مدينة مخصصة لإيواء حامية وأسطول على الحدود البحرية المواجهة لصقلية البيزنطية.
يكشف اختيار موقع تونس عن أهمية هذه المتطلبات الدفاعية: بحيرة تفصل المدينة وتحميها من البحر وتتواصل معها بواسطة قناة حفرها حسان بن النعمان الذي أسس أيضا دارا لصناعة السفن بفضل 1000 قبطي تم جلبهم من مصر. وقد أصبحت تونس مع سوسة الميناء الخارجي للقيروان وإحدى نقاط انطلاق الغارات على المسيحيين. وبالتالي فإن المدينتين تكملان بعضهما البعض على المستوى العسكري ولكن أيضا سياسيا واقتصاديا: تونس قريبة من سهول الحبوب الكبرى في الشمال والقيروان في قلب المناطق الأكثر جفافا التي تهيمن عليها زراعة أشجار الزيتون والماشية ومفتوحة إلى الشرق بالطرق البرية والبحرية.
تتطور تونس تدريجيا، إذ يستحضر الجغرافي اليعقوبي الذي يزور المنطقة بين عامي 876 و 889 مدينة كبيرة مزودة بسور من الطوب والطين باستثناء جهة البحر حيث تم بناء السور من الحجر كما يصفها بأنها مضطربة ومتمردة.
ولقد كانت مهد عدة ثورات انطلقت من الجيش والتي وضعتها في مواجهة مع القيروان مند منتصف القرن الثامن وخاصة في القرن التاسع عندما حكم الأغالبة (800-909) إفريقية باسم الخلفاء العباسيون في بغداد. وبحسب الجغرافي الأندلسي البكري (القرن الحادي عشر)، تميزت تونس على الدوام بتواتر ثوراتها ضد حكام أفريقية و استعدادها لمقاومة أوامر حكامها فقد انتفضت أكثر من عشرين مرة.
وفي كل مرة، يتمّ قمع المعارضة بشدة، مثلما حدث سنة 894 م عندما استولى الأمير إبراهيم الثاني على المدينة بالسلاح ، وأباحها للنهب والدمار، وأخذ 1200 سجين من بين الأعيان. لقد كان هناك موكب كامل من الجثث يصل إلى القيروان. وتحت حكم الفاطميين مرة أخرى، الذين أسسوا خلافة شيعية في القيروان (909) ، قبل نقل مركز حكمهم إلى مصر (971)، كانت تونس واحدة من مراكز معارضة الخلفاء ، لا سيما من خلال خطاب وتحرك الفقيه والمخلص محرز بن خلف (ت 1022) الذي أصبح فيما بعد شفيع المدينة ، تحت اسم سيدي محرز. ولا يزال ضريحه ، بالقرب من باب سويقة ، يجتذب المؤمنين إلى غاية اليوم.
لكن في ظل حكم الأغالبة ، شهدت تونس نموًا كبيرًا. فقد أعيد بناء جامع الزيتونة (من شجرة الزيتون) في سنة 864م ليحل محل الجامع الذي تم تشييده في بداية القرن الثامن. يحتوي على 15 بلاطة من 6 خلجان و 184 عمودًا تعلوها تيجان تم جلبها من أنقاض قرطاج. تبدأ فيما بعد في الظهور بيئة علمية تضم الفقهاء أساسا، ولكنها في تبعية فكرية وروحية للقيروان.
توسعت منطقة الميناء، على وجه الخصوص، حول باب البحر وبالقرب دار صناعة السفن. ويمكن الوصول من هنا إلى إسبانيا باتباع الساحل.
و قد هيمنت في هذه الفترة الأساطيل الإسلامية على البحر الأبيض المتوسط حيث تطورت تجارة إسلامية واسعة النطاق. و قد استفادت تونس من موقعها على الطرق البحرية الرئيسية فهي تقع مقابل صقلية ، التي غزاها الأغالبة منذ عام 827 ، وهي أيضًا عند مفترق طرق بين حوضي البحر الأبيض المتوسط وتشكل محطة في الطريق نحو مصر وسوريا. لذلك لم تعد السواحل منبوذة من قبل السلطة، فقد وجدت فيها مدنا نشيطة نتيجة تكثف المبادلات في المتوسط و تلاشي التهديد المسيحي. وفي مقابل ذلك، فإن الحملات التي تنطلق من هذه الموانئ تسمح للملوك بالجهاد الذي يستمدون منه شرعية قوية إلى جانب الثروات المادية. لذلك كانت تشهد جميع موانئ ساحل البحر الأبيض المتوسط في بلاد المغرب تطوراً حضرياً كبيراً.
تحت الحكم الموحدي
منذ هذه الفترة بدأنا نشهد تدريجيا إعادة التوازن للعلاقة غير المتكافئة للغاية حتى الآن بين القيروان وتونس. وقد اختار الأمير الاغلبي إبراهيم الثاني مدينة تونس كعاصمة وذلك بعد أن أخمد تمردها.كما أدى كذلك استيلاء الفاطميين على السلطة منذ سنة 909 م إلى التخلي المؤقت عن القيروان لصالح عاصمة جديدة على الساحل وهي المهدية. وقد استمر هذا النمو خلال العهد الفاطمي ثم بعد سنة 971 تحت حكم خلفائهم الزيريين، حيث تم توسيع جامع الزيتونة في عهدهم بإضافة رواق وقبة وأعمدة على الجوانب الثلاثة للصحن. لكن حتى القرن الحادي عشر ، كانت تونس ثاني مدينة في المنطقة بعد القيروان. فعلى سبيل المثال، فقد كان بالقيروان 48 حماما في حين أنها لم تكن تضم سوى 15 حماما.
يتمثل الحدث الحاسم الذي أشّر على الانهيار السياسي للقيروان في هجرة القبائل العربية البدوية مند منتصف القرن الحادي عشر: الهلاليون ، الذين شبههم ابن خلدون بـسرب من الجراد، والذين سحقوا الجيوش الزيرية مما تسبب في تفكك السلطة والتأثير في الاقتصاد. وقد استبيحت القيروان، التي عانت من ثورات وقمع رهيب. لجأ الزيريون إلى المهدية ، وتبعهم جزء من سكان القيروان.
استقر الكثير من الناس في تونس، التي استقبلت أيضًا سكان الريف الذين لجأوا للاحتماء حذو أسوار المدينة. في ظل هذا المشهد السياسي المجزأ، تظهر سلط محلية معترف بها بشكل أو بآخر من قبل الهلاليين. في ذلك الوقت، شهدت تونس أول سلالة حاكمة مستقلة، والتي حكمتها لمدة قرن من الزمن، من 1059 إلى 1159. حكمت عائلة بني خراسان بالاعتماد على مجلس من المشايخ الذين يمثلون بلا شك النخب العلمية والتجارية للمدينة. وإلى هذه الفترة يعود وصف البكري الذي يستحضر العديد من الأسواق التي تبيع البضائع “التي يملأ مظهرها المتفرج بالإعجاب”، وكذلك العديد من الفنادق لاستقبال المسافرين والتجار. إنه يتعجب كذلك من ثروة سكانها، الذين تحتوي منازلهم على أبواب مزخرفة بالرخام الأبيض الذي تم جلبه ربما من آثار قرطاج، من الثمار الممتازة الموجودة هناك و من الأسماك التي تم اصطيادها قبالة الساحل، وأخيرًا بسبب حيوية بيئتها العلمية.
ثم استغلت تونس ازدهار التجارة في البحر الأبيض المتوسط بين التجار اللاتينيين والمسلمين. وقد أنار الأملفيون والبنادقة الطريق وتبعهم في ذلك البيزانيون والجنويين. في هذه الأثناء أصبحت بيزا تستورد الخزف من تونس بدل القيروان، في إشارة إلى الانقلاب الدائم في التوازنات، على الأقل اقتصاديًا، بين المدينتين. ومما يؤكد كذلك القوة السياسية وربما العسكرية للمدينة هو أنه تم إنقاذها عندما شرع الملك النورماني لصقلية روجر الثاني في احتلال موانئ افريقية في حين تم غزو المهدية إلى حدود سنة 1159م. وفي هذا التاريخ، يُكمل الخليفة الموحدي عبد المؤمن السيطرة على بلاد المغرب الذي أعاد توحيده في ظل إمبراطورية واسعة تضم أيضًا الأندلس. تم اختيار تونس كعاصمة لإقليم المغرب الشرقي. عودة مركز السلطة إلى المنطقة التي كانت متمركزة بها في العصور القديمة ، بالقرب من أنقاض قرطاج ، تشير إلى نهاية حقبة، عهد تألق القيروان، التي لا تزال تحتفظ بما هو أكثر قليلاً من مكانتها الدينية.
—
*صدر المقال بمجلة l’Histoire في عدد جانفي-مارس 2016. رابط المقال الأصلي: https://www.lhistoire.fr/comment-tunis-d%C3%A9tr%C3%B4n%C3%A9-kairouan
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 13، مارس 2022، ص. ص. 6-7.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf13.tounesaf.org