يوميات الطاهر الفازع الأسبوعية: صفحات من التاريخ المحكيّ
|بقلم: خلود الخمّاسي
ينطوي كتاب الطاهر الفازع “اليوميات الأسبوعية” Chroniques Hebdo على أهميّة خاصة بين مجموع كتبه إذ هي اختزال لتاريخ تونس الحديثة من خلال ذكريات الكاتب نفسه وقصص بعض الشخوص التي التقاها.
الكتاب ذو الـ 191 صفحة من نشر دار أبولونيا، صدر أول مرة في تونس سنة 1998 وهو مجموعة قصص قصيرة كتبت بالفرنسية بأسلوب ساخر وتنقسم إلى ثلاثة أجزاء: أولها يتحدث عن ذكريات الكاتب طفلا تحت الاستعمار الفرنسي في قريته مجاز الباب بولاية باجة (الشمال الغربي للبلاد التونسية) وشابا بعيد الاستقلال في العاصمة. ثانيها يسرد تفاصيل حياته كربّ عائلة وهنا نقترب من فهم الروابط الاجتماعية داخل العائلة التونسية الحديثة وخارجها. ثالثها يتحدث عن قصص شخوص متعددة وهي على اختلافها تقرّبنا من المعيش اليومي للتونسي وتساعدنا على فهم نفسيته. أكتفي في هذه المراجعة بتناول الجزء الأول.
ما يمكن أن يشد القارئ خاصة غير المطلع على التاريخ هو بساطة الحكايات وتوثيقها لقضايا وطنية كبيرة كالسياسات الاستعمارية أو التجارب الاقتصادية المتخبطة من خلال الذاتي والشخصي. الطاهر الفازع من مواليد 1948، وهو ما مكّنه من معايشة السنوات الأخيرة من الاستعمار. تحدّث عن تعالي المستعمرين على السكان المحليين وكيف أنه ببساطة الأطفال استغرب من تلك المعاملة الّتي بدت ضد فطرته. لكنه أيضا تحدّث عن “الأرباح الجانبية” من الاستعمار فتطرّق إلى جمال المنازل وحدائقها وجودة النظام التعليمي آنذاك وكيف تميّز في الفرنسية وحتى تفوّق على أترابه من الفرنسيين في استخدام لغتهم الأم وهو ما مكّنه من فتح آفاقه الفكرية على لغة الثورة الفرنسية، ثورة الفكر وحقوق الانسان بامتياز.
يخبرنا الكتاب أيضا عن مدى الاختلاط الإثني والثقافي والديني الذي كانت قرية مجاز الباب تعيشه. ضمّت مجاز الباب الأوروبيين الذين قدموا للسيطرة على الأرض وقد استخدموا “الزنديجان” (indigènes) ومنهم من كانوا يعيشون مثل المحليين كما هو شأن المالطيين. وجعل هذا التنوّع القرية تعتمل بالفنون ومحبي الجمال والحياة والعلوم رغم قساوة الظروف فنرى الطاهر يحنّ لأيام صفوه وخلوّ باله مثل أي طفل. أحد هؤلاء عشق تونس واعتبرها وطنه ورفض الرجوع إلى مالطا ولكن وقد عجز، قدم أبناؤه وأرجعوه قسرا إليها. ويراقب الطاهر الفازع طفلا تصرفات أهل الكتب السماوية الثلاث. فتشتد رهبته من اليهود لشدة الجدية البادية على متبعيها ويهتز قلبه فرحا لأهازيج الكنيسة واحتفالية روادها وقد تزينوا للصلاة أيام الآحاد.
عن فترة بعيد الاستقلال، يحدثنا الطاهر الفازع خاصة عن الستينات والسبعينات ومن الذكريات القوية ذكريات فشل التجربة التعاضدية في أرياف الجمهورية الحديثة. فأصحاب الأرض بالأمس أصبحوا حسب النظام الجديد أجراء فيها. تردت الأوضاع الاقتصادية وجرفت فيضانات وادي مجردة المحاصيل وعمّ الكفاف العموم فترى المزارعين الصغار يدفنون بذور البطاطا صباحا ليعودوا مستترين بالليل فيخرجوها من باطن الأرض ليأكلوها.
مع هذا تنفرج الأوضاع قليلا مع تحرير السوق في السبعينيات والقطع مع النظام الاشتراكي ولكن ينزح الريفيون نحو المدينة وهنا نقرأ عن المقاهي والحانات التي كانت تقدم خدمات ذات جودة عالية (عكس اليوم) تتماشى مع مجتمع “منفتح” على الاختلاف بفضل تركة المعمّر الثقافية وتجمّع عشاق الحياة والمثقفين على اختلاف توجهاتهم. نقرأ أيضا أخبار نشأة الأحياء القصديرية أو البناءات العشوائية وكيف غيّرت هذه التحولات العمرانية والمجتمعية وجه المدينة وروحها. يبدو الطاهر الفازع ممن يؤمنون بأن اعتباطية موجات النزوح هذه ساهمت في خلق ثقافة فوضوية شوهت وجه المدينة عمرانيا وقيميا.
من المفارقات العجيبة في حكايات الطاهر الفازع تغيّر المشهد العمراني في قريته فحسب روايته، كل ذلك الجمال في البناء وترتيب الحدائق ضاع بعيد رحيل المعمرين وعُوِّضت الأسوار اللوحية أو النباتية للحدائق بأخرى إسمنتية عالية لتحفظ حرمة البيوت حسب تقاليد القرويين المحليين. ولكن الفازع يحدثنا أيضا عن التغيرات الجمالية التي طرأت على النساء التونسيات فقد أسفرن عن شعورهن وزينتهن وشرعن في التخلص من قوانين القبيلة المكبّلة لعقولهن وعواطفهن. وإذ تغيّر وجود المرأة وإذ ولجت الحياة العامة فقد أوجب الوضع الجديد على الرجل التونسي التكيف في إطار مختلف عن ذاك الذي نراه في مجتمعات تقليدية محافظة فالطاهر ومعاصريه ممن فُرّقوا عن النساء وتربوا على عدم الاختلاط غدوا يتشاركون مقاعد الدراسة والمرافق العمومية كالنقل والشارع مع الفتيات وتطلب هذا إعادة تربية ذهنية الذكور وترتيبها. أين تونس الحديثة من ذلك اليوم؟ يجيب باقي الكتاب عن هذا السؤال من خلال أقصوصات عن حياة الكاتب الأسرية وبعض الشخوص الأخرى.
نشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد السادس، أوت 2021، ص ص. 8-9.
لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf6