السيستام والمعارك الجانبية

 

المصدر: elmohafezeen.com

بقلم: حمزة عمر

في السنوات الأخيرة، احتدم النقاش حول النظام الانتخابي المتّبع في الانتخابات التشريعية، بدعوى أنّ طريقة الاقتراع الحالية (التمثيل النسبي مع اعتماد أكبر البقايا) لا يمكّن من تكوين أغلبيات برلمانية واضحة، وهو ما ينعكس سلبا على استقرار الحكومات.

كذلك تعالت بعض الأصوات، لا سيّما مع انتخاب قيس سعيّد رئيسا للجمهورية، لتدعو إلى مراجعة النظام السياسي الحالي الذي أرساه دستور 2014 ليتحوّل إلى نظام رئاسي أو على الأقلّ لزيادة صلاحيات رئيس الجمهورية، باعتبار أنّه من غير المعقول ألا يكون لمن انتخبه الشعب بشكل مباشر سوى صلاحيات محدودة.

كلّ هذه الدعوات تأتي تحت مسمّى إصلاح الحياة السياسية، والحياة العامة بشكل مطلق، في تونس، وهي كلّها كلمات حقّ يراد بها باطل رغم حسن النوايا (أحيانا). في ظلّ المشهد السياسي الذي نعرفه في تونس، لنتصوّر الانعكاسات المفترضة لمثل هذه “الإصلاحات”. لو اعتمدنا طريقة اقتراع لا تعتمد التمثيل النسبي أو تضع عتبة مرتفعة، لتحصلنا على برلمان تقتصر التمثيلية فيه على النهضة والدستوري الحرّ، وربما قلب تونس وائتلاف الكرامة مع تمثيل هامشي لقوى أخرى. هل نتصوّر فعلا أنّه لو أمكن لأحد هذه القوى أن يشكّل حكومة بمفرده سيكون حال البلاد أفضل؟ نفس الشيء يمكن قوله بالنسبة إلى النظام السياسي. ألا نتخيّل لو كان الدستور يمنح صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، أنّه من الممكن أن يؤدّي ذلك، باعتبار ما نعرفه الآن، إلى ميول دكتاتورية؟

هذا النوع من التحاليل ينطلق من منطق شكلاني قانوني، هو المسيطر عموما على تحليل الحياة السياسية في تونس منذ 2011. يكتفي هذا التحليل ببيان النتائج المنجرّة نظريا عن اتّباع نظام قانوني معيّن، دون التفات إلى لعبة المصالح وطبيعة الفاعلين السياسيين.

يمكن تقسيم الفاعلين السياسيين في تونس إلى صنفين أساسيين: هناك قوى ربّما تحاول فعلا أن تساهم في إصلاح حال البلاد، ولكنها لا تملك الوسائل لذلك، وأحيانا لا تملك غير النية الحسنة، وهو ما يجعلها ذات طبيعة “دون كبشوتية”، إن لم تنحرف إلى ضرب من الشعبوية. في الطرف الآخر، نجد القوى ذات الطبيعة البراغماتية. قد تكون لبعضها خلفيات إيديولوجية عند التأسيس ولكنّها ما لبثت إن فهمت كيف تدار اللعبة فانخرطت في “السيستام”.

تبدو مقولة السيستام ذات طبيعة مؤامراتية. ولكنّها، إذا ابتعدنا عن ألوان المغالاة التي تجنح أحيانا إلى نسج صورة أسطورية عمّا يجري في الكواليس، تعبَر عن شبكة العلاقات والمصالح التي تسعى إلى ضمان نفوذها مهما كانت القوى السياسية التي في الحكم. ما قبل الثورة، كان الأمر بسيطا إلى حدّ ما. كلّ هذه العلاقات والمصالح كانت مرتبطة ببن علي وعائلته وتخضع لإشرافهما الدقيق. بعد الثورة، كان من الخطأ وربما من السذاجة أن نتصوّر أنّ هذه الشبكة ستنهار بمجرّد سقوط رأس النظام.

ما حدث أنّ هذه الشبكة اهتزّت فعلا، ولكنّها تمكنت فيما بعد من استعادة تماسكها. بعد أن تمّت التضحية ببعض الرؤوس، أقامت هذه الشبكة روابطها مع القوى التي صعدت في تلك الفترة وما تلاها ووقع إبرام الصفقات اللازمة للمحافظة على تلك المصالح.

ثمّة بعض القرائن التي أصبحت تتسرّب أحيانا إلى وسائل الإعلام أو ما تروّجها بعض المنظمات الناشطة في مجال مراقبة الشأن العام والتي يمكن أن تحيلنا على استمرارية السيستام في كلّ العصور وتحت ظلّ كلّ البرلمانات والحكومات. نسمع مثلا عن الدعم الذي تقدّمه الدولة نقدا لتصدير بعض المواد الغذائية، نسمع عن تدخّل الدولة في توريد بعض الغلال لتحتكر مساحات تجارية كبرى بيعها، نسمع عن تسهيلات وإعفاءات وقروض تقدّم دون حساب لرجال أعمال في قطاعات تشهد مصاعب هيكلية كالقطاع السياحي.

ربّما تبلغ الأمور أقصاها في نظر الجمهور عندما يتعلّق الأمر بدعاوى جزائية تصبح فيها المعاملة بمكيالين هي القاعدة. في حين أنه يحكم بالسجن بثلاثين سنة على شباب في قضية استهلاك للزطلة، يمكن أن يفرج، دون توجيه أيّ تهمة، عن آخرين في قضية ترويج مخدرات فقط لأنّهم من المحظوظين الذين تربطهم علاقة بأرباب السيستام.

مثل هذا الإجحاف الواضح هو ما يجعل العديدين يهمسون أو يصرخون في مرارة “ما تبدّل شي”. لا يعني ذلك حرفيّا أنّ شيئا لم يتغيّر قبل الثورة وبعدها. من الأكيد أنّ أشياء كثيرة تغيّرت، ولكن المستفيدين من السيستام هم في الأغلب الأعمّ هم نفسهم.

طوال السنوات العشر السابقة، ومن خلال متابعة استطلاعات الآراء التي تقام بشكل دوري حول الشأن السياسي، أذكر أنه من الحالات النادرة للغاية التي شهد فيها رئيس حكومة ارتفاعا ملحوظا لمنسوب الثقة فيه، تلك الحالة التي تخصّ يوسف الشاهد مباشرة إثر إلقاء القبض على شفيق الجراية. هبّت نسمة من الأمل حينها على عموم المواطنين الذين ظنوا أنها خطوة نحو تفكيك السيستام، قبل أن تتبدّد هذه الآمال سريعا.

لكي يتبدّل شيء ما حقّا، ربّما يجدر أن نوجّه اهتماما أقلّ إلى المعارك التي تجري على السطح والتي لا تغيّر بشكل ملموس الخيوط التي تحرّك ذلك السطح. صحيح أنّ عددا من الإعلاميين والناشطين في المجتمع المدني يبذلون مجهودا جبّارا في هذا الصدد، ولكن المقاومة العنيفة وحملات التشويه تدفع بهم شيئا فشيئا بشيء نحو الإحباط… إحباط لو تعمّم بشكل كلّي، فلن يظلّ هناك في الأفق ما ننتظره.

صدر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الرابع، جوان 2021، ص. ص 6-7.

لتحميل كامل العدد :  http://tiny.cc/hourouf4

 

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights