العنف في المجتمع التونسي وقلق الخصاء

لوحة ”ساتورن يلتهم ابنه“ لفرانسيسكو غويا. المصدر: ويكيبيديا


بقلم: حمزة عمر

يأتي مقتل شرطيّة فرنسية على يد مهاجر تونسي ليشكّل حلقة إضافية في مسلسل الاعتداءات الإرهابية الّتي قام بها تونسيون في مختلف أنحاء العالم. صارت الأمثلة أكثر من أن تُعدّ، وحسبنا العدد الكبير للتونسيين الذين سافروا للقتال إلى جانب تنظيم داعش وما ارتكبوه من فظاعات في سوريا والعراق.

هذا العنف، الّذي لا شكّ أنّه يتنامى في مجتمعنا، في حاجة إلى تفسير مقنع. صحيح أنّ هناك بعض الدراسات الّتي تنتمي إلى حقل علم الاجتماع الّتي حاولت ذلك، ولكنّنا كثيرا ما نجد فيها في الفقر والتهميش و”الحقرة” شمّاعات تُلقى عليها هذه الظاهرة دون تعمّق كبير. إذا أقررنا بوجود كلّ ذلك، فهل توجد فعلا علاقة سببيّة تربط التهميش بالعنف؟ لو صحّ ذلك، لانساق كلّ المهمّشين إلى العنف. مثل هذه الرؤى الشمولية تُهمل عادة دور المسارات الفرديّة في النزوع نحو هذا الاتّجاه.

نعتقد أنّه من الممكن أن نتبيّن بعض المداخل الممكنة لمقاربة ظاهرة العنف في مجتمعنا من خلال علم النفس. يبدو لنا مفهوم “قلق الخصاء” شديد الأهميّة في هذا الإطار. سنحاول فيما يلي تطبيقه على واقعنا، بقدر ما يسمح به المجال لكاتب غير متخصّص.

قلق الخصاء مفهوم جاء به سيجموند فرويد، وهو من أوائل نظرياته في علم النفس. يدلّ هذا المفهوم على خوف الصبيّ من فقدان أعضائه التناسلية كعقاب له على رغبته تجاه الأمّ وتخيّلاته لقتل الأب، خصمه عليها. يتأكّد هذا الشعور لدى الصبيّ من خلال ملاحظاته للفروق الجسمانيّة مع البنت، إذ يهيّأ إليه أنّها وُلدت بأعضاء ذكرية قُطعت في مرحلة لاحقة، وينتابه الخوف من مصير مماثل.

جاء جاك لاكان ليتقدّم، في خمسينات القرن العشرين، بهذا المفهوم خطوة أخرى. إذ اعتبر أنّ المقصود بالخصاء لا يمكن أن يقتصر على المعنى الجسدي، وإنّما هو فقد رمزي لموضوع مُتخيّل، بمعنى أنّ الأمر لا يعني بالضرورة فقد العضو الذكري على وجه الحقيقة، وإنّما هو فقد لقضيب مُتخيّل.

قد يتمظهر الخصاء في شكل صدمة تُواجه بآليات مختلفة. في حالة العُصاب (عندما يكون هناك وعي بالألم النفسي)، يتقبّلها المرء ولكن يقوم بكبتها. في حالة المنحرف، تكون الصدمة موجودة فعلا ولكنّها تُجابه بالإنكار. أمّا في حالة الذّهان (فقدان الصلة بالواقع)، فلا يعرف الشخص بوجودها ويبقى في إطار تصوّره الخيالي للعالم.

طوال عدّة قرون، عاشت البلدان العربيّة تحت سطوة “أب” رمزي، هو الحاكم المستبدّ. تمنّت الرعيّة الخلاص منه (قتل الأب) وفي نفس الوقت خشيت من ذلك، باعتبار أنّ انتقامه سيكون عنيفا (الخصاء). لمّا دخل الاستعمار، وقع إسقاط هذه الرؤية على المُستعمِر الذي يملك العلم والتكنولوجيا والقوّة، وهي تمثّل جميعا ذلك القضيب الرمزي الذي نفتقده. دخلنا في صراع معه رُمنا من خلاله كسر هيمنته واكتساب ذلك المفقود، وتُوّج ذلك الصراع بالحصول على الاستقلال.

كانت الآمال كبيرة في الفترة الّتي تلت حركات التحرّر الوطني، غير أنّنا ما لبثنا أن وجدنا أنفسنا تحت سلطة “أب” جديد يمارس علينا سطوته. في فترة أولى، قد يكون هناك انبهار بهذا الأب وحتّى محاولة للتماثل معه، لا سيّما في ظلّ الوعود الكبيرة الّتي كان يطلقها، لكنّنا لم نلبث أن وقعنا تحت وطأة الصدمة. الفشل الّذي آلت إليه الدُول الوطنية، كما تُعبّر عنه بشكل لافت نكسة 1967، أدخلنا في ارتباك كبير: “الأب” لم يمتلك قطّ تلك القوّة الّتي أوهمنا بها.

في تونس، مثّلت حركة تحرير المرأة “عبئا” إضافيّا تسلّط على كاهل الرجل. لا يكفي أنّ الحاكم يمارس تهديدا بالإخصاء الرمزي على رعاياه، حتّى انضافت إلى الفضاء العام أولئك اللّواتي لا يملكن قضيبا بالمعنى الحقيقي للكلمة ليزاحمن الرجال لنجدهنّ حتّى في مواقع سلطة! مثّل ذلك في المخيال الذكوري ضربا لقيمة الرجولة، على أنّ ردود الفعل ظلّت في إطار المكبوت، فوجود “الأب” يمنع من خروجها بقوّة إلى حيّز الواقع.

جاءت ثورة 2011 ليتمّ معها اغتيال “الأب”، وفي غيابه، انفتح المجال أمام كلّ المحظورات. كلّ الآراء أصبحت مباحة، بما فيها تلك ذات الطبيعة الذهانية الّتي تنكر الواقع والتاريخ لتعيش في ظلّ أمجاد عصر الخلافة. لم تبق تلك التصوّرات في أرض الوطن فحسب، بل تجاوزته إلى ممارسة العنف خارجه. هناك شهادات عن المقاتلين التونسيين في داعش تزعم أنّهم كانوا من أعنف الجنسّيات هناك. يمكن أن نرى في هذه المبالغة في العنف ردّ فعل على إخصاء مزدوج: ذاك الّذي سلّطه الحاكم، وذلك الّذي صوّرته حركة تحرير المرأة. يستبطن المرء أنّه ليس رجلا بما يكفي فيتمادى في العنف قصد تعويض ذلك الشعور بالنقص.

يمكن أن نرى ما يترتّب على قلق الخصاء في مستويات أخرى في الحياة اليومية، تتجلّى أساسا في العلاقة مع المرأة. لو تصفّحنا المنشورات والتعليقات الموجودة في مواقع التواصل الاجتماعي لوجدنا أنّ أشنع تهمة يمكن أن يُرمى بها الرجل هي الدياثة. هذا ما يدفعه إلى إبداء أكبر قدر من القسوة في العلاقة مع المرأة. سواء كانت بنتا أو أختا أو صديقة أو خليلة أو زوجة، ينبغي أن يحرص الرجل على إظهار أكبر قدر من الغيرة، وإلّا كان مطعونا في رجولته. تشمل هذه الغيرة عدّة مستويات من تقييد حريّة المرأة، بدءا من مراقبة هاتفها وصولا إلى ممارسة العنف الجسدي تجاهها. يعبّر نور الدين برحيلة عن هذه العلاقة بالشكل التالي: “الرجل في مجتمع الفحولة مبني على القضيب، والخصاء يعني اللاقضيب، والخصاء لا يقوم إلا من خلال المرأة التي تقول للرجل: أنت رجل أم لا، فيحيل الخصاء على الفقدان.. فقدان الماهية، فقدان الهوية، فقدان المركزية، فقدان الرجولة، فقدان الفحولة، فقدان القوة، قمة التعاسة، ينهار الرجل، يتعرض للتهميش والتهشيم، قمة الخصاء تظهر في الانفلات الجنسي، الجوع الجنسي الذي لا يُشبع، والظمأ الجنسي الذي لا يرتوي”

ليس من المستغرب، والحال كذلك، أن نشهد في هذه السنوات حصول حركة شعارها الأساسي “التوب رجلة” على نسبة هامة من أصوات الناخبين. حتّى إن اكتفينا بالمعلن من خطابها، من السهل تبيّن تبعات عقدة الخصاء: خطاب ممتعض من تحرّر المرأة يتبنّى علاقة صدامية مع المُستعمِر السابق (صاحب “القضيب”) كما نراه في قضاياه الأساسية كالملح والبترول. ولا يبدو أنّ تمثيليّة مثل هذه الحركات ستتراجع مستقبلا، إذ أنّها تجد لها جمهورا عريضا. لعلّنا، ما لم نقم بتحليل نفسي معمّق لذاتنا الجماعية المثخنة بالعقد، ستظلّ دائما اختياراتنا محكومة بما لم نتبيّنه بعد من لاوعينا…

صدر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثالث، ماي 2021، ص. ص. 4-5.

لتحميل كامل العدد:  http://tiny.cc/hourouf3

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights