الحرقة… أمل في حياة أفضل رغم المخاطر
|بقلم: أنيس عكروتي
حسب آخر تقرير صادر عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (نشريّة شهر مارس)، سجلّ شهر مارس 2021 وصول 338 مهاجرا غير نظامي تونسي إلى السواحل الإيطاليّة مقابل 60 خلال نفس الفترة من سنة 2020 و85 واصلا خلال نفس الفترة من سنة 2019. يضاف إلى هذا الرقم إحباط 166 عمليّة اجتياز حدود ومنع أكثر من 2600 مهاجر من الوصول إلى إيطاليا.
حاتم (اسم مستعار) هو شاب تونسي في منتصف الثلاثينات من العمر متزوّج وأب لطفلين يشتغل نادلا بمقهى ويتقاضى أجرا زهيدا بالكاد يغطّي به مصاريف كراء المنزل والنفقات اليوميّة من أكل ولباس. قرّر حاتم في العام الماضي أن يغادر الوطن نحو إيطاليا في رحلة يعلم مسبقا أنّها محفوفة بالمخاطر وغير مضمونة النتائج لكّن اصراره على المغادرة كان أقوى.
حلم قُبِر سريعا، فقد أحبط الحرس البحري التونسي عمليّة الاجتياز وتمّ القبض على المهاجرين: رجال، نساء، قصّر، من جنسيات مختلفة منهم التونسيّون ومنهم من أتى من دول أفريقيّة جنوب الصحراء.
سبعة آلاف دينار دفعها حاتم لمنظّم ” الحرقة” ثمنا للخلاص… مع ذلك، يبدو إصراره أكبر على خوض المغامرة من جديد.
” أنا أعدّ الساعات لا أنتظر غير مكالمة هاتفيّة تعلمني بموعد ساعة الصفر.” هكذا قال لي في ختام اللقاء.
الهجرة غير النظاميّة أو الحرقة كما يسمّيها أغلبنا واختلاف أشكالها وتنوّعها ليست مقتصرة على فئة عمرية أو جنس أو جنسيّة أو غيرها من المعايير، فقد ورد في نفس التقرير أنّ القصّر يمثّلون نسبة تقارب 20 % من جملة المهاجرين التونسيين الواصلين إلى السواحل الإيطالية خلال الثلاثية الأولى، وعددهم 1082.
وأنا أمتطي وسيلة نقل جماعيّة، لفتت نظري مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشر والسادسة عشر تقريبا، يحدّقون فيمن حولهم بكلّ حذر ويحملون حقائب ظهر.
خلت في البداية أنّهم ذاهبون لممارسة نشاط رياضي بالضاحية الشماليّة للعاصمة التونسية لكن تبيّن لي لاحقا أنّهم يحاولون الاختباء داخل حاويات البضائع بالميناء لعلّ الحظّ يبتسم لهم ويجدون أنفسهم في مدينة أوروبية.
حرّكني الفضول للحديث مع أحدهم، أحمد (اسم مستعار)، الّذي انقطع عن الدراسة منذ سنتين بسبب صعوبة الأوضاع الاجتماعية فقد توفيّ الأب، وقد كان العائل الوحيد رغم ضعف مدخوله، واضطرّ إلى دخول سوق الشغل مبكّرا.
حاولت إثناءه عن المغادرة نظرا لما يمكن أن يحدث خلال الرحلة من اختناق وغرق او ما شابه فأجابني ساخرا: ” وما الذي يدفعني لأن أبقى هنا؟ الاستغلال والإهانة التي أتعرّض لها يوميّا من طرف مشغّلي؟ أم الأجر المرتفع الذي أتقاضاه؟”.
استرسل في الكلام متحمّسا ” هل تستطيع العيش بأجر لا يتجاوز مائتي دينار شهريّا؟”
قاطعني قبل أن أجيب “طبعا لا. نحن نريد أن ننعم بوضعية أفضل، نحن لا نكره البلد، نحن كرهنا أوضاعنا. نريد أن نرتدي ملابس فخمة، نريد أن نرفّه عن أنفسنا، نريد أن نشتري منزلا لائقا لعائلاتنا. ألا يحقّ لنا نحلم؟”
أمام قسوة المشهد، اكتفيت برجاء التوفيق لهم في مسيرتهم الحياتيّة..
ليست هذه المرّة الأولى التي يحاولون فيها مغادرة الوطن بتلك الطريقة وربّما لا تكون الأخيرة. فقد روى لي سائق السيّارة أنّهم على هذه الحال منذ أشهر عديدة آملين أن يُفتَح الطريق أمامهم يوما ما.
على الضفّة المقابلة (الضاحية الجنوبيّة)، التقيت بأبي بكر (اسم مستعار)، وهو شاب يحمل جنسيّة إحدى دول أفريقيا جنوب الصحراء ويقيم بتونس منذ سنة 2017 قادما إليها من ليبيا هربا من آلة الحرب التدميريّة.
استبشر خيرا عند اجتيازه الأراضي الليبية لكن فرحته لم تدم طويلا فقد وجد نفسه محاصرا بين المواقف العنصرية الذي يتعرّض لها بشكل شبه يومي وبين الاستغلال الذي يواجهه في العمل. انقطعت به السبل حتّى أنّه وجد نفسه على قارعة الطريق بعد أن طرده صاحب المطعم وعجز عن سداد نفقات الكراء.
منذ ذلك الوقت، قرّر بصفة لا رجعة في خوض تجربة الهجرة غير النظاميّة نحو السواحل الإيطالية.
” هربت من جحيم لأجد نفسي في جحيم آخر وربّما سأغادر قريبا نحو مصير مجهول أو ربّما نحو جحيم آخر.”
لم أرغب أن أسأله أكثر، هدّأت من روعه ورجوت له مستقبلا أفضل.
أبوبكر ليس استثناء، فقوارب الموت أو الخلاص تحمل يوميّا عشرات المهاجرين من جنسيّات أفريقية (دول جنوب الصحراء)، يفوق عددهم حتّى عدد التونسيّين، إذ لا تتجاوز نسبة التونسيين الواصلين إلى إيطاليا إلى حدود شهر مارس من هذا العام 15%. ورغم أنّ حظوظ فشل الرحلة تفوق بكثير حظوظ نجاحها، يصرّ هؤلاء المغامرون على خوضها أملا في حياة أفضل لا يتصوّرون أنّه من الممكن أن يحظوا بها في بلدانهم.
صدر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثالث، ماي 2021، ص. 3.
لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf3