عندما تعرفت على الفوشيا
|بقلم: السمّاح عبد الله
في بداية الأمر كنت أظن أن الفوشيا اسم لأكلة ما، مثل الاستاكوزا أو الكافيار، خاصة أن الشاعر الصديق “حلمي سالم” كان له قصيدة اسمها الفوشيا، تنتهي بـ:
هو همس المرأة للرجل تعال
وهمس الرجل إلى المرأة آت.
كنت معجبا بهذه القصيدة، وهو كان يحب أن يسمعها بصوتي معلقا:
المنشدون من الشعراء في هذا العصر ثلاثة: “أحمد عبد المعطي حجازي” و “حلمي سالم” و “السمّاح عبد الله”، ويعقب قائلا :
وقد قرأت أنا شعري، وقرأته أنت، وأتمنى أن أسمعه بصوت “أحمد عبد المعطي حجازي”.
ربما لم يسمع “حلمي سالم” “أحمد عبد المعطي حجازي” يقرأ له شعرا، لكنني سمعته في بيت الشعر عندما أقمنا أمسية لتأبينه.
مرة قلت لـ “حلمي سالم”:
وما هو الفوشيا؟
ضحك، ونظر حوله بعض الشيء، ثم أشار إلى إحدى الصديقات وقال لي:
هل ترى الفستان الذي ترتديه؟ هذا هو الفوشيا.
ذهبت إليها لأسلم عليها وأتعرف عن قرب على الفوشيا، وأثناء السلام كنت أتأمل فستانها، فوجدته قصيرا فوق الركبة، ومقورا من ناحية الظهر وكَتّا أي بلا أكمام.
منذ هذا الوقت وأنا أتعامل مع الفوشيا على اعتبار أنه “قصة فستان”، وكنت كلما رأيت امرأة ترتدي فستانا قصيرا ومقورا من الظهر وبلا أكمام، أقول إنه الفوشيا، وأردد نهاية قصيدة “حلمي سالم” التي أصبح لها مدلول معرفي جديد يتناسب مع التقوير الخلفي الذي يتيح لشعر الفتاة أن يغطي ما عرّاه الفستان، ويمنح لذراعيها كليهما حرية أن يتحركا بعفوية ودلال، ويظهر فتنة ركبتيها وانسيابيتهما، ساعتها إذا ما همست لأي رجل بكلمة “تعال”، فلا بد وحتما من أن يترك كل ما في يديه، ويكون رده الفوري:
آت.
حتى حدث أن قابلت إحدى زميلاتي في العمل، كانت محجبة وشديدة الالتزام، ، فقلت لها:
إن نسوة الهيئة المصرية العامة للكتاب كن في النصف الأول من الثمانينيات مختلفات تماما عنهن هذه الأيام، كن يضعن البرفانات التي تضوع المكان كله من مدخل الهيئة وحتى كراسي الموظفين في الممرات المختلفة للمبنى، وكن يلبسن الأحذية ذات الكعب العالي ويخطرن على بلاط الردهات، فيُسمعُ وقع أقدامهن من بداية الطرقة حتى دخول المكتب، الآن يرتدين الكوتشيات التي لا صوت لها على الإطلاق، ويفاجأ الواحد منا بدخولهن عليه كالقضاء المستعجل دون تمهيد سمعي لطرقات الكعوب، أو أنفي لهجمة الروائح العطرة.
ثم أسندت مرفقيّ على المكتب، وواصلت كلامي:
كما أنهن كن يرتدين الفساتين الفوشيا بألواناتها المختلفة، التي تجعل الموظفين يوظفون كل طاقاتهم للإنتاج والعمل، ويظلون ملتصقين بكراسي المكاتب حتى بعد انتهاء مواعيد العمل الرسمية.
ردت علي بكل هدوء:
أنا أرتدي الفوشيا كثيرا، وسعاد ومنى وليلى، بالإضافة إلى زينب وهياتم وعدلية، ناهيك عن حسنية ونرمين وسامية، كلهن يفعلن ذلك وليس الأمر مقصورا على النصف الأول من الثمانينيات.
هذا الرد الواثق الهاديء لخبط لي الأمور كلها، وأعادني إلى نقطة الصفر فيما يتعلق بعلاقتي بالفوشيا، كما أن الفضاء الإبداعي للمدلول الجمالي لنهاية قصيدة “حلمي سالم”، صار مرتبكا لأقصى درجات الارتباك، وعاد الفوشيا يمثل لي لغزا مستعصيا بعد أن اطمأننت إلى معرفتي به وبنيت تكويناتي للمعطيات المعيشة حولي عليه.
مرة وأنا في مكتبي بمجلة “القاهرة”، وكنت منهمكا في إلقاء نظرة على بروفات العدد الجديد منها، والتي خصصنا ملفها الرئيسي عن “حرية الكاتب” وبينما كنت أكتب بعض الملاحظات على هامش المقالات وأناقش الصديق “فتحي عبد الله” زميلي في المجلة حول أهمية توحيد بنط المقالات كلها، دخلت علىّ صديقتي الشاعرة الجديدة التي تهتم كثيرا بأخذ رأيي فيما تكتب، وتأتي من آخر بلاد المسلمين لتسمعني ما كتبته، ولا تهتم على الإطلاق بتنفيذ ما أنصحها به من أهمية القراءة والاهتمام بشكلانية الكتابة، كانت ترتدي بلوزة فاقع لونها وإن كان مريحا للعين، لاحظت أنني أبحلق كثيرا في البلوزة، فقالت:
هل أعجبتك؟
قلت لها:
بصرف النظر عن فكرة الإعجاب من عدمه، فإنني لأول مرة أكتشف أن الأحمر يمشي مع البمبة.
ضحكت ضحكة عالية، وأمسكت بكم بلوزتها وقالت:
هذه البلوزة ليست حمراء على الإطلاق، إنها فوشيا.
ثم خبطت على ركبتها بظهر أصابع يدها وهو تواصل كلامها:
كما أن الجيبة ليست بمبة، إنها سيمون.
الذي أعرفه ويعرفه كل أبناء جيلي أن سيمون هو اسم امرأة، والذين كانوا يدرسون لنا في مدرسة فاطمة الزهراء الابتدائية في سوهاج، كانوا يؤكدون لنا بكل ما أوتوا من يقين معرفي وتربوي أن الألوان سبعة، هي ألوان الطيف التي يعكسها قوس قزح، وكانوا يفرقون تماما بين أسماء الألوان وأسماء السيدات، اللواتي كن – في ذلك الحين – يقلن عن الأحمر أحمر وعن البرتقالي برتقالي وعن الأزرق أزرق، وإذا ما شطح بإحداهن الخيال بعض الشيء، وقليلا ما كان يشطح، فقد كن يقلن عن الأزرق الذي ليس هو بالأزرق الصريح نيلي أو سماوي، قلبت صفحات بروفات المجلة، وكتبت على أعلى الصفحة الأولى التأشيرة المحفوظة:
“يطبع بعد تصويب الأخطاء”
وأضفت ملحوظة شديدة الأهمية:
“يرجى عرض ملزمة الألوان علينا فور الانتهاء من طباعتها”.
ووقعت، وأغلقت القلم.
أسندت ظهري إلى مسند المقعد، ونظرت إلى صديقتي الشاعرة الجديدة التي تخطيء كثيرا في النحو وتستعجل الشهرة والنشر والاشتراك في الندوات، وقلت لها:
أقترح عليك أن تهتمي بشياكتك واختيار ألوان ملابسك وتغيري البرفان الذي تضعينه، ساعتها سيقع في هواك أحد ما، ويتقدم للزواج منك، بعدها ستنخرطين في الحياة الزوجية والحمل والولادة وتربية الأطفال، وتنسين تماما الشعر والنحو، وترتاحين من هذا الهم الكبير الذي لايُؤكّل عيشا ولا يُشَرِّبُ ماء.
بعد انصرافها غضبانة مني، دخلت للدكتور “غالي شكري”، رئيس تحرير القاهرة، وأثناء كلامه معي عن خطة العدد القادم، قلت له بجدية تامة:
قل لي يا دكتور، ما هو الفارق الجوهري بين الفوشيا والسيمون؟
الدكتور غالي شكري بطبيعته شديد العقلانية، ويحب أن يكون كلامه واضحا ومباشرا، فلخص لي الأمر في جملة صغيرة:
شف يا السمّاح، الفوشيا فوشيا، أما السيمون فسيمون.
شكرته على إفادته العميقة، وعقبت وأنا أغادر الغرفة متوجها إلى المكتب الفني بسطوح هيئة الكتاب، لتسليم البروفات النهائية لعدد “حرية الكاتب”:
أفادكم الله.
قلت للحاج “صبري عبد الواحد”، المشرف الفني على الإخراج الطباعي للمجلة:
من المهم جدا يا حاج “صبري” تجديد الإيقاع البصري للمجلة، فلماذا – مثلا – لا نستفيد بألوان الفوشيا والسيمون في أرضية ملزمة الألوان؟
هو من ناحيته لم يكذب خبرا، وأخرج من درج مكتبه دفترا به مئات القصاصات، كل قصاصة لها لون مغاير، وفردها أمامي قائلا:
اختر اللون الذي ترتضيه.
هالني كم الألوان المبالغ فيه، فسألته صادقا:
كل هذه ألوان؟!
قال:
وهناك دفاتر أخرى بها ألوان مختلفة، أنا أتيت لك فقط بالألوان القريبة من الفوشيا والسيمون لتختار منها.
قلت له:
ومدرسو مدرسة فاطمة الزهراء الابتدائية بسوهاج، ماذا أفعل معهم؟
قال:
هل أشاروا عليك بألوان غير موجودة معي؟
أجبته وأنا أغادر:
نعم، أشاروا علي بأشياء شديدة الغرائبية، منهم لله.
في الليل، عدت لقصيدة “حلمي سالم”، وقرأتها من ألفها ليائها، كانت كل الحقول الدلالية ذات إيحاءات فوشيوية عميقة، بينما كان الفضاء الإبداعي كله سيمونيا خالصا.