هي حياتنا…كذبتنا الكبيرة…(1)

 هم الأغنياء …يستبطئون الموت..لأنهم مستمتعون بالحياة..ببهرجتها ..ببريق واجهتها المغري…بكنوز من وهم..

وهم الفقراء..يستعجلون الموت..لأنهم ينتظرون فردوسا سماويا يعوضهم عن حرمانهم  في الدنيا…ونحن الجالسون هاهنا على قمة الألم..نخيط أثوابا من الأمل ..نحن الذين لا نعرف من نحن.. إلى أي الطبقات ننتمي ..إلى المستبطئين للموت أو المستعجلين له..نحن..معشر الشعراء والفنانين ومرهفي الحس..نلمس الأشياء بروحنا فلا معنى لحواسنا الست الأخرى..نربي الروح..نطور الروح…كما لو كنا شخصان في جسد.. ..نعاملها كما لو كنا أما وهي طفلتها ..ندللها..ننميها..نحضنها بعنف وشوق..نخاف عليها من السقوط إلى  العالم المادي المصطنع …نعلمها كيف تستنشق الشعر ملء صدرها و كيف تستمع بتأن وذوق لصوت الريح و عزف المطر وتساقط الثلج..وكيف تكون على اتصال تام مع ملكوت الله…نحن الطبقة الميتافيزيقية الهوائية المائية المشكوك في هويتها وجنسيتها و تركيبتها الملا-بشرية.. كما سميتها …

صحيح أننا مختلفون… أجسادنا مختلفة..أحلامنا ..أفكارنا ..ميولاتنا ..طبائعنا ..طريقة عيشنا..مستوياتنا المادية ومكاناتنا الإجتماعية ..منا من هو مشهور..ومنا من شهر به..ومنا المحظوظ ومنا من غفل عنه الحظ..منا من يبتسم كل يوم ومنا من لا يبتسم إلا في المناسبات والأعياد ..منا من يعيش بحلم ومنا من يعيش ببقاياه..منا من يجرح ومنا من يعيش بجرحه ..منا من يبكي كثيرا.. ومنا من يعتبر البكاء علنا نوعا من الضعف ..فينتحب بينه و بين نفسه..منا من يظهر شدة التدين ومنا من لا يظهر تدينه لكنه يعيش بإيمان خفي وتواصل ذاتي مع الخالق تعالى..منا الخجول المتستر المتخفي المتواري عن ألأنظار ومنا المتجول في العالم بثقة رافعا صوته كأنه في بيت ابيه…

في هذا العالم الصغير نتدافع ..نتنافس ..لا نفكر في اختلافنا على أنه تكامل و دافع للإتصال والتواصل والتحاور ..بل على أنه يمنح أفضلية للبعض و  تغييبا و احتقارا للبعض الاخر…نركض بغير هوادة..نعدو ونسابق الريح..نفكر باستمرار..تكاد جماجمنا تحترق من فرط التفكير..نتصارع على الدوام.. نحوز ما تمكن من الأشياء ..نتوسع بقدر الإمكان في مساحة الدنيا و نفتك الباقي ..ولو كانت لنا أسلحة تولد معنا ملتصقة بعضو من أعضائنا لما ترددنا لحظة في استعمالها للإستحواذ على كل ما في الوجود..لا نرضى بمنزل واحد .. إن حصلنا على واحد فلا بد من بناء الثاني ..لا نرضى بسيارة واحدة …لابد من استنزاف القوى لتوفير سيارتين ..واحدة للزوج و الأخرى للزوجة ولما لا سيارة ثالثة للأولاد…لا نرضى بامرأة واحدة…نعم يا رجال العالم ولئن عارضتموني قولا فأنتم توافقونني تفكيرا وهذا ما تضمرونه سرا ولا  تتفوهون به علنا تفاديا للمشاكل…لا ترضون بامرأة واحدة ..لا بد من أمرأة نحبها ونعشقها و أمرأة نتزوجها لتقوم بواجباتها قبل التفكير بحقوقها ..نحن لا نرضى بشخص واحد يدخل حياتنا فيحتلنا من رأسنا حتى أخمص القدمين…نريد قلبا نحبه ويحبنا وقلبا يحبنا ونجرحه ..في الحقيقة ..نحن معشر البشر .. لا نرضى بشيء..القناعة والرضا مصطلحان غريبان عنا ولا يمتان الينا بصلة ….نحن نعيش على التقليد الأعمى…نضع أنفسنا في مقارنات لا تنتهي …نحارب من أجل البقاء..من اجل الاستمرارية …من أجل الخلود…

بقاء…استمرارية…خلود..؟؟؟؟؟  يا للعار ..يا لغباء الانسان حين يتناسى الحقيقة القابعة بترصد ترمقه باستهزاء وسخرية..الحقيقة الوحيدة التي لا نقاش فيها..تلك التي تذكرنا بخيبتنا الكبيرة ..بكذبة كبيرة نصدقها حين تنتهي ..هذه الحقيقة هي الموت..وهذه الكذبة الكبيرة ..هي حياتنا …بالله عليكم على ماذا تتصارعون ؟؟؟ على ماذا تتهافتون ؟؟؟  سيموت كلكم في نهاية الرحلة و سيسدل الستار مرة واحدة ويقتات من جسدكم التراب و تنظف بقاياه المطر  و ستنسون وتغيبون عن الذاكرة  كأنكم لم تكونوا…

فكرة الموت هذه ..تعذبني ..تشككني في كل ما يحيط بي ..تعبث بمخيلتي ..تتلاعب بي ..والأخطر من كل هذا هو أنها تسكنني …لكني سعيدة نوعا ما.. أنا اذكره وأتذكره ..انا متحضرة نفسيا إذن ..جاهزة لأن يحملني الموت الى الضفة الاخرى من العدم…إلا أنني أتساءل …ما بالي أتحدث عن التحضر النفسي للموت ..فماذا لو فاجأني الآن وأنا بصدد الكتابة؟؟؟…أ سيعود لإحساسي أي معنى يذكر ؟؟؟ أ سيعود لتحضري النفسي و التربية المحكمة التي تلقيتها و المؤسسة على دراسات متنوعة وعلى فلسفات ونظريات أنثروبولوجية وأنطولوجية وغيرها من معنى ؟؟؟؟؟  مالفرق بين المتحضر نفسيا  للموت واللامتحضر له ؟؟ ألا يتساوى كل شيء أمام الموت ؟؟؟ ألا تندثر كل الصور الحياتية الموهومة  مرة واحدة كأنها لم توجد من قبل ؟؟

يقول بعضكم ..ما بالها تتحدث عن الغيب؟؟ ما بالها تقحم نفسها في مواضيع لا يعلمها الا الله ؟؟؟

أسمع أصواتا خفية تهمس في الوجه الأخر من الحلم… إنها على حق…الموت مغامرة مخيفة…تجربة مظلمة معتمة  لا رائحة ولا طعم ولا لون لها..أ عاد اليكم ميت واحد ليخبركم عما شاهده بعد موته؟؟؟…أعاد ميت واحد ليخبركم ماذا أحس بالضبط في تلك اللحظة الدقيقة المفصلية الفاصلة بين الشهقة الاخيرة والميتة الأزلية ؟؟؟؟  أ عاد ميت واحد ليخبركم ماذا حدث بعد تلك اللحظة المفصلية..المخيفة المرعبة المرهبة  ليخبركم أين ذهب بروحه؟؟؟ .. أي حصان هوائي امتطت روحه والى أي مجهول أخذها ..؟؟  أ عاد ميت واحد ليسألكم لماذا تنزعون عنه ثيابه حين يموت.. .؟؟؟  أليس للموت احترامه ؟؟ و أكثر من ذلك ثبوته الوجودي و سيادته ؟؟ أعاد اليكم ميت واحد ليوصيكم في حلمكم او في يقضتكم عن شيء أو شخص بغض النظر عن بعض الحماقات التي يدعيها البعض في أن ميتا ما  كلمه في الحلم…

الموت إذن…يتناسانا لبرهة …يتركنا لأحلامنا فترة..نخطط بسعادة..نرسم مشاريعنا بنشوة و حماس …نتوهم وجود حقيقة مقنعة تنتظرنا في الأفق ..نستمع الى الأبراج اليومية لنعزز  أملنا في البقاء .. يتناسانا الموت ليعطينا فرصة لننساه …لنرتاح من ذكراه المهددة لسلامتنا الوجودية والتي تهز فينا الطمأنينة والأمل …يجيد حبك القصة إذن ويحكم صنع اللعبة لتكون غبطته مضاعفة وهو يراقب لوعتنا وعجزنا الفادح … كم نحن عاجزون أمام الموت…الموت يفضحنا ..يعرينا ..يجعل منا مجموعة من الدمى يحرك خيوطها كما يشاء ونطلق ضحكاته مدوية في الفضاء كلما انقطع الحبل وسقطت إحدى الدمى ارضا…

تعال الآن يا صديقيى  الغني ..حاول أن تهب كل أموالك وكنوزك الموهومة إلى سيدك الموت  عله يمنحك ولادة جديدة و يسطر لك حياة اخرى … أ نفعتك أموالك الآن ؟؟؟؟ ستعرى الن تماما كما سيعرى أخوك الفقير الى ربه الواقف الى جانبك وأختكما المشكوك في هويتها وجنسيتها الكاتبة لهذا المقال..سنعرى جميعنا وسيغسل عجزنا بعض البشر الزائلون أيضا و ستوارى أجسادنا المتعبة المنهكة التراب …

(يتبع)

Please follow and like us:
8 Comments

اترك رد

Verified by MonsterInsights